اقترنت الأطلال منذ كانت تعبيرا أصيلا عن الفراق وما ألحقه الزمن بالأمكنة حتى أصبحت تقليدا شعريا بكل ما هو حسّي، سواء كان بعر آرام أو أثافي لمواقد يغمرها الرماد.
رغم أن اللحظة الطللية في جوهرها زمانية وتعبير عن نوستالجيا لما مضى ولن يعود، وأول من لفت انتباهي إلى فهم مغاير للأطلال هو إبراهيم ناجي في قصيدته الشهيرة التي غنتها أم كلثوم والتي استبدلت بحساسيتها الصوتية والوجدانية عبارة رحم الله الهوى بعبارة لا تَسلْ أين الهوى، كما فعلت بقصيدة أبي فراس الحمداني عندما استبدلت بلى بنعم.
قدم إبراهيم ناجي لقصيدته نثرا بقوله إنها حكاية عاشقين انتهى أحدهما إلى أطلال جسد والآخر إلى أطلال روح.. وفي الحالتين ثمة استخدام مفارق لمفردة الأطلال بمدلولها الماديّ والحسّي. فهل ينتهي الجسد البشري في شيخوخته إلى أطلال؟ وما هي هذه الأطلال، هل هي ما وصفته بنيلوب من جسد عوليس عندما عاد كما صورها ريتسوس مفارقا كل الاستخدامات السابقة لهذه الأسطورة، أم هي تعبير هاردي عن الغمد الذي يبلى فيما يبقى السيف على مضائه، وهو يقصد بالغمد الجسد وبالسيف الروح أو الجوهر.
نعرف أن أبا نؤاس سخر من المقدمات الطللية حين قال ما ضرّ الواقف الباكي عليها لو أنه جلس؟ وبعده بقرون قال الشاعر قاسم حداد قفا نضحك مفارقا العبارة التقليديدة المتوارثة وهي قفا نبكي.
الطلل الجسدي ليس مجرد شيخوخة عضوية، إنه بطالة جسدية تؤدي إلى ضمور الأعضاء كما قال داروين، وهناك تجربة جديرة بالاستدعاء في هذا السياق، هي ما كتبه الروائي والباحث الطاهر بن جلّون في أطروحته عن ذروة العزلات، وثبت بالفعل أن هناك نماذج بشرية من المهاجرين إلى فرنسا والعالقين في هوامشها أصيبوا بهذا الضمور.
وإذا كانت أطلال العمران هي بفعل الهجران وعوامل التعرية في الطبيعة، فإن أطلال الجسد لها فيزياء أخرى وعوامل تعرية قد لا ترى بالعين المجردة، وهنا نتذكر ما أشار إليه بعض نقادنا القدماء بريادة واجتراح وهو تثقيف الحواس، فالحواس قد تكون أميّة أيضا، وهناك العين المثقفة المشبعة بذاكرة بصرية تعج بالألوان والظلال، وكذلك اُذُن مثقفة بالإيقاعات سواء كانت من الموسيقى أو من الطبيعة ذاتها، وحين قال بشار بن برد إن الأذن تعشق قبل العين أحيانا لم يقل ذلك لأنه أعمى، بل لأن للصوت سحره ونفوذه، وهو أيضا قد يكون مثقفا أو أميا وفجا. لهذا عندما تغزّل بشار برباب أضاف إلى حسنها صوت ديكها. وفي قصيدة «المومس العمياء» للسياب ترد عبارة على لسان العمياء هي بيدي أراها، هنا بالطـــــبع يجب التفريق بين ما سمي تشويش الحواس لدى السرياليين بحـــيث تتبادل الأدوار وبين تثقيف الجسد، فالأنف كما يقول العلماء قابل لاختزان ألف رائحة على الأقل.
ويروى عن بيكاسو انه كان أحيانا يتجول لمسافات طويلة في الحقول ذات اللون الاخضر، ويقول إنه يفعل ذلك لإشباع نهم عينيه، وذات يوم رسم تجريدية خضراء لا تقول شيئا ولا تقبل التأويل، إنها مجرد الفائض من الاخضرار الذي أتخمت به عيناه. هناك أجساد تنوء بحمولة الروح، كما قال ابن عربي، وحين أشاهد مغنية توشك أن تطير حين يعلو صوتها كما يحدث لفيروز أحيانا أشعر بأن الجسد لم يعد قادرا على احتمال الشحنة التي تسري في أوصاله كالقشعريرة، لهذا لا نستغرب من شعراء وفلاسفة عبر مختلف العصور تمنوا لو أن أجسادهم من مادة أخرى أكثر استعصاء على العطب، ومنهم تميم بن مقبل الذي تمنى لو أنه حجر كي تنبو الحوادث عنه وهو ملموم. وللجسد تراجيديا خاصة به، عبّر عنها البير كامو حين قال إن هناك كلمات كالموت يرتعد الجسد قبل العقل لدى سماعها، لأنه هو الذي يموت، وذات يوم اعترت كامو نوبة من القشعريرة والصّمت في مقابلة إذاعية، وحين سُئل عن السبب أجاب اسألوا جسدي فهو الأدرى مني بكلمات مثل الموت والتلاشي. هذه التراجيديا الجسدية ما من سبيل لتداركها خصوصا حين يشيخ الجسد ويبقى القلب فتيا معافى، ولعل هذا ما دفع توماس هاردي إلى أن يقول :
أنظر إلى المرآة
وأرى بشرتي المتغضّنة
فأاقول لو أن الله جعل قلبي يتغضن أيضا
إنها ثنائية الغمد القابل للاهتراء كمعادل للجسد مقابل السيف الماضي الذي لا يصدأ كمرادف للرّوح. والفارق بين أطلال ما هو محسوس ومرئي وبين أطلال الجسد هو أن الأطلال بمعناها المادي والعمراني لا يرشح منها غير الصمت، وقد يكون رماديا وباعثا على الشجن.
لكن أطلال الجسد تثرثر عن ماضيها، وتختزن في كل مساماتها زمنا غير قابل للاستعادة عبّر عنه هيراقليطس بمقولته الشهيرة عن النهر الذي لا يقطع مرتين، لكن الإبداع الأدبي وحده قادر على عبور النهر مرات إذا قيضت له عبقريات روائية من طراز مارسيل بروست وفرجينيا وولف ولورنس داريل وآخرين.
القدس العربي- Nov 12, 2016