السياب بعد نصف قرن
"تشبث بموتك أيها المغفـّل/دافع عنه بالحجارة والأسنان والمخالب/ فماذا الذي تريد أن تراه؟/ كتبك تباع على الأرصفة، وعكازك صار بيد الوطن...
أي وطن هذا الذي يجرفه الكنـّاسون مع القمامات في آخر الليل..؟"
ما أصدق هذه المخاطبة أو المهاتفة الصريحة من محمد الماغوط الذي كان على قيد الحياة، قبل أن يدلف إلى رحاب الموت المُشتهى ويلحق بصديقه بدر شاكر السياب..
هذه الرؤيا التي تستشرف الكارثة المتحققة بكثافة مأساوية صاعقة على أرض الشاعرين الكبيرين، وسط عالم أصبح الموت والإبادات لديه ما يشبه الفرجة اليومية والتسلية. وحضارة كبرى مطلقة القوة لا تفعل شيئا رغم ادعاءاتها الإنسانويّة والحقوقية، إلا تنظيم المذابح في بلاد الآخرين المتداعية، خاصة تلك التي أوقعها قدر الجغرافيا الحزين قريبا من الدولة العبرية. وتوزيع الادوار وإيهام بعض الدول بنديّة تسكن الوهم والخرافة أكثر مما تسكن الواقع والتاريخ...
تسلية الوحش الضاري المدجج أمام حيوانات يمكنه التهامها لحظة يرى في ذلك ضرورة منفعةٍ ومصير. إلا إذا تغيرت موازين القوة جوهرياً وليس من دلائل حاسمة تلوح في الافق. أو كما عبر الجنرال الروسي الراحل (الكسندر ليبيد) الغرب الأمريكي بعد انهيار الاتحاد السوفييتي مثل الثور الهائج وسط معرض من خزف. لكنه ليس هيجان القوة العسكرية فحسب وانما جاذبية القوة الناعمة وإغراءاتها الأكثر فتكا مع مرور الزمن.
الكنـّاسون القتلة محترفو الإجرام والطائفية والانحطاط، لم يعودوا قادرين على كنس الجثث وأشلاء الأطفال والشيوخ، الرجال والنساء إلى هاويات المقابر الجماعية أو باتجاه الخلاء الموحش الذي تحوم في أجوائه الجوارح ومفترسو الجِيف المنتنة والأوطان..
وما أصدق رؤية السياب في مقاربته للشاعر الحديث بخميس مجلة (شعر) حين حضر بدعوة من الراحل يوسف الخال : إنها تجسيد لروحه المعذبة وروح جيله والأجيال اللاحقة من ذوي الحساسية المرهفة :
»لو أردتُ أن أتمثل الشاعر الحديث ما وجدت أقرب إلى صورته من الصورة التي انطبعت في ذهني للقديس يوحنا وقد افترست عينيه رؤياه وهو يبصر الخطايا السبع تطبق على العالم كأنها أخطبوط هائل «
***
هذه الرؤيا قد خرجت حتما من مجازها الشعري، الديني، إلى الوقائع اليومية والمعيش..
***
«أصيح بالخليج: «يا خليج»/يا واهب اللؤلؤ والمحار والردى / فيرجع الصدى كأنه النشيج: /يا واهب المحار والردى »
لم يعد هناك أيها السياب حتى المحار الذي كنت تصغي من ضفافه المتخيلة إلى صدى الموج والبحر، وليس اللؤلؤ فحسب..
استعادة بدر شاكر السياب بعد نصف قرن من تحقق تلك الرؤى القيامية المروعة، استعادة لريادة حقيقية في الشعريه العربية الحديثة التي أنجزت الكثير عبر أجيال وانماط تعبير مختلفة... استعادة لمجد المخيّلة، حتى لو كان حاملها جسدٌ عليل.
استعادة لطفولتنا، احلامها وأوهامها وطموحها المكسور.
غسان كنفاني
غسان كنفاني، شهيد الأدب الفلسطيني العربي والإنساني الذي اختطفته أيادي الجريمة الصهيونيّة، ورحل باكراً، في منتصف الثلاثينيات من عمره الغنيّ بالعطاء الإبداعي المتنوع، من الرواية والقصة حتى المقالة والمسرحية وغني بالنضال الوطني وتأسيس المنابر والأدبيات التي تعبر عنه، فهو مؤسس مجلة الهدف وغيرها..
عمر قصير قضاه كنفاني على هذه الأرض المنكوبة بكافة أنواع الاحتلالات والأوبئة والجرائم.
لم يكن كنفاني الشاهد على كل ذلك فحسب، وإنما المشارك الفعلي والعضوي حيث توحد الأدب والفعل والسلوك، في شخص قل نظيره في عالمنا..
***
وهو في غمرة انخراطه في نسيج النضال الوطني، وقضاياه، لم يحول الأدب إلى يافطة أو شعار سطحي لقضية أو زعيم أو سياسة مهما بلغ وهم طهارتها وتقديسها.. أعطى الأدب حقه في الاستقلال والحريّة والتجريب الإبداعي الطليعي. وهو من موقعه العالي هذا، استطاع أن يؤسس ويخدم قضيّة شعبه المقتلع والمبدَّد في أرجاء الأرض فيما يدل جزماً على الجريمة التي تواطأت عليها أركان القوى البشريّة جمعاء..
هذه التراجيديا الفلسطينيّة والانهيار العربي، كانا الهاجس الأساس الذي يفترس أعماق غسان كنفاني، وهما اللذان حددا بصرامة القدَر والحسم المبدئي مصيره الأدبي والحياتي..
في روايتيه «رجال في الشمس» و«ما تبقى لكم» يصل كنفاني إلى ذروته التعبيرية في القبض على روح هذه الشخصية الفلسطينيّة التي عانت كل تلك المآسي العاتية والهزائم والشتات وما أوشك أن يدمر روحها وبنيتها الأخلاقيّة والاجتماعية والوطنية لتكون لاحقاً لقمة يبتلعها الأعداء المدجّجون بسهولة فائقة. فانكسار روح الفعل والمقاومة هي حجر الأساس في الاستهداف والصراع الدائر بأشكال مختلفة.
يلتقط كنفاني هذه اللحظة الخطيرة في معظم أدبه، خاصة في «رجال في الشمس»، حيث يموت الرجال المهرَّبون من البصرة إلى الكويت في قلب الصحراء الجحيميّة اللاهبة، يموتون هكذا، في خزانة السيارة اختناقاً وشللاً حتى عن اجتراح أبسط فعل غريزي لإنقاذ حياتهم، وهو طرْق الخزّان، خبطه باليد العزلاء المشرّدة.
هذا الشلل، هذه اللحظة التراجيديّة المرعبة، هي التي وضع كنفاني بمقدرة تعبيرية مدهشة، عليها يده، يمضي فيها ويغوص في ثناياها وبواطنها ليفتت ذلك العَفن الذي خلفته الهزائم، ويشق الإنسان، الفلسطيني طريقه الجديد في الفعل والنضال والمعرفة، من أجل حقوقه الوطنية والإنسانيّة الطبيعيّة. إذ يتجاوز فعله قرع الخزّان، إلى آفاق أكثر رحابة وفعلاً ابداعياً وكرامة..
***
تُرى، ماذا سيجد غسان كنفاني الذي كانت ولادته في عكا، واستشهد عام 1972 في بيروت، حين ينتفض على جدار قبره، كما كان يحلم بانبلاج أولئك الرجال الذين يقرعون جدران الخزانات والسجون ويقتحمون مدن الأعداء بعزيمة وبأس شديدين؟.
كيف سينظر كنفاني إلى المشهد الفلسطيني الممزّق الذي تفترسه الخلافات الداخليّة والاحتراب الأخوي الأكثر عنفاً من الحرب المشروعة مع العدو البالغ الوضوح؟! وكيف سينظر إلى المشهد العربي برمته؟!
غسان كنفاني وما تبقى لكم
«أكان من الضروري أن ترتطم بالعالم على هذه الصورة الفاجعة؟»
لا أعرف لماذا دوماً هذه العبارة الكثيفة كغابة الحزن العربي، تطفح على سطح الذاكرة وتعرش فيها؟ وهل يأخذ هذا السؤال مشروعيته، رغم بداهته، في هذه المرحلة بالذات ؟ هل كان غسان كنفاني، وهو يستنطق شخصياته الروائية النازفة تحت صيرورة الواقع، الجلاد، ويعرف –وهو التراجيدي الفلسطيني – أن عبارته أو غابة أسئلته ونبوءته سوف تستطيل وتتسع على هذا النحو الفاجع؟
زمن الأسئلة، زمن النفي الكامل لكل الأجوبة الجاهزة، التي تتناسل عبر الأجيال في صحراء العري الصارخ لهذا الوطن. وغسان، حين تختزنه ذاكرتنا المغتربة (كالجرح الذي يختزن الصاعق) إضافة إلى سرده المدهش للانسحاق الفلسطيني، الذي هو في الوقت إياه التخليص المكثّف للانسحاق العربي الشامل، خلق خلخلة لمجموع القناعات والقيم، التي تشكل نسيج المألوف والسائد، أي عمل تكسيراً وهدماً لحضارة الأجوبة وتفريعاتها. وهو حين يعمل ذلك لا يصوغ لنا أحلام المستقبل الوردية بمنطق التفاؤل الساذج، وإنما يقذف بنا من غير رحمة في جحيم الواقع الفلسطيني – العربي السائر نحو انهيار أعمق ونحو جحيم أكثر فظاعة. فعبارة «أكان من الضروري أن ترتطم بالعالم.. إلخ» هي «الإصبع والجرح» وهي «فصل في الجحيم» لكن ليس كفصل رامبو الهارب نحو حدائق الحكمة من تكنولوجيا الغرب وليس كجحيم سارتر حين «الآخرون هم الجحيم» إنها اجتماع الأضداد، إنها الاقتلاع والمنافي والنساء الملفعات بالسواد. وفي الطرف الثاني من المشهد «الكنفاني» هي قرون الانقطاع الحضاري، التي ولدت هذا المزيج الاستلابي بعناصره القامعة لأي طموح. فظلامية الحكم العثماني، التي قادت قبائل الوضع المنهار، هي نفسها مع استبدالها بمكياج حضارة الغرب المهيمن والمقتدر.
وغسان، حين يغوص كالمدية في أعماق زمن تتفتت مراياه في عيوننا وأجسادنا، يخرج وهو مسكون بسواد المرحلة دون أن يتلوّث بها، وتظل عيناه تقدحان كالصقر المحاصر. فرواية «رجالٌ في الشمس»، الصاعقة لأولئك الأربعة، الذين يموتون في الخزان المغلق على صحراء اللهب والنفط في الحدود الكويتية، من دون أن يحاولوا قرع جدار الخزان، فضلاً عن فتحه، لهي الشاهد المضيء والنابض بأكثر من مؤشر على تفسخ المرحلة بمجموع عناصرها السالبة، الموروثة والمعاصرة، والتي تحمل في أحشائها بذور فنائها كما يقول (هيجل) ضمن سياق آخر... وكأنما بغسان، وهو يحطم الزمان والمكان حيث الساعة والصحراء من المفاصل التي تتمحور حولها الرواية، يصرخ في وجه المرحلة : لا بدّ من استئصال جرثومة الدنس والعار، لا بدّ من فصد الشرايين...
من عبور «المطهر» كي يستطيع الفلسطيني أن يقرع جدار الخزان ورتابة الزمن العربي المجسّد في ساعة الحائط في «ما تبقى لكم» وفي هذه الرواية يمضي قدماً في استخدام أدوات السرد، إذ يلعب (تيار الوعي) الدور الرئيسي في استبطان عوامل الشخصيات والكشف عن هويتها وزمنها... وبهذا استطاع غسان أن يكون الشاهد الفاعل والحقيقي على عري عصره وارتجاج موازين القيم فيه، حيث يتحول الجلاّد إلى ضحية، وحيث الاستلاب الداخلي والخارجي والأشياء تفقد طعمها تحت وطأة القمع المتمازج مع الثروة.
وحين يحدق في الجهات الأربع لا يرى إلا الأرض.
ها هو يتطهر من دنس العالم بعذوبة الأرض:
»أرض خصبة مزروعة بالوهم والمجهول، تتكسر كل أنصال الفولاذ في العالم إذا مرت فوق صدرك الأصفر العاري«
يتحدث غسان، أحياناً، مثل كاهن في أسطورة قديمة واضعاً قارئه على عتبة الانهيار والحلم، الانهيار تحت وطأة التتار الغازي والكاسح فكرياً وعسكرياً، والحلم، ذلك القادم من جهة الأرض.
شكري وابن بطوطة
في هذا الصباح تحط على طاولتي مثل طائر شريد، صورة محمد شكري، وجهه الذي نُحت من شقاء طفولة مشرّدة وريف مهجور يضربه زلزال الفقر والعنف والتهميش، حيث كانت ولادته. ومن ثم المدينة التي واصل فيها حياته بكل تناقضاتها الحادّة، وشهد بجانب الصورة المعروفة عنه، من جوع وتمزق وبحث مضنٍ في جوف ليالي المدينة الصاخبة، عن مأوى يدثّر جسده من البرد القارس ووحوش الليل الضاربة...
طنجة التي شهد فيها أيضا مجده الأدبي وولادته الثانية التي سيتبوأ من شرفتها البحريّة تلك المكانة الطليعية في الأدب المغاربي والعربي وما هو أبعد، إلى العالم الشاسع...
كل ذلك تم بمحض الصدفة والعشوائية، وعلى عكس أولئك المخططين في الأدب والحياة والدروب والأساليب التي تؤتي أُكُلها أو لا تؤتي، ولد شكري، من رحم تلك العشوائيّة، وذلك التخبط والارتطام العنيف في الحياة كما في الأدب الذي أتى إليه من الجهة المعاكسة لما هو مألوف ومتداول في العلاقات واللغة..
كانت طنجة، المدينة الكوزموبوليتيّة، التي لم تغره عنها أي مدينة أخرى، لا في المغرب ولا في العالم.. ظلت طنجة مسرح أحلامه واستيهاماته وحياته، ومسرح شخصياته الأدبيّة التي تتداخل وتتشابه حتى يصعب الفصل لدى القراءة، مع شخوصه الواقعيّة وعلاقاته التي يغلب عليها طابع الهامشي والمنفي من مخلوقات العوالم السفليّة التي تشتهر بها تلك المدينة الساحرة كسحر الفن الذي تضفيه مخيلة شكري السارد على تلك العوالم والشخصيات..
لم تغره أي مدينة أخرى لدرجة انه حين كان يسافر لضرورات ما، الى الرباط أو الدار البيضاء، غالبا ما يتوقف في حانات الطريق ليعود الى طنجة، ويظل هكذا حتى ينجز هذه المهمة الشاقة..
كانت طنجة هي العالم بكامله بالنسبة الى شكري.. مواقف كثيرة جمعتني مع هذا الصعلوك النبيل.. مرة أضعت نقودي، كنت قادماً من لاهاي الى طنجة، أصيلة براً وبحراً، استلفت منه مبلغاً من المال، رفض استرجاعه لاحقاً، معللاً اننا سنأكل ونشرب بهذا المبلغ وغيره، وكان بمعيتي أحمد ومحمود الرحبي الذي كان يدرس في المغرب..
مواقف وذكريات كثيرة مع شكري والأصدقاء في طنجة.. ولا أنسى ذلك اليوم الذي ذهبنا فيه لزيارة قبر ابن بطوطة، على ما أظن في قلب (سوق الداخل) الذي يسم كعنوان، أحد كتبه. اخترقنا تلك الكتل البشريّة والمباني المتداعية ذات الطابع التراثي حتى تلك البقعة الصغيرة المتربة التي حسب هذه الرواية، يقع فيها قبر ابن بطوطة. ثمة رواية تقول انه دفن في الدار البيضاء.. المهم أن ذلك القبر الذي شاهدناه، كان مخيباً تماماً لشخصيّة عظيمة كابن بطوطة الذي شغل العالم والآفاق واشتغل عليهما ترحالاً وكتابة، حين كانت الصحارى اللاهبة محمولة على الجمال والحمير وقطاع الطرق.
كان ذلك القبر كناية عن كومة تراب مغطاة بالعلب الفارغة والقاذورات.. تذكرت مقولة الرحّالة الأسطوري «لا تبحثوا عن قبري في التراب بل في قلوبكم».. وكأنما يتنبأ بهذا المصير. وكأنما الحفيد شكري أخذ الدرس القاسي من سلفه ولم يغادر طنجة إلا لِماماً، وعينه على المدينة التي أحبها وقضى فيها حياةً وموتاً.. وبقي أيضا في قلوب محبيه من بشر وأمكنة كان يجوبها ليلاً نهاراً مع كلبه (جوبا) الذي سبقه إلى المصير الحتمي.
عشرة أعوام مرّت وأنت سادر في غيابك، لم تعد والأرجح أنك لن تعود (لن يُعاد لك سُبكُ) لكن أشباحك ومخلوقاتك تتجول كعادتها في ليل طنجة وأنحائها المختلفة.
لو كانت الأمطار تغسل الأرضَ والقلوب
في فيلم (سائق التاكسي) في مطلع السبعينيات من القرن الذي أضحى ماضيا.. كان (روبرت دي نيرو) يلعب دور البطولة كسائق تاكسي، دوامه دائما في الليل.. الليل النيويوركي المحتدم بالرغبات والمفاجآت والشاسع بالجرائم وأصناف البشر والجنسيات والأهواء المختلفة كما يليق بواحدة من أكبر مدن العالم. إن لم تكن أكبرها على الإطلاق في تجسيد المدينة الحديثة وما بعد الحديثة وأنماط سلوكها وحريتها ورعبها.
كان السائق الليلي في رحلته اليوميّة التي هي رحلة الاكتشاف المستمر لأنماط البشر وتناقضاتهم وأمزجتهم التي تصل حدَّ الشطط والجنون، الذي سينعكس بدوره على السائق كجزء من هذا التكوين الفسيفسائي المتعدد، ويطوّح به إلى الانفصام والقتل والجنون.
كان السائق، الليلي في، غضون، الرحلة الليليّة نفسها يتأمل المدينة وبشرها، ويدخل في منولوجاته الهذيانيّة كأحد الشهود على ليل المدينة، مستبطناً على طريقته، دواخلها وخوافيها الناضحة بالغموض والانهيار الذي يلْبد وراء مظاهرها ولافتاتها البراقة والساحرة..
***
لا يستطيع السائق الليلي أن يتماسك وهو يتأمل ويعيش هذا الفضاء المتلاطم لوضع بشري جارف.. كيف له أن يستطيع، وهو الرجل البسيط الذي يحاول كسب عيشه من هذه المهنة التي قذفه إليها الحظ، أن تكون في الليل، في لجّة الهواجس وغموض الرغبات.. كيف للرجل البسيط، لقد داخ أهل الثقافة والفن أمام دُوار المدينة ومتاهاتها؟..
ترى لو كانت نوبة عمله في النهار، في ضوء النهار الساطع للمدينة الكبيرة، هل سيكون تعرضه للصدمة والانهيار أقل، وتكون فرصة توازنه مع المحيط وتناقضاته احتمالا أكبر وأكثر وروداً وأملاً؟!
لكن المخرج الأمريكي أراد أن يقذف بطله الرجل البسيط هذا، في خضمّ الليل واحتمالاته الأكثر إثارة وخطراً، ليل المدن خاصة. وأراد له أن يعيش المغامرة بأبعادها وظلالها ووحلها كما لا يُتاح في النهار الذي يسهل رصده والسيطرة عليه أكثر، بالإضافة إلى انه مقام السعي والمعيش والوضوح النسبي أمام ليل الكارثة الذي يلفّع المدن والأرياف المتقدمة والمتخلفة بنسب مختلفة..
لاستقصاء جانب من خوافي السلوك البشري، ليس هناك أكثر غنى من مدينة مثل نيويورك وليلها، خاصة إذا تم إنجاز العمل بمخيلة فنان بارع..
من المشاهد المدهشة على ما أذكر - فلم أرَ الفيلم منذ تلك الفترة، وهي فترة تكون الذاكرة فيها متألقة ويسري تألقها عبر السنين المتراكمة - مشهد المدينة وهي تسطع بليلها العالمي، تحت عواصف الأمطار الغزيرة والبروق؛ نرى السائق الليلي يوغل في هذيانه ويردد عبارة»: لو كان هذا المطر يغسل القلوب والنفوس كما يغسل الشوارع والأرصفة والأشجار لتغيّر أمر العالم«..
هذه العبارة ما زلتُ أتذكرها عبر هذه السنين ورعبها الذي لا يقلّ عن تراكم الرعب الليلي في المدينة العظمى، أتذكرها مع هطول الأمطار في أكثر من مدينة ومكان (آخرها الأمطار في عُمان).. أتذكرها بحميميّة وحنان أقرب إلى السذاجة والبساطة، التي تشبه ملامح تلك الفترة التي شاهدت فيها فيلم (سائق التاكس).
* غسان كنفاني، وما تبقى لكم: أُلقيت في مخيم اليرموك بدمشق عام 1980 في ندوة جمعت كاتب هذه السطور بأمين الزاوي وربيعة جلطي بدعوة من هيئة ثقافية تابعة للمخيّم الذي أصبح أثرا من آثار الخراب العميم. ربما التذكر في مثل هذه البرهة العصيبة سورياً و فلسطينياً وعربياً، له بعض معنى، خيط معنى رهيف. ونُشرت (الورقة) في كتاب (ذاكرة الشتات).