حسن خضر
(فلسطين)

محمود درويش

( 1 )

لا أزعمُ بأنني أعرف الكثير عن جمهور الشعر في أوروبا. ولكن يمكنني الكلام عن العالم العربي، وبقدر أكبر من الثقة عن جمهور محمود درويش. كان عدد الحاضرين في أمسياته يعدُ بالآلاف. وكانت أمسياته تُعتبر أحداثا ثقافية مهمة في العواصم العربية، تغطيها كبريات الصحف، وقنوات التلفزيون. وفي السنوات الأخيرة، عندما انتشرت الفضائيات على نطاق واسع، كانت الأمسيات تُنقل بالبث التلفزيوني الحي والمباشر إلى أعداد يصعب حصرها من المشاهدين في العالم العربي.
وقد حضرت بنفسي بعض تلك الأمسيات في عواصم عربية مختلفة، ورأيتُ كيف يضع المنظمون مكبرات للصوت في الخارج، لتمكين من لم يحالفهم الحظ بالحصول على مقعد في القاعة بالاستماع إلى الصوت في الخارج.
كيف نفسّر هذه الظاهرة. وما السر في حياة وشعر محمود درويش. كثيرا ما طُرحتْ عليه أسئلة تشبه هذا السؤال، في مقابلات مرئية ومكتوبة. وكان جوابه دائما: سري أنني بلا أسرار.
وقد صاغ هذا الجواب في قصيدة من آخر ما كتب بعنوان "لاعب النرد"، قرأها في أمسيته الأخيرة في رام الله، أي قبل رحيله بخمسة أسابيع. وهي سيرة ذاتية تتكوّن من اعترافات متلاحقة يبوح بها شخص يعرف بأنه لم يعد يملك الكثير من الوقت.
وأنا أعتبر نفسي محظوظا لأن سنوات طويلة من الصداقة، والعمل مع محمود درويش، تمكنني من ربط التداعيات الأوتوبيوغرافية بحكايات سمعتها منه، وبملاحظات تراكمت مع مرور الوقت. وأعتقد بأنه حاول في هذه القصيدة تفسير السر.
الوقت المُتاح في هذه المداخلة لا يسمح بإيراد مقاطع طويلة من القصيدة. وقد تُرجمت، على أية حال، إلى اللغة الألمانية، من جانب عادل قرشولي، وهو شاعر متمكن في اللغتين العربية والألمانية، ونشرت، هنا، في إحدى المجلات الأدبية.

( 2 )

"لاعب النرد" عنوان القصيدة. يمكن، طبعا، أن نقرأ العنوان بطريقة مجازية. وهذا أمر ضروري. ويمكن أن نقرأه بطريقة حرفية، أيضا. فقد كان محمود درويش مولعا بلعب النرد، خاصة في السنوات الأخيرة، وكانت تغمره سعادة حقيقية عندما ينهمك في اللعبة، ويحاول الفوز، فيحرّك حجارة النرد في يده، كمن يضع فيها تعويذة خاصة، لإقناع النرد بالتحالف معه لاستدراج الحظ إلى الطاولة.
ولا شك في أنه استوحى العنوان، من تلك الأجواء، إضافة إلى أن كل تفصيل من التفاصيل البيوغرافية في النص يشبه رمية للنرد يلعبها القدر، فتتجلى في صدفة من نوع ما غيّرت حياته، أو أضفت عليها الخصوصية. وهي خصوصية ستصبح مفهومة، فقط، عندما يراها السارد في النص من شرفة النهاية لا من شرفة المحطة الأولى في رحلة الحياة.
وهو إذ ينظر إليها تتجلى في نصه تلك العلامات التي اعتبرها إدوارد سعيد من سمات ما يدعوه بالأسلوب الأخير، أي النصوص التي يكتبها الكتّاب بعدما يتأكد لهم أن النهاية أصبحت وشيكة. هذه العلامات هي الإحساس بالعزلة، وحس الفكاهة، والمفارقة، والمنفى.
اختتم محمود درويش "لاعب النرد" بجملة تقول: "من أنا لأخيّب ظن العدم؟". ولم يتمكّن نقّاد كثيرون من عدم استعادة جملة تنقضها جاءت في قصيدة طويلة ذائعة الصيت بعنوان "الجدارية" كتبها بعد نجاته من عملية جراحية في القلب قبل عشرة أعوام، وجاء فيها "هزمتك يا موت الفنون". فاستنتجوا أن الشاعر في قصيدته الأخيرة أعلن اليأس، واعترف باستحالة مجابهة الموت.
وهذا الاستنتاج خاطئ لأنه لم يتكلّم عن الموت بل عن العدم. فهو يعرف بأن للنصوص حياة خاصة، وهي تستمر بعد أصحابها، لكن الكينونة بالمعنى الفيزيائي مرشحة للعدم، ولا أحد يمكنه التحايل على ما هو عكس الوجود، حتى وإن أغواه حلم فاوست وطموحه.
وفي ظل كينونة مرشحة لعدم لم يعد من الممكن تأجيله، حتى عن طريق صدفة غير متوّقعة، لا يستعيد محمود درويش في النص المفارقات الصغيرة، والمصادفات الكثيرة في حياته، في ظل ما يشبه النشيد الجنائزي، بل ينظر إليها بقدر كبير من حس الفكاهة كأنها تخص شخصا آخر.

( 3 )

المصائر الفردية في "لاعب النرد" محكومة بقوانين صارمة، كالجينات، مثلا. لكنها وليدة مصادفات من نوع آخر. وهي مصادفات غير ميتافيزيقية، ولا تحيل إلى ما هو أبعد من مدارك الإنسان. ومع ذلك يمكننا التكلّم عنها، رغم كونها عبثية وغير مبررة في حالات كثيرة، باعتبارها محكومة بقوانين صارمة، وإن كانت غامضة ومجرّدة ومعقدة.
يتكلّم محمود درويش في مطلع القصيدة عمّا ورثه من العائلة، فيعدد ست صفات من بينها أمراض القلب. وهي حقيقة يعرفها كل من عرفه عن قرب. فإلى جانب معاناته الخاصة مع أمراض القلب، عانى اثنان من أخوته من مشاكل في القلب. ويبدو أن المشكلة جينية بالفعل. أما المصادفات الأخرى، فتتعلّق بما يحدث للفرد، الذي يجد نفسه، فجأة، ضحية تحوّلات تاريخية، غالبا ما تصنع المصائر الفردية، بطريقة لا تنسجم بالضرورة مع ما يريده في الأحوال العادية.
وبقدر ما يتعلّق الأمر بالطفل الذي كان في السابعة من عمره في العام 1948، فإن ما حدث آنذاك يمثل اللحظة التي تغيّرت فيها حياته مرّة واحدة وإلى الأبد. ففي ذلك العام، وجد نفسه كما حدث لمئات الآلاف من الفلسطينيين مطاردا ومطرودا من بلاده لأسباب لم يشارك في صنعها، ولم يكن في عالمه ما يمكنه من فهمها أو تبريرها.
يمكن الكلام عن تلك اللحظة باعتبارها مصادفة العيش في مكان يعاني من نعمة التاريخ ونقمته. وهنا ربما يصح الكلام عن جينات تاريخية. نعمة تجلت في ميلاد ديانات وأساطير غيّرت وجه العالم. ونقمة تجلت في تحويل المكان نفسه إلى جغرافيا للهوس القيامي، وأيديولوجيا الخلاص، وإلى نقطة تماس ما بين الشرق والغرب. ربما لو وُلد في مكان آخر لعاش بطريقة مغايرة:
"لو أَن ذاك المكان الزراعيَّ لم ينكسر رُبَّما صرتُ زيتونة
أو مُعَلِّم جغرافيا أو خبيراً بمملكة النمل أو حارساً للصدى !"
"ولستُ سوى رمية النرد ما بين مُفْتَرِسٍ وفريسةْ
ربحت مزيداً من الصحو لا لأكون سعيداً بليلتيَ المقمرةْ
بل لكي أَشهد المجزرةْ".

( 4 )

في ذلك العام اكتشف ابن السابعة معنى الحرب، والطرد، والمطاردة، وحياة اللاجئ، عندما تسلل مع أسرته في جنح الليل من الجليل إلى جنوب لبنان. وبعد عام عندما أنفقت الأسرة ما لديها من مدخرات تسللت عائدة إلى الجليل، ليصبح أفرادها في عداد الحاضرين الغائبين.
تعبير الحاضر الغائب ليس صيغة مجازية، بل صيغة قانونية ابتكرتها الدولة الإسرائيلية، آنذاك، وطبقتها على عشرات الآلاف من الفلسطينيين، الذين تصادف وجودهم بعد انتهاء العمليات العسكرية في العام 1948 بعيدا عن أماكن سكناهم الأصلية. فهم حاضرون بالمعنى المادي، وغائبون في نظر القانون. وبناء عليه صودرت بيوتهم وأملاكهم، وتحوّلوا إلى لاجئين في بلادهم.
لذلك، لم يعد محمود درويش إلى البيت والقرية الأولى، بل عاش في قرية مجاورة. كان جده يراقب أرضه في القرية، وقد أصبح محروما منها، كما حرّم في وقت لاحق من اسمه أيضا. فعندما سمحت سلطات الحكم العسكري بإصدار بطاقات هوية للحاضرين الغائبين، ارتكب أحد الموظفين خطأ مطبعيا، فتحوّل اسمه من حسين إلى حسن. وهكذا عاش بقية عمره محروما من البيت والحقل والقرية، ومن اسمه الشخصي أيضا.
تجربة الخروج من الجليل في العام 1948، وحياة اللاجئ في الوطن وخارجه، هي الحدث الأهم في حياة محمود درويش. وهي نقطة الارتكاز في "لاعب النرد".
وفي مقطع تتلاحق فيه الصور، ويوّظف فيه كل مهاراته البلاغية، يحاول القبض على لحظة الخروج من الجليل، كما عاشها طفل في السابعة، عبر تداعيات قصيرة وسريعة، تحاول إعادة بناء المشهد القديم بقدر ما تتيح اللغة من الإيجاز، وما تستعيد من شظايا عالم تبعثر:
أَمشي أهرولُ أركضُ أصعدُ أنزلُ أصرخُ
أَنبحُ أعوي أنادي أولولُ أسرعُ أبطئ أهوي
أخفُّ أجفُّ أسيرُ أطيرُ أرى لا أرى أتعثَّرُ
أَصفرُّ أخضرُّ أزرقُّ أنشقُّ أجهشُ أعطشُ
أتعبُ أسغَبُ أسقطُ أنهضُ أركضُ أنسى
أرى لا أرى أتذكَُّر أَسمعُ أبصرُ أهذي
أُهَلْوِس أهمسُ أصرخُ لا أستطيع أَئنُّ أجنّ
أَضلّ أقلُّ وأكثرُ أسقط أعلو وأهبط أدْمَى
ويغمى عليّ.

( 5 )

تلك التجربة حدت تكويني، لكنها لا تكفي لميلاد شاعر، وإن كانت تكفي لتغيير حياة إنسان مرّة واحدة وإلى الأبد. فقد ولد الشاعر في لحظة لاحقة عندما قرأ ذات يوم في الصف الأخير من المدرسة الابتدائية "قصيدة" في حفلة مدرسية بمناسبة قيام الدولة، مطالبا بالعدل والمساواة. في اليوم التالي استدعاه الحاكم العسكري، وصفعه على وجهه، وهدده بحرمان والده من العمل. يومها اكتشف الطفل أن الشعر ليس بريئا، وأن في اللغة ما يمكنه من الدفاع عن الماضي والحاضر معا.
وأعتقد أن في الحادثتين ما يفسّر معنى السر في حياة محمود درويش. فقد كان عليه، وهو الفلسطيني، وقد أصبح شاعرا أن يروي ما حدث. وهذا ما فعله حتى اليوم الأخير في حياته. فمن يروي الحكاية كما كتب ذات يوم "يرث أرصها".
ولكن كان على الشاعر، وقد اختار فلسطينيته كهوية ومصير، أن يروي ما حدث بطريقة يرتفع فيها الصراع على أرض صغيرة إلى مجاز كوني، مستعيدا المآسي الإغريقية، وتاريخ الهنود الحمر، وحلم الإنسان على مدار التاريخ بالحرية.
وفي مجاز كهذا، يتحوّل العدو نفسه إلى ضحية، وتتابع الطبيعة أشغالها اليومية، فتدور الفصول، ويغطي العشب ما تركته الحروب من ندوب في جسد الأرض، ويأخذنا الحب إلى الجنة، ويطردنا منها، ولا يكف التاريخ عن ممارسة السخرية وخلط الأوراق.
كل ما كتبه محمود درويش سيرة ذاتية لشخص يرى في فلسطين مجازا كونيا. ولعل في هذا المجاز، بالذات، ما أضفى على صوته الفردي الخاص صفة النشيد الجماعي، وما مكّن أعدادا يصعب حصرها من الناس على مدى أربعة عقود من الزمن من التماهي مع مفردات وأخيلة كثيرة في هذا النشيد. ولعل فيه، أيضا، ما يفسّر ذلك السر. أما هو فيقول:
"ولستُ سوى رمية النرد ما بين مُفْتَرِسٍ وفريسةْ
ربحت مزيداً من الصحو لا لأكون سعيداً بليلتيَ المقمرةْ
بل لكي أَشهد المجزرةْ".

نص مداخلة في ندوة خاصة عن محمود درويش نظمها معهد الدراسات العليا (Wissenschaftskolleg) في برلين يوم الثلاثاء الماضي.

عن كيكا


أقرأ أيضاً: