كتابة وحوار:أسعد الجبوري
كنا نتوقع أن نراه في المكتبة الكونية،لكنه فاجأنا بوجوده على دراجة هوائية ،وهو يقطع الطريق ذهاباً إلى مجمع الأبراج القريب من محطة إذاعية مختصة بموسيقى الآلام .
ذلك هو الشاعر المصري حلمي سالم .شاعر المسرات والأمراض والجماهير والمعارك الدنيوية.توقف عن المسير،وتخلى عن تلك الدراجة الهوائية جانباً،ليقوم بمصافحتنا ،ومن ثم ليدعونا إلى ركوب المصعد الفضائي،للإقلاع إلى أحد تلك الأبراج.وصلنا.وجلسنا إلى جانب نافذة عظيمة،لنبدأ الحوار عن مخلفات الأرض في تاريخ الشاعر. وعن شعرية حلمي وتقنياتها الممزوجة بالبلاغة وبالفطرة وبالشحن الثوري الرومانسي.
■ الشعرُ صنعةٌ.هل يمكن لحلمي سالم أن يؤيد فكرةً من هذا القبيل؟
ـــ نعم. الشعرُ صنعةُ الثورة.
■ صنعةُ الثورة،أم صنعةُ الكبار تقصد ؟
ـــ كلاهما واحد.فما من كبير إلا ويخرج من رحم ثورة ما.
■ وهل تؤيد فكرة أن يكون الشاعر حلمي سالم من صناعة جماعة "إضاءة" الشعرية في مصر ؟
ـــ أنا عرّاب تلك الجماعة ،وكنت الدينمو الذي يحرك اتجاهات الشعر برياحي .
■ولكنك أثرت حفيظة شعراء جيلك من أمثال حسن طلب جمال القصاص وأمجد ريان ومحمود نسيم ،شعراء جماعة ((إضاءة)) ؟
ـــ لم أصف أحداً منهم بالشمعة النائمة أو باللمبة العمياء،ليستثاروا.حتى رفعت سلام الذي تم لنا حذفه من تلك الجماعة التي أصبحت فيما بعد أقرب إلى عصابة شعرية ،لم ينقصها غير سوف وبنادق اتوماتيك !!
■ هل ما زال لديك المزيدُ الوافرُ من الشجاعة لتقول عن اتجاهات الشعر المصري المعاصر شيئاً ؟
ـــ لم تأخذ العاصفةُ بيده بعد.
■ تقد أن مِحراث الحداثة لم يستطع قلب تربة الشعر المصري بعد ؟!
ـــ بالتأكيد.لدينا فائض سلفي ثقيل.فالشعر المصري /ما زال يُربى تربية الدجاج داخل الأقفاص.
■ كأنك تضع قابس المكواة بالكهرباء ،لتحرق ثياب الشعراء مع نظريات النقاد الخاصة بالتشريح الأدبي؟!
ـــ وأنا أفعل ذلك من أجل استنهاض النصوص الشعرية وإخراجها من الأقفاص السلفية التي ما تزال تقيد حرمة مرور الشعر بمدارس الحداثة العالمية.رمال الظلام في مصر،هي من باتت تحدد مصير الشعر ومستقبله في وادي النيل.بعبارة أدق ما زال الموتى الأحياء من شعراء الخمسينات،هم من يديرون حركة تلك الرمال ،لدفن الولادات الجديدة بكل عنف ودون شفقة.
■ هل كان حلمي سالم يعتبر نفسك مُضطَهَداً شعرياً ؟
ـــبالتأكيد.إلا أنني لم أستسغ فكرة الفَرْخ الذي لم يغادر عُشّه.لذلك طَيّرتُ نفسي لأعيش في الأحوال الأخرى المُشبّعة بالأوكسجين.
■ هل بسبب"شرفة ليلى مراد" التي جلبت إليك رياح التكفير،عندما شكك بعض الإسلاميين بما ورد في القصيدة تحت ذريعة ما يسيء إلى الذات الإلهية ؟
ـــ لم أكن زنديقاً بشكل كافٍ آنذاك.فصوت ليلى مراد كان يغطي كامل جغرافية جسدي.
■ ولكن بعض أقرانك ،هم من كتبوا فيك التقارير لدولة مرسي الأخوان، كي تدان ،وتذهب ريحك إلى ما وراء الشمس !
ـــ أعرف ذلك.وكان بعضهم مُفرطاً بكتابة الحيثيات القاتلة التي قد تقودني إلى حبل المشنقة.
■ هل كنت قريباً من شعراء التروبادور ،ممن أغرقوا أوروبا بالشعر الغنائي ؟
ـــ أجل.فأنا الذي ملأتُ جسدي غناءً بآلامه.وأنا الذي صنعتُ من جلدي الورقَ،لأكتبَ عن الناس ونفسي كلّ مقطعٍ حارّ ، يُعبرُ عن الانفجارات الداخلية التي كانت تستفرد بي وأنا في مثواي الحياتي قبل الدخول إلى البرزخ الأخير .
■ هل أنت مشاغبٌ؟
ـــ بالقدر الذي توفرّهُ لي القوةُ.
■ قوةُ منْ ؟
ـــ قوة السحر الذي يملأ به الشعرُ باطني .
■ هل تعتمد على الفلسفة في دعم نصوصك الشعرية .أم أن الأمراضَ هي التي تفرض سلطتها على النصّ حركةً وتأويلاً وبلاغةً وسيراً على الأقدام بين القراء ؟
ـــ كنتُ كمنْ يُعلّقُ نفسهُ فانوساً فوق باب القصيدة.فمنهم من يتعثر بالدخول إلى شعري.ومنهم منْ يأخذ الضوءُ بيدهِ، ويقرأني بفصاحة الواقع وعمق التخيّل .
■ أنتَ سكنتَ خارجك المصري مع منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان.عشت الحصار الإسرائيلي لبيروت.كيف تنظر إلى تلك المرحلة من زمنك الماضي ؟
ـــ كانت فترة الحصار الإسرائيلي لبيروت عام 1984 بالنسبة لي ،فترة موسيقية لأوبرا الأرواح المضطربة .
■ هل لأنكَ كنتَ تحبُ العسكرة والمعسكرات ؟
ـــ أجل.لقد عَسكرتُ نفسي وشعري من أجل فلسطين .وما زلت عسكرياً من أجل ذلك حتى وأنا بين طبقات هذي السموات.لقد خُلقتُ جندياً من أجل تلك البلاد.
■ وهل يُعلق أن يخلق اللهُ جنداً ولا ينتصرون ؟!
ـــ لو ألقيتَ بنظرة من سابع سماء على بيت لحم ،لكنتَ قد رأيت رائحة يسوع ترتفع ،لتضمخك وأنت هنا .
■ أنت أثقلت نصوصك بالحجر السياسي.بالتنظيمات وبالتظاهرات دون تردد.هل شعرت بأن ذلك الثقل قد تسبب بخنق الكلمات ؟
ـــ قد تسبب ذلك بخنق بعض النصوص،ولكنني كنت أنتظر الأمل خارجاً من بين شقوق الصخور.
■ ثمة من يقول بأن حياتك كانت مجموعة من الانتكاسات.فهل ساهم ذلك بقيامة شجرة اليأس في أعماقك ؟
ـــ كنت بطلاً مزدوجاً للأمل وللهزيمة معاً.كل منهما يقابل الآخر،ويتصارع معه لكتابة بيان الحياة بجميع تفاصيلها الجميلة والمأساوية .وكان مثلي الأعلى غيفارا الرمو الذي قلت فيه:
“ أنا الرومانتيكيُ الذي سيصير لعنة كل خطة حربية
أنا المتّيمُ الرهيف الذى غدا أيقونة في المطعم الحديث
وفي صدر الغواني اللواتى يغرّهن الثناء, وفي صالة الرقص.
مرّ من هنا المؤرّخون
تصفحوا دفتر اليوميات, ليجدوا بعد أسطر الشَّعر
الوصايا الأربع:
الأولى: أنا أقرب إلى كمشيش من حبل الوريد.
الثاني: متُ كما ينبغي لعاشقٍ أن يموت.
الثالثة: جهزّوا جيش الخلاص, كما قال المغني الكفيف.
الرابعة: لا نامتْ أعين الجبناء
■ تعني أنك كنت مخلوقاً فصامياً ؟!
ـــ ليس بالمعنى البيولوجي.ولكنني كنت ممتلئاً بجحافل أحلام ،تقابلها جحافلُ كائنات سّامة ،سرعان ما شيّدت جسورها على ظهورنا من أيام السادات وحتى زمن حسني وما بعده من ظلام وتصحر.
■ كيف اجتمعتْ بجسدك أمراضُ السلطات،لتصبحَ مريضاً بهذا القدر من الكفاءة والرعب ؟!
ـــ كان التطرف الديني وإرهاب الدولة ،هما اشدّ الأمراض هتكاً بالجسد العام،بعدها تسلل هذا المرضان مع بقية الأحزاب الجرثومية إلى خلايا ،لأنتهي .
■ وعبد المنعم رمضان،ألا تعتبره نوعاً من البكتريا التي تداخلت مع حطاب الغابة الإيمانية يوسف البدري في رسم خريطة الشعر زمن انحطاط حرية التعبير،وصعود السيوف على منصات الرقاب؟
ـــ لم يكن وحدهُ من خُطفَ من الشعر إلى محاكم التفتيش في مصر .وذلك أمرٌ لا يتعلق بخيانة هؤلاء لي،بقدر ما كان الألم يخص حريات التعبير.
■ هل كان ألمُ خيانة حرية التعبير ،أشد من آلام مرضك؟ ؟
ـــ بالتأكيد.فآلام جسدي تخصني وحدي،فيما الآلام التي تخلفها خيانة حرية التعبير،فهي شمولية وعامة. وذلك هو المرض الأخطر على صحة العقل وصحة اللغة.
■ ثمة من كتب عنك يقول: ((اتكأ حلمي سالم في بنية نصه على المفارقة الدرامية المؤلمة التي صاغها من خلال معاناته مع المرض من ناحية ومعاناة فتيان دهستهم المدرعات. تكمن العلاقة بين هذين المشهدين في ولادة جديدة للذات الشاعرة من ناحية وولادة الآخر الذي يداوي وطناً ويجري لها العمليات الجراحية من ناحية أخرى، وكأن سالم نفسه تخلى عن وجعه الأحادي ليحدثنا عن أوجاع وطن بأكلمه فقد الكثير من أبنائه في صورة النعوش التي رحلت إلى عالمها الأخير، وكأنه كان يدرك رحيله العاجل في ظل رحيل هؤلاء الشباب، فقد تَجَلَّى ذلك أيضاً في نهاية نصه أثناء حديثه لرفيقة عمره إيمان بيضون: «ظفرنا نحن بالرحمة/ وتركنا الفتية للعذاب»، وكأنه في عز مرضه الذي لا يصدقه ولا يعترف به يدرك أنه رحمة إلهية ومنحة ربَّانية. )) بماذا تعلق على ذلك ؟
ـــ ما حدث في مصر مؤخراً،قَرّب الموتَ مني كثيراً.بل وكنت أحس وكأنني أحمل شعلة الأولمبياد وأركض نحو قبري متعثراً بجثث من كانوا يتساقطون بالرصاص على الأرض .
■ لماذا لم ينتصر الشعرُ لك ضد الموت؟
ـــ ما أشبه الشعر بالكائن الهلامي .هكذا وقف معي الشعرُ كائناً ضعيفاً،وأنا اسقطُ في حفر اللا وجود من تلك الساعة .
■ كأنك كنت راغباً بعقد مؤتمر صحفي قبل دخولك القبر ؟!
ـــ لا .أبداً. فقصائدي الأخير،كانت كلها بمثابة مؤتمرات صحفية تشير إلى أن الجولة الأخيرة في الحياة،وقد اختزلتها الأمراض ،يوم أصبحت على خط النهاية .
■ أحدهم كتب قائلاً : ((تخلى حلمي مع اشتداد ضراوة المرض عن فكرة اللعب مع المرض نفسه ومصادقته وكأنه مجرد طفل تنبغي ملاطفته ومسامرته، وهي الفكرة التي قلّب أوجهها وأقنعتها الشعرية بمهارة الصانع والعراف معا في ديوانه «مديح جلطة المخ»، ثم ناوشها عن بعد في ديوانه «الثناء على الضعف )) . كيف هي الصورة عندك ؟
ـــ كل ما كُتب عني ،لا يعدو أن يكون إلا كشاهد عيان ظاهري،وليس له بالجحيم الباطني.وكتابات كهذه،سرعان ما يبطل مفعولها،عندما يقع كاتبها في فخ جلطة المخ وتوابع الزلزال المرضي الذي عادةً ما يجتاح الخلايا.
■ خلاياك أم خلايا الشعر؟؟
ـــ لا خلايا جسدي ولا خلايا القصيدة،بل خلايا الزهرة التي تنبتُ فوق اللحد،وهي تحكي للريح السيرة الذاتية عن الفشل الكلوي وسرطان الرئة للنائم تحت التراب.
■ هل فشلت بتنقيح جسدك حتى بالشعر ؟
ـــ لا أعتقد ذلك.فأنا جعلت من متن النصّ ضريحاً،يندرج ضمن الأماكن المقدسة التي تستوجب الحج.
■ هل يمكن اعتبار الموت مشروعاً تجريبياً بنظرك؟
ـــ هو كذلك عن الشاعر القلق المُضطرب بمختلف العلل والفيروسات والآلام.فالشعر ليس مشروعاً لغوياً وحسب،بل هو التابوت الذي تخرج منه أزاهير الوجود بشكل مطلق.
■ كنتَ قبل موتكِ معلماً للرثاء. فما المهنة التي تجد بها نفسك بعد تلك المرحلة ؟
ـــ ليس غير أن أصبح كهلاً ،وأدير ظهري لتلك الحياة التي أنفقتني كأية عملة رخيصة بوقت سريع.
■ هل هو الحنينُ إلى العائلة :المرأة والبنات ؟
ـــ بالفعل.فذلك ما كنتُ أتوقعه بعد موتي،كأن يصبح اختزال تلك العائلة بنصوص من رماد.وأنا وحيد في بلاد الله الأخيرة.
■ لماذا تشكو من الوحدة،وغالبية شعراء العرب والعالم هم في كنف دويلات السماء ؟
ـــ عندما كنت أتعالج في مستشفى القوات المسلحة،كان الرصاص يُلعلعُ في شراييني.ومع ذلك لم أتوقف عن الندب والعويل،بل حاولت أن أصنع من شعري ملجئاً لي،أتحصن فيه بعيداً عن العامة،وقريباً من دفتر الذكريات المُضطرب في رأسي دون توقف.
■ ثمة من يعتقد بأن قصائدك الأخيرة ،تخلت عن البساطة لصالح العمل على التفاصيل الحادّة المُعقدة .ما مدى صحة ذلك؟
ـــ عندما ترتفع درجة حرارة حساسيتك إلى الذروة،فلا بد من أن يطغى ذلك على النصوص التي تكتبها.وأنا شاعرٌ تَطَبع بمثل ذلك التأثير .لذلك يجدني القارئ أشبه بمركب مثقل بالتفاصيل،وكلما بلغ مرحلة الغرق،وشَعرَ بأن ثقباً جديداً أصاب مركبه،لا بد أن يرمي في المياه بعضاً من أثقاله،ليستريح ولو مؤقتاً.
■ كيف حشرت نفسك ما بين ضلعين شعريين:أمل دنقل وأدونيس،علماً بأنك لا تنتمي إلى أحدهما في العمق الشعري الذي كنت فيه؟!
ـــ كانت المشكلة تتعلق بالتصنيفات التي وضعت الشعر في قوالب زمنية(جيل الستينات.جيل السبعينات .جيل الثمانينات) والتي عمل أمل دنقل على وضع توصيفاتها بشكل تعسفي،عندما وجد نفسه في مكان الربوبية السياسية التي لا ينازعه عليها أحد .
مقابل ذلك،كان غبار أدونيس يلطخُ وجوه الكثيرين بمواده الشعرية التي يؤسس من خلالها لنفسه مقعداً في كل نصّ لشاعر.
■ أنت قلت: (أعتبر نفسي"لصا" و"أنانيا" إن مت على سرير وثير وغيري سحلوا في الميادين) .هل كان بناء تلك الجملة الدراماتيكية بمثابة محاولة لتكريس وجودك ضمن مشاهد الربيع العربي ؟
ـــ ليست صورتي في مثل هذا الوضع،ولكنني صاحب تجارب سياسية في الشعر الذي أكتبه،وينتقل إلى الناس عبر الشرايين.
■ وثم ماذا ؟!
ـــ لست مفرطاً بالسياسة،بقدر إفراطها بالتدخل في أشعار شعراء مصر والعرب بشكل عام.ولقد أمات السياسيون خلايا الشعر في أجساد الناس _مستوطنين وعابرين ومنفيين- وكان ذلك يدلُ على أن الربيع الأحمر،ليس غير شجرة أوراقها سكاكين تلمع في ضوء الدم.
■ كيف تنظر إلى نفسك كمجرّب.أو صاحب تجربة ؟
ـــ كنت ،وكل ما أملك في حياتي يخض للتجريب.فكل نصّ،هو في العمق تجربة تثأر لنفسها من الاستقرار أو من السكون أو التنزه في المدافن العامة.
■ وهل كنت ترى نفسكَ ميتاً على تلك الأرض؟
ـــ نعم.وطالما كنتُ أبحث عن منقذ ،يرفع عني كمية ذلك التراب الذي كانوا يهيلونه على جسدي في مثل لحظات الدفن الافتراضي .
■ تراب الربيع العربي تقصد ؟
ـــ لقد خَدَعَنا ذلك الأملُ ،عندما انتصر الدم فقط،تاركاً الحرية جثةً في المشرحة.أنا شاركت في التظاهرات واعتصام الميدان ،ومن بعد ذلك كان الطريق مسدوداً بالسلفيين وحملة الرايات السوداء واللحى التي تعششُ فيها البراغيثُ لتبيض.
■ ولكنك كنت قد كتبتَ عنه القصائد على غرار المقالات الصحفية. فكتابك «ارفع رأسك عالياً» المتضمن قصائد مثل «العسكر» وسواها،تعد نوعاً من التخلي عن الشعري لصالح السياسي الذي عادة ما يقوم نصه على الصراخ والنزعات الثورية ،وذلك ما فعلته أنت عقب أحداث الثورة في مصر.كيف تقتل الشعري لصالح السياسي الإيديولوجي؟
ـــ لم تترك لي أمراضي المتعددة المختلفة خيارات غير الغرق في طين الشارع وصراخ الثورة وحرائق الأحزاب .فمن «مدائح جلطة المخ» إلى «معجزة التنفس» إلى الرئة التي أكلها السرطان إلى الكلى التي تمزقت وتوقفت عن الإنتاج،كلها عوامل ساهمت بجعل موقف الشعر ضعيفاً.
■ تعني إنك فضلت الانحياز للشارع والتاريخ المصري القديم منه والحديث ،بالضد من الانحياز للغة؟
ـــ بالضبط.أنا جعلت انتمائي للضفة الأوسع بعيداً عن اللغة وتقنياتها ومدارسها ورموزها .أردت أن أكون شاهداً على أمواج اللحوم التي كانت تتدافع في الميدان،وليس شاعراً ينتمي إلى أمراضه وكآبته وحصصه اللغوية التي ينهلها من هذه المدرسة أو تلك.المغامرة مع العامة حياةٌ أعظم من المغامرات الشعرية الحافلة بالخيال والبلاغة والمجاز ،وجميع أدوات الكتابة القادمة مع الحداثة.
■ هل ما زلت شيوعياً في دار الآخرة ؟
ـــ ليس صعباً على المرء لو أراد تغيير اسم حزبه هنا.مع أن الغالبية من الشيوعيين في الشرق مؤمنون بالأديان والمذاهب والطوائف، ومن غير الملحدين أو الزنادقة أصلاً.
■ ألم يصادفك أبو الهول هنا ؟
ـــ رأيته بالأمس ممدداً في حوض الجاكوزي ،يتمتع بحمام شمسي مع مجموعة من المدلكات والحراس والخدم.
■ كيف كان منظرهُ ؟
ـــ رأيته غارقاً بالشامبو إلى درجة عالية من الرغد.فالرجل تزوج من ليلى مراد التي سمعتُ أنها ستصدر ألبوماً غنائياً عن مرحلة ما بعد البعث.
■ ما بعد البعث،أم ما بعد شرفة ليلى مراد الأرضية؟
ـــ شرفةُ الأمس،لم تكنْ شرفةً ،بل هي قلبي الذي تحتشدُ فيه الأغاني مشحونةً بموسيقى الآلام العظيمة .
■ كأن الأمراض وحدها هي منْ صنعت حلمي سالم شاعراً .ما قولك بفكرة من هذا النوع ؟
ـــ ومن يدري.فقد يكون الشعر المحصول الزراعي لتك الأمراض التي تعج في تربة جسدي.ومع ذلك،فتلك الفكرة لا تحتاج إلى مِسْبار للتوكيد.والشعرُ في نهاية المطاف،فيه الكثير من الممرضات اللائي يفتشنّ عن الفيروسات التي تشغل أرواحنا ،بعدما تنتهي من التهام كامل جيولوجية اللحوم من كل مناطق الجسد .
■ هل كانت خيبتك بالأرض وأهلها أعظم من خيبتك بأهل السماء ؟
ـــ يوم كنت على الأرض ،سرعان ما أغتسل بالنيل ،كلما أصابتني خيبةٌ.وهنا ،لا معرفة لي بالأمكنة التي يمكن للمرء أن يغسل فيها مخيباته .
■ يقال أن بعض الشعراء يمارسون الكتابة الميكانيكية هنا، ما مدى صحة ذلك؟
ـــ أجل.فكلّ شاعر ناجٍ من السقوط من البرزخ،يكتسب القدرة على استخدام اللغة الميكانيكية في كتابة الشعر.حصل ذلك للشاعر الكبير عنترة العبسي الذي استعاد قدرته على تأليف الشعر الفروسي حتى دون قبيلة أو سيف أو رمح أو خليلة .
■ ألمْ تسأله عن رغبته الجامحة بتقبيل السيوف الملوثة بالدم ،حيث قال :
وَلَقَد ذَكَرتُكِ والرِّماحُ نَواهِلٌ - مِنّي وبِيضُ الهِندِ تَقطُرُ مِن دَمي
فَوَدَدتُ تَقبيلَ السُيوفِ لأَنَّها - لَمَعَت كَبارِقِ ثَغرِكِ المُتَبَسِّمِ
ـــ لقد خطرت على بالي مثل تلك الفكرة،ولكنني لم أحاول طرح السؤال عليه،لأنه كان دائم الانشغال بالشقراوات اللائي كانت مارلين مونرو تجسد جمالهنّ.
■ وهل نجح بالوصول لبارق ثغر مارلين مونرو حقاً ؟
ـــ أجل .خطفها من المغني فرانك سيناترا ،بعد أن تربص به ،وكاد أن ينزل على رقبته بسيفه المراهق .
■ ولم تصدر بحق عنترة مذكرة توقيف ؟!!
ـــ أبداً.فثمة مريدون له من الملائكة يقوم بالتغطية على أفعاله .يعتبرون الشاعر العبسي ممثلاً للفروسية. وكذلك فهم يدينون له بذلك الحب البدوي المشوب بالجنون والعراك حتى الموت.
■ إلى أين ستذهب بعد هذا الحوار ؟
ـــ سأبحث عن بعض النيازك ،علّ حَجَراً جَوّياً،يحترقُ ،فيعيدني إلى أرض الفراعنة.