حاوره: عزت عمر
(الامارات)
كان لهذا الحوار ان يأخذ وجهة أخرى لولا الأحداث الخطيرة التي عصفت بالعالم عشية الحادي عشر من سبتمبر وما تلاها من حرب ضدّ أفغانستان وتهديد العالم أجمع بأن من ليس معنا فهو ضدنا، بالإضافة الى الهجمة الإعلامية الشرسة التي طالت الثقافة العربية والدين الإسلامي تحديداً ووصفه بأنه (ينتج الإرهاب) على حدّ زعم البعض الذي يطيب له دائماً النيل من ثقافتنا وتشويه صورتنا أمام العالم، وها هي الأمة العربية تقف الآن على مفترق طرق خطير سياسياً وثقافياً وعسكرياً.
بينما في الوقت نفسه تقتحم ثقافة العالم بيوتنا دون استئذان، بحيث لم يعد واحد من المعنيين في الشأن الثقافي العام بمعزل عن جملة التطوّرات الثقافية والاجتماعية والسياسية التي تلمّ بالعالم. فأين نحن من ثقافة الآخرين وحضارتهم؟ وما هي ملامح ثقافتنا في ظلّ ثقافة العولمة، وهل نحن في أزمة حضارية، أم أنه يمكننا فعلاً تجاوز آلام تخلّفنا وتجاوز خلافاتنا ومن ثمّ الإسهام في الثقافة العالمية بكلّ ما نملكه من رصيد حضاري؟ وهل يمكن لمثقف اليوم ان يحلل وبهدوء مجريات التطوّرات السياسية التي عصفت بالعالم بعد الحادي عشر من سبتمبر؟ بيان الثقافة توجّه بجملة الأسئلة هذه الى الباحث والكاتب المعروف د. حسن مدن فكان الحوار التالي:
* نتحدث دائماً عن أزمة في الثقافة، أزمة في الفكر والإبداع، وما من دورية عربية أدبية أو فكرية إلا وأثارت هذا السؤال الذي بات تقليدياً جداً. ترى هل الأزمة ناتجة عن التربية، عن التعليم، أو عن عدم وجود منابر، أم أنها أزمة تعبير، وإذا كان الأمر كذلك فما السبب في وجود أزمة تعبير في الوطن العربي في الوقت الذي انتهت فيه الأمم الأخرى من هذا الجانب؟
ـ في تقديري أنه توجد أزمة واحدة.. أزمة رئيسية شاملة في العالم العربي تتفرّع عنها مجموعة من الأزمات الفرعية، ولذلك يكثر الحديث الآن عن الأزمات: أزمة الفكر، أزمة الحرية، أزمة المرأة، أزمة المجتمع، وهي جميعاً تنويعات على أزمة رئيسية واحدة هي أزمة حضارية يواجهها المجتمع العربي الذي انتقل من موقع الفعل منذ قرون الى موقع ردّة الفعل السلبية تجاه ما يدور في العالم، وأصبح عرضة لأشكال من الهيمنة مختلفة بدءاً من الاقتصاد مروراً بالسياسة والعسكرة وانتهاء بالثقافة ونمط الحياة.
وبالتالي فإننا نجد ان انعكاسات هذه الأزمة قد طالت جوانب مختلفة، ولكن على خلاف ما يقال لا أرى ان هناك أزمة في الإبداع، وذلك لأن المنتوج الإبداعي العربي في المجالات المختلفة: شعر، رواية، قصة قصيرة، مسرح.. لا يقل مستوى إنتاجها الإبداعي عن أية أسماء إبداعية معروفة على الصعيد العالمي، بما في ذلك الأسماء الكبيرة التي نالت جوائز عالمية مثل "نوبل" وغيرها.. هي الحيّز المضيء الوحيد الذي لا يزال ينبض بالأسئلة وينبّه الى مواقع الخطر في ظلّ الانحدار الحضاري العام.
* بعيد الاستقلالات هبّ المجتمع العربي ساعياً الى بناء الأوطان رافعاً شعارات الحرية والاشتراكية والتقدّم، ولكن هذه الشعارات، مع الأسف، التي بذلت من أجلها الدماء سرعان ما تلاشت ليحلّ محلها القهر والاستبداد والتخلّف، وكأنها ما وضعت إلا من أجل ان ينتهكها واضعوها بأنفسهم، الأمر الذي أحال المشروع الثقافي العربي الى حالة من الإخفاق ذريعة؟
ـ يبدو من كل التطوّرات التي نراها، ان لا أفق قريباً للخروج من الأزمة العامة، الأزمة الحضارية التي نعانيها، بل على العكس هناك المزيد من التدهور والانحدار خاصة وأن جملة المشاريع الفكرية والسياسية البديلة أصيبت بالإخفاق، فقبل عقود قليلة من الآن حتى قبل عشر أو عشرين سنة كان الحديث يدور عن إخفاق المشروع النهضوي الأوّل، وتراجع الفكرة الليبرالية، وتقدّمت المشاريع الأخرى كالقومية والماركسية على أنها البديل لهذا المشروع، وها نحن الآن نشهد انتكاسة هذه المشاريع..
نشهد عجزها وانكفاءها وعدم مقدرتها على تجديد نفسها، فبات من الملاحظ ان هذه التيارات غير قادرة على مخاطبة الجيل الجديد، جيل المستقبل، وذلك لأنها لا زالت تعيد إنتاج خطابها القديم نفسه وتقريباً بذات المفردات. وحتى الدعوة الى التجديد تبقى عند حدود السطح فقط،
بمعنى أنها لا تذهب الى عمق الأشياء، وهذا ما شجع على انتعاش التيارات السلفية أو التيارات التي تدعو الى العودة الى الأصول كتعبير عن خيبة الأمل من الواقع الذي تعيشه الأجيال الجديدة، هذا بالإضافة الى حجم المظالم الاجتماعية التي تتعرض لها الشعوب العربية وفشل الدولة القطرية العربية في حلّ المشاكل، التي بدأت تزداد تفاقماً في ظلّ انفجار ديموغرافي وزيادة هائلة في عدد السكان، مما أثّر على تدنّي نسبة الوعي الاجتماعي والثقافي والتعليمي، وعجز الدولة عن تقديم مشاريع لاستيعاب هذه الطاقات الجديدة.
ولو أجرينا مقارنة سريعة الآن بين مصر الأمس واليوم.. مصر المرحلة الناصرية، أياً كانت التحفّظات والملاحظات التي يمكن ان ترد على هذه التجربة أو على هذا المشروع، سنجد ان خطة التنمية كانت تستوعب أيدي عاملة ومشاريع عملاقة كمشروع السد العالي وغيره. الآن هذه الأعداد الغفيرة التي تزج بها المدارس والجامعات سنوياً تصطدم بحائط مسدود، ولذلك فإنها تجد العودة الى الأصول أو الجذور نوعاً من الملاذ.
* لاشكّ ان إخفاق مشاريع التنمية وانكسار الأحلام السياسية في التحرر وإعادة الأرض المحتلة أمور ساهمت كما تفضّلت بدفع فئات من المجتمع للمناداة بالعودة الى الأصول أو الجذور الأولى للحضارة الإسلامية كحلّ للخلاص من واقع مترد وضاغط، ولكن ردّة الفعل الكبيرة من جانب السلطات العربية ساهمت الى حدّ ما في ان تتجه هذه الفئات نحو التطرّف الى حد حمل السلاح، وقد عانى أكثر من بلد عربي من ذلك في السابق، ترى ما أسباب التصادم؟ وما مبرراته؟
ـ ان أحد مفاصل القصور في مشاريع هذه التيارات التي أخفقت سواء كانت في السلطة أو في المعارضة، هو غياب الديمقراطية ولا يحتاج الأمر للبحث أو التقصّي ، إذ تكفي نظرة واحدة لشعارات القوى السياسية الرئيسية العربية التي طبعت المناخ السياسي العربي على مدى عقود، لنلاحظ ان مفهوم الديمقراطية كان غائباً، فلو أخذنا التجربة الناصرية مثلاً،
فسنجد ان الشعار يتكون من ثلاث مفردات: حرية اشتراكية وحدة، وتبدلت مواقعها لدى حزب البعث بحيث أصبحت: وحدة حرية اشتراكية، بينما سيرفع التيار الماركسي شعار ديكتاتورية البروليتاريا، وهي عبارة نافرة حتى في دلالتها اللغوية كنقيض للديمقراطية.
* كانوا يسمّونها ديمقراطية شعبية أو ديمقراطية اشتراكية تعبر عن مصالح الجماهير الكادحة، وليس عن طبقة واحدة تستأثر بالاقتصاد والسياسة، ولكنها مع الأسف انتهت الى بيروقراطية بغيضة، وخسائر فادحة في الاقتصاد؟
ـ قبل التحدث عن الديمقراطية الشعبية أو الشعبوية كما أسماها البعض، لا بدّ من التنويه هنا الى ان غياب أو هشاشة الثقافة الديمقراطية يعود بالدرجة الأولى الى هشاشة التيار الليبرالي العربي، وغياب الثقافة الليبرالية، وهذا طبعاً له جذوره الاجتماعية، حيث أننا افتقدنا برجوازية قوية ومستقلة كتلك التي نشأت في أوروبا، على الرغم من بعض مظاهر بدايتها مبكراً في مصر على يد طلعت حرب وسواه ،
فحتى هذه الفكرة الليبرالية سحقت ووئدت لصالح الديمقراطية الشعبية التي لا ننكر أنها قدمت خدمات واسعة شملت أبناء الفئات الكادحة في التعليم والخدمات الصحية وسواها، ولكنها جميعاً كانت ترتبط بشخص أو بمجموعة حزبية صغيرة، والأحزاب في البيئة المحافظة والمتخلفة والمعادية للديمقراطية تصبح هي أيضاً شكلا من أشكال البيروقراطية والتسلط.
* يتحدثون أيضاً عن ترييف المدن، فهل ساهمت الثقافة الريفية فعلا في تأخر البلدان العربية عن عملية التحديث؟
وهل تأثر الفكر بهذه الثقافة؟ ـ ان أحد الموضوعات الرئيسة التي لم تبحث بشكل كاف هو موضوع ترييف بنية المدينة العربية، التحوّل الديموغرافي للمدن العربية، أي ان جهد البحث العربي انصب على الحديث عن الصراع الاجتماعي والطبقي، أو أحياناً أخذ منحى ذهنياً بالحديث عن "أزمة العقل العربي" و "بنية العقل العربي" ولا يريد المرء ان يقلل من أهمية هذه الأبحاث والجهود، ولكن القصور كان واضحاً في مجال دراسة تحولات المدينة العربية، على الأقل منذ منتصف القرن العشرين، فالمدينة العربية خضعت لمتغيرات عميقة ساهمت بدور كبير في الردّة الاجتماعية والثقافية التي نلمسها، أولاً بسبب الهجرة من الريف وإهمال الزراعة، ما دفع بفئات واسعة نحو المدينة التي هي مأزومة بالأصل، وغير قادرة على تقديم خدمات كافية لأبنائها الأصليين، فما بالك بهذه الهجرة الواسعة التي أقامت أحزمة فقر حول المدينة العربية، فاستحالت الى قرية كبيرة، أي على خلاف المدينة كحاضرة ثقافية ومركز حيوي ينبض بالثقافة والتنوير ..
هؤلاء المهاجرون لم يندمجوا بمجتمع المدينة، ظلّوا على هامشها كتجمعات قبلية أو عائلية، يقومون بأعمال خدمية في الغالب، وأعتقد أن هناك جانبا آخر لم يبحث وهو دور المؤسسة العسكرية العربية في هذا الترييف، فبسبب طبيعة الأنظمة التي حكمت في البلدان المفصلية العربية وخاصة في المشرق، وأيضاً بسبب حجم هذه المؤسسة واتّساعها الكبير لضرورات الصراع مع إسرائيل، فلو لم يكن العرب في حالة صراع مع إسرائيل ربّما اختلف الأمر، فهذه المؤسسة العسكرية اعتمدت أساساً على الريف، غالبية القاعدة الاجتماعية قدمت من الريف، وتدرّجت الى أعلى المراتب العسكرية، أما بالنسبة للشبّان الذين يأتون المدينة لأداء الخدمة الإجبارية لا يعودون الى أريافهم بعد ان يألفوا حياة المدينة، والى ذلك فان المدينة العربية تضخّمت وتوسّعت، فبات من النادر ان تجد مدينة عربية غير مليونية.
وهذا ما يفسّر سلفية الخطاب السياسي السائد الآن في الساحة، أي ان التربة الاجتماعية التي نتحدث عنها لم تتفتت، لقد ظلّت حاضرة بقوة في ظل غياب ثقافة التنوير إما بسبب القمع الذي تعرضت له التيارات الحداثية أو لعجز بنيوي يكمن في هذه القوى ذاتها، عجزها عن تقديم خطاب نابع من البيئة المحلية ويدرك خصوصيات وآليات التحوّل الاجتماعي والسياسي في البلدان العربية.
* استكمالاً لما تحدثنا به حول الأسباب الداخلية التي ساهمت بوأد ثقافة التنوير هل تظن ان ثقافة البترول ساهمت الى حدّ ما في دفع الثقافة العربية الى الخلف؟
ـ البترول بالطريقة التي وظّف بها، ساهم ولعب دوراً سلبياً، نعم يمكن الحديث عما يسمى بثقافة النفط، ليس في البلدان النفطية فقط، وإنما في البلدان غير النفطية، وذلك بسبب الهجرة وبسبب نفوذ الرأسمال النفطي وقدرته على التأثير داخل البلدان العربية المختلفة.
النفط بمقدار ما جلب من خدمات ونهضة عمرانية تضاهي ما هو موجود البلدان المتقدمة، لكنه همّش بالمقابل الثقافة والفن وأنشأ جيلاً عبثياً اتكالياً اعتاد الوفرة، وبالإضافة الى ذلك فقد لعب النفط دوراً تخريبياً في إفساد ضمائر المثقفين. لم يوظف النفط في خطط تنموية واضحة ووفق أجندة معينة، وإنما جرى استثمار هذه الثروة في إشادة أقرب الى ان تكون عشوائية،
وهذا لا يعني الدول الخليجية وحدها، وإنما البلدان النفطية غير الخليجية أيضاً: كالجزائر وليبيا والعراق وعائداتها من النفط ضخمة جداً لا تقل، وقد تزيد عن عائدات بعض البلدان الخليجية،، ولم تكن الصورة في هذه البلدان بأحسن حال، بل على العكس يمكن الحديث في بعض الجوانب عن مظاهر ايجابية في بعض بلدان الخليج غير موجودة في البلاد العربية النفطية الأخرى.
* نعود الى المسببات الخارجية، فهناك بعض الاقتصاديين يقولون بأننا خُلّفنا قصداً، وأوربا والغرب عموماً لا يرغب في ان تدخل هذه المنطقة الكثيرة الخيرات في مرحلة الديمقراطية لما سيجّره عليها ذلك من مشكلات، فهل تعتقد فعلاً بوجود مسعى غربي لتخليف المنطقة، بإبقائها منشغلة بالحروب والمشكلات المتعلقة بها؟
ـ شخصياً أتحفظ على منطق نظرية المؤامرة، التي تزعم بأن العرب بالذات دون شعوب العالم وأقوام الأرض مستهدفون! ان العولمة عملية كونية تشمل العالم كلّه بغض النظر عن الأجناس واللغات والأديان، وليس العرب وحدهم مستهدفين، نحن مشمولون بهذا التخلّف، لكن الأمم الأخرى أفضل منا وضعاً وأكثر مقدرة على مجابهة تحديات العولمة: الهند والصين مثلا. يجب ان نبحث عن أسباب الخلل الداخلي، أما ان العولمة تستهدف دمج هذا العالم وتقسيمه من جديد ليبقى العالم الثالث متخلّفاً فهذا صحيح، ولكن لا يخص العرب ولا يستهدفهم وحدهم، إلا إذا توقفنا أمام المشروع الصهيوني وهذا موضوع مستقل تماما،لأنه موضوع معقّد دخلت فيه عوامل كثيرة ولعب دوراً خطيراً في المنطقة من خلال إعاقة مشروع الوحدة والنهضة..
* نحن الآن شئنا أم أبينا ملزمون بركوب هذا القطار المتجه الى ناحية ما، ثقافة الغرب والعالم دخلت بيوتنا، وأبناؤنا الآن يتعاملون مع تقنياته عبر اللغة الانجليزية تحديداً، وهذه الأجيال الآن تتعامل مع ثقافة إنسانية منفتحة تختلف الى حد كبير مع ثقافة الهيمنة والقوة، سؤالنا أين نحن من ثقافة الغرب وحضارته؟ ثمّ ماذا سنقدم لثقافتنا في الألفية الثالثة؟ وكيف سنتعامل مع العالم سيما أنه ليس ثمة مناص من التعامل مع الواقع الجديد سوى التعامل الحضاري، وقد لحظنا مدى همجية ثقافة القوة والعنف؟
ـ ينبغي أوّلاً التخلّص من عقدة الآخر، وعقدة النظر الى الآخر برأيي تتجلى في موقفين متعاكسين تماماً ولكنهما يؤديان الى النتيجة نفسها: أوّلهما النظر للآخر باستعلاء، بزعم أننا نمتلك كلّ الأجوبة عن كلّ الأسئلة، وكل ما هو خارج ثقافتنا فهو منبوذ وكافر ومادي. وثانيهما: هو الشعور بالدونية إزاء ثقافة الآخر.
ما ينقص الثقافة العربية في علاقتها مع الآخر هو الشعور بالندّية، وعلينا ألا ننسى ان الحضارة العربية الإسلامية في مرحلة من المراحل كانت مركز العالم بنفس اللغة بنفس والتكوين، واستطاعت ان تساهم مساهمة فعّالة في ثقافة العالم.
ـ هذا جانب مهم نودّ ان يتمّ التركيز عليه، سيما ان الثقافة العربية الإسلامية عندما نهضت في بغداد لم تجد حرجاً من التعامل مع الثقافات الأخرى، بل وتبني ثقافات الآخرين ونقصد بالآخرين هنا السريان والروم والفرس واليونان والهنود..
ـ الثقافة العربية الإسلامية إضافة الى عناصرها الأصلية كالقرآن والحديث، هي أيضاً الفلسفة اليونانية، هي الثقافة الفارسية، هي ثقافة الروم. والعرب عندما فتحوا العديد من البلدان أخذوا الكثير من الحضارات السابقة واكتسبوا منها العلوم والفنون وحتى نمط المعيشة.
وأعتقد ان أحد أسباب قدرة الثقافة والحضارة العربية الإسلامية على النجاح والبقاء طويلاً لقرون، هو قدرتها على الاندماج والتفاعل مع الثقافات الأخرى دون عقدة، ولم يروا أبداً ما يضير من أخذ العناصر الحضارية المشعّة ودمجها، بحيث أنها لم تبد عناصر نافرة، ولم يتحدث عنها أحد على أنها عناصر دخيلة على الإسلام والثقافة العربية. الآن في زمن الردّة يجري الحديث عن كلّ ما هو قادم من الخارج بصفته عنصراً دخيلاً.
* قبل الحادي عشر من سبتمبر كانت ثمة دعوة جميلة لإقامة حوار حضاري بين الأمم، وقد لبّى المثقفون على مختلف المستويات المحلية والإقليمية والعالمية هذا النداء لمواجهة مقولة صدام الحضارات وقد تبنت الأمم المتحدة هذا المشروع، ثم جاءت الضربة لتوقف كلّ شيء، بل لتعيد مقولة صدام الحضارات الى الواجهة، فتكاد تهدم كلّ ما بناه المثقفون. ما الذي ينبغي علينا فعله كمثقفين عرب إزاء العودة الى الحوار كخيار أمثل..
ـ الأحداث التي استجدت اثر 11 سبتمبر وما تلاها تركت الكثير من الآثار السلبية ، وأكثر من تعرّض لهذه الآثار السلبية هم العرب والمسلمون نظراً للملابسات التي أحاطت بما جرى. الغرب مسئول بدرجة كبيرة عن التهيئة لفكرة صراع الحضارات. أي أنها فكرة غربية أساساً، وهو أمر يدعو للدهشة، إذ في الوقت الذي كنا ننتقد فيه دعاة الانعزال في الثقافة العربية الذين يدعون الى رفض الآخر ورفض الغرب. كان المرء يتوقع من الغرب الليبرالي ان يقاوم مثل هذه المفاهيم، ولكن المفاجأة تأتي من داخل الولايات المتحدة، لتلتقي مع الأسف مع نظيرتها هنا: تطرف في ثقافتنا يقابل تطرفاً آخر داخل الغرب. الغرب مهّد فلسفياً لهذه الفكرة التي قيلت،
وقد أخذ عليها الكثير حينها في الأوساط الثقافية والفكرية، ولكن الدعاية والإعلام الغربيين نفخا كثيرا في نظرية صراع الحضارات، ونهاية التاريخ وهمّشا سائر الأفكار الأخرى المتداولة. ولهذا فمن الطبيعي أنه في الحادي عشر من سبتمبر وجد له العدة النظرية الفلسفية الجاهزة لتبريره، وحتى السياسيين والعسكر في الولايات المتحدة انساقوا الى ذلك. على الثقافة الديمقراطية بذل جهود كبيرة لإعادة الاعتبار لمفهوم حوار الحضارات وحوار الثقافات والأديان والتأكيد مجدداً على ان الثقافة العالمية في النهاية هي ثقافة واحدة ولكن بروافد مختلفة، أي على نقيض العولمة الثقافية التي تدعو الى تذويب الثقافات في نسق ثقافي واحد. أي ردّ الاعتبار لفكرة الثقافة الانسانية الواحدة ولكن بتجارب وروافد متعددة.. التعدد الذي لا يلغي الوحدة.
* أريد ان أستتبع هذا الجانب المهم بجانب آخر أعتقد أنه مهم أيضاً، وهو أنه قبل الحادي عشر من سبتمبر نهضت منظمات المجتمع المدني غير الحكومية لمعارضة العولمة فنشطت في الغرب أولاً ثم لقيت دعوتها أصداء واسعة في الشرق، وبدأنا نرصد حالة وعي كبيرة فازداد نشاط هذه المنظمات وبدأت تمارس دورها وحضورها وتؤثر في سيرورة العولمة ذاتها. فما دور حركة المجتمع المدني التي بدأت تتشكّل في مواجهة العولمة بعد ان شهدنا جميعاً المظاهرات التي تضمّ عشرات الألوف في باريس وسياتل، ثم جاء المؤتمر الثالث لمناهضة العنصرية والتمييز العنصري في دوربان بجنوب أفريقيا. ألا تظن معي ان العالم يشهد الآن بداية تاريخ جديد وليس نهايته كما ادعى فوكوياما؟ أم أننا نشهد نهاية تاريخ قديم يتداعى؟
ـ نحن في بداية تاريخ جديد ولكن في إطار استمرارية التاريخ، أي بداية عهد جديد من التاريخ، جذوره موجودة في السابق، وربما مع نهاية الحرب الباردة التي أنتجت نظاما عالميا جديداً يتّصف بالغطرسة والزهو بثقافة القوة، فمن يسمع الآن خطابات الرئيس بوش سيلاحظ هذه اللغة، لغة الامتلاءات والأوامر وإجبار العالم على ان يدار من مركز واحد وأن يرضخ للقرارات. فهذه ميزات النظام الجديد الذي قد يستمر لفترة ولكن الى متى؟ التاريخ الإنساني كلّه يؤكّد ان العالم لا يمكن ان يدار من قبل مركز واحد،
وذلك لأن العالم متناقض الرؤى والأفكار والمصالح . حتى العولمة نفسها تنتج عولمة مضادة، وحتى الإرهاب نفسه بات معولماً، الحركة الاجتماعية الواسعة في أوربا التي تناهض العولمة هي أيضاً ظاهرة عولمية، فالعولمة لم توحد العالم فقط وإنما أنتجت نقيضها أيضاً، وبالتالي فانه من السذاجة الحديث عن إيقاف العولمة أو منعها، وهذا يذكّرنا بماركس عندما تحدث عن الرأسمالية بصفتها قوة صاعدة لا يستطيع أحد الوقوف بوجهها، ولم يقل ان هذه الظاهرة يمكن إيقافها، بل على العكس تنبأ لها بالمزيد من الصعود. وأعتقد ان هذا ينطبق على العولمة أيضاً بوصفها رأسمالية العصر الراهن.
* لقد تناولت في كتابك "مزالق عالم يتغير" الجانب الإعلامي وخاصة الصورة وثقافة الصورة، وتحدثت عن ما يسمى الواقع والواقع الافتراضي، وقلت ان الصورة باتت الآن كديكتاتور ما بعد حداثي، يحقق أغراضه من دون سوط، ولكن الصورة كما رأينا في أحداث سبتمبر أنها وحدت مشاعر العالم ضد الإرهاب، وأنها فضحت أنظمة ديكتاتورية، وساهمت الى حدّ ما في فضح ممارسات عديدة ضد حقوق الإنسان، ألا تعتقد معي ان الصورة بقدر ما فيها من السلب فيها الإيجاب أيضاً؟
ـ نعم هذه هي الطبيعة المزدوجة والمتناقضة للرأسمالية. فالرأسمالية في بدايتها لعبت دوراً تقدمياً جداً، والعولمة الآن تلعب مثل هذا الدور في العديد من الجوانب بما فيها الدعوة لإشاعة ثقافة حقوق الإنسان والتعددية السياسية، ولكنها تحمل نقائضها معها، ولكن لاحظ أيضاً ان الصورة ليست محايدة، فثمة أحداث كثيرة لا تبثّ على أجهزة التلفزة، وقد أشرت في كتابي الى ان محطة السي ان الموجّهة للعالم هي غير المحطة التي تبثّ داخلياً والمادة الإعلامية تقنن على المشاهد الأمريكي.
والحرب التي شهدناها على قناة الجزيرة لم يشاهدها المواطن الأمريكي. ان فكرة الواقع الافتراضي نابعة من ان الحدث يبدأ لحظة بثّه بالصورة، ولكن بعض الأحداث لا تبث، ولذلك لا نعرف ان كانت قد حصلت أصلا. العالم اليوم يرى صورة واحدة، لا صوراً مختلفة، والأسوأ من ذلك أننا نسمع تعليقاً واحداً يرافق الصورة بلغات مختلفة.
* في جانب ذكرته أيضاً في كتابك الجديد "مزالق عالم يتغير" عندما وصفت العولمة كقطار منزوع الفرامل، وهو في اندفاعته هذه قد خلّف مآسي كثيرة في بلدان الجنوب الفقيرة والى ذلك فانه آجلاً أو عاجلاً سوف يصطدم بحاجز مهول. ترى ما هو هذا الحاجز؟
ـ هذا الحجم الكبير من المظالم ومن الخراب الذي تلحقه العولمة بمصالح شعوب وأقوام وثقافات، وما حدث مثلاً في 11 سبتمبر بكلّ بشاعته ومع إدانتنا لهذا النوع من الأعمال، الا أنها أيضاً أحد نتائج العولمة، صحيح أنها حركة انتحارية خارج سياق التاريخ، وهي وان كانت عملاً لا أخلاقياً، إلا أنها في الآن ذاته ردّ على عولمة لا أخلاقية، وإذا استمرت العولمة بآلياتها الحالية فان العالم سيشهد الكثير من الهزّات والانفجاريات الاجتماعية التي يمكن ان تفوق التوقّعات، وتقترب من الخيال، فمن كان مثلاً يتوقع هذا النوع من العمليات، ثلاث طائرات مدنية تضرب أهم رموز العولمة!
* وهذا يعني ان الجهات الرافضة يمكن ان تبتدع أشياء جديدة تفوق الخيال أيضاً، وأخطر بكثير مما جرى، فها نحن نشهد الآن بدايات الحرب الجرثومية كإرهاب. وفي ظرف شهرين من الضربات، فهل تعتقد ان شن الحروب على الشر هو الوسيلة الأمثل أم أنه هناك سبل أخرى؟
ـ الثقافة والفلسفة في أوربا كانت تظن ان الخير يتقدّم عبر ثقافة حقوق الإنسان، وعبر الديمقراطية والتكنولوجيا المتقدمة، وكلّ الوسائل التي تحقق النهضة والتقدم فتتضاءل مساحة الشر، انتصار الخير لا يعني هزيمة الشر، الشر أيضاً يتطوّر، يتطوّر في أساليبه، ولذلك يكون عنيفاً ورهيباً، فبلحظة واحدة وخلال ثواني معدودة يموت الآلاف من الناس، ولذلك فان العولمة إذا لم يجر ترشيدها، فإنها ستلحق بالعالم الخراب، فهي لم تتعولم، وإنما ما زالت محكومة بالذهنية القديمة، سيطرة مركز واحد على العالم وإيذاء الشعوب وفق مصالح هذا المركز.
* سنفترض الآن أننا نريد صنع فرامل لهذا القطار الجامح، بحيث يعود الى سرعته الطبيعية، فيقف في محطاته بانتظام، ويقلّ البضائع والمسافرين دون خوف، ودون دماء،فكيف يكون ذلك؟
ـ سيكون ذلك عبر ترشيد العولمة، وإعادة النظر في نظام تقسيم العالم الحالي، ان المدى بات مفتوحاً أمام الرأسمالية في صورتها الجديدة، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وباتت طليقة اليدين ومزهوة بالقوة، وهذا ما يقلق فعلاً. كانت الثنائية القطبية تشكّل نوعاً من التوازن في المناخ الدولي، وتمنح الشعوب هامشاً من المناورة. الآن هذا الهامش ألغي تماماً، ولم يعد أمام الآخرين سوى الرضوخ لرغبات السادة الجدد.
* ثمة مراكز ومؤسسات تركّز الآن في أبحاثها حول العلاقة بين تراكم المعرفة والتقدّم الإنساني من أجل مستقبل الأرض ومستقبل الثقافات وازدهارها والنضال ضد الإقصاء الاجتماعي وبناء السلام.. لا أعرف لماذا نحن لسنا على علاقة بهذه المؤسسات لطالما نمتلك خزاناً رمزياً عالي القيمة سواء في تعميم مفاهيم الخير والخيرات الإسلامية أو ما قبل الإسلامية كثقافة مضادة لثقافة القوة التي لا همّ لها إلا تراكم الثورة وإفقار الآخرين، هل يمكننا كمثقفين عرب ان نعود الى هذه القيم الجميلة أولاً ومن ثمّ المساهمة في إنقاذ هذا العالم الذاهب الى اختناق؟
ـ في هذا الوضع العربي المأزوم أعتقد ان الرهان على الثقافة بات كبيراً جداً، وبشكل خاص بعد هزيمة المشاريع السياسية، لقد بات أمل وطموح أي مثقف ان يتبلور مشروع سياسي بديل على ركام المشاريع التي أخفقت.. لكن تلك ليست مسئولية فرد مفكر، هي مسئولية جماعية وأنا أعول كثيراً على دور المثقفين والثقافة في هذا الجانب، على قدرتها في بلورة بعض المسائل، لأن المشاريع السياسية التي عرفناها لم تجدد نفسها ولا زالت في ثيابها القديمة، فلا توجد فكرة لامعة جذّابة نخاطب بها الجيل الجديد، نحن الآن أمام جيل أوعى ولكن أزمة الديمقراطية في الوطن العربي تدفع بهؤلاء الشباب وجهات غامضة ومخيفة. ثمة حاجة لإعادة الاعتبار للفكر التنويري النهضوي، ولكن بآليات جديدة.
وهذه مهمة المثقفين عبر ورش مختلفة: ورش فكرية ومناقشات وأسئلة وأبحاث تنشر وتحاور، ويمكن لهذا النشاط في غياب البديل الواضح ان يساهم في توليد بعض الأسئلة التي تمهّد لوجود مشروع عربي كبير يأخذ العرب نحو الأفضل. أما إذا استمر الحال على ما هو عليه الآن فإننا ذاهبون الى المزيد من الجمود والسبات الطويل.
حسن مدن: دكتوراه في التاريخ الحديث والمعاصر، مدير تحرير مجلة الرافد ورئيس قسم الدراسات والنشر بالدائرة الثقافية في الشارقة، كاتب الزاوية اليومية "شيء ما" بجريدة الخليج الإماراتية.
مؤلّفاته:
ـ زهرة النيلوفر، دائرة الثقافة والإعلام الشارقة 1999.
ـ خارج السرب، دائرة الثقافة والإعلام الشارقة 1999.
ـ الثقافة في الخليج: أسئلة برسم المستقبل، اتحاد كتاب وأدباء الإمارات، الشارقة، 2000.
ـ مزالق عالم يتغير، دائرة الثقافة والإعلام، الشارقة 2001.
البيان الثقافي
الأحد 6 ذو القعدة 1422هـ 20 يناير2002
العدد 106