حاوره: سامر أبو هواش

يعتبر الشاعر البحريني قاسم حداد من أبرز الأصوات الشعرية في العالم العربي، إذ تمتد تجربته منذ السبعينات من القرن الفائت، وتستمر حتى الآن، في إطار من تعدّد الصوت الشعري وتنوّعه، كما يعتبر ناشطاً في المجال الإبداعي والنقدي من خلال مساهمته في عدد من الفعاليات في الخليج وخارجه، كما أنه أول من أدخل الشعر العربي المعاصر إلى الإنترنت عبر موقعه "جهة الشعر" الذي انطلق في 1995 ويضم حالياً عدداً كبيراً من التجارب الشعرية العربية والأجنبية.

التقينا قاسم حداد على هامش مهرجان جرش في عمان، الذي كان من المشاركين فيه.

يلاحظ في قصيدتك ذلك الحضور القوي للمكان، أعني المكان الطبيعي، في مداراته

الواسعة، ولا سيما في وعورته، هل يمكننا اعتبار المكان رافداً من روافد حساسيتك الشعرية؟

ـ انه سؤال فذ حقاً، لأنه يضعني في مهمة اكتشاف ملمح شعري لا أزعم أنني سبق أن أدركته (بالمعنى النقدي للإدراك).
وبالتالي لا اعرف كيف أدخل في جواب جاهز لهذا السؤال.
ولكي نكون أغنياء بصراحتنا ومحصنين ضد المزاعم، فان الشاعر ليس بالضرورة يكون مدركاً (بشكل مسبق، ولا حتى لاحقاً) لكل الملامح الشعرية والمكونات المادية لكتابته، لأن ذلك يحدث عندما لا نكون قد قصدناه بالضبط.
هذه هي الحقيقة بالنسبة لي على الأقل. لذلك فان حضور المكان في قصيدتي، كما تشير، هو شيء قد يكون حدث فيما بعد. فيما بعد الشاعر والقصيدة. القارئ خصوصاً هو الذي يقترح تأثيث مخيلته النشيطة بأدوات القصيدة الافتراضية. وهو فعل حب مضاعف، يحلو لي أن أستقبله كما لو أن ثمة فرصة لقصيدتي لأن تعيش مجدداً.
دعني أقول لك أن لدي شعوراً غامضاً بأنني كنت مرشحاً دائما لفقد مستمر ومحتمل لمكان ما. لا أعني الوطن والأرض كما القضايا الكبرى. لكن المكان الآمن للحب. والحب، عندي هو الحياة كاملة. عندما كتبت لم أفكر لحظة في التعبير عن ذلك. لكنني منذ بدأت وعي الحياة كنت أرى أن البيت والعائلة هما مكاني الكوني الذي لا يضاهى. حتى إنني، من بين أصدقاء كثيرين ورفاق نضال تعرضوا لمغادرة البلد، تفاديت ذلك حتى الآن. لدرجة أنني كنت أشعر بأن الزنزانة في البلد أفضل من جنة الغربة أو المنفى. وكنت كلما التقيت بأصدقائي في منافيهم وغربتهم أوشك أن أجهش بالبكاء لفرط معاناتهم.
المكان هو إذن الجزء الحي من جغرافية وتضاريس الطبيعة. المكان بوصفه آلة الحب الذي يصقل حواس الحياة. أكتشف هذه الحقيقة في تجربة كل نص أكتبه. وإذا حدث أن النصوص الشعرية استوعبت هذه التجربة من حياتي ففي ذلك نعمة أحب أن أحتفي بها. لأنني أعتقد بأن الإنسان لا يستطيع أن يكون موجوداً وقادراً على السعي لحرية وجمال عالمه إلا إذا كان في مكان يحبه ويرتاح له ويأمن النوم والحلم فيه. القصيدة تحاول أن تكون "مكاناً"، لكنها تفشل كثيراً، فهي ليست سوى المكان الافتراضي الذي يؤثث حلم الشاعر بفردوس وشيك، مهدد، محاصر، غامض الطبيعة.

نقاش

قلت في حوار سابق إن النقاش حول شكل القصيدة لم يعد يعنيك كثيراً بمعنى الكلام على النثر والشعر وما إلى ذلك من تصنيفات، وقلت أيضاً إن الشعراء (كائنات لغوية).
يتيح ذلك لنا التساؤل حول مفهوم الشعر اليوم بالنسبة إليك، ثم حول علاقته بالحياة والواقع؟

ـ لست متيقناً بالضبط، لكنني أرى الشعر إذا لم يكن طريقة حياة بالنسبة للشاعر فهو عرضة للعطب والخسران والفضيحة أيضاً. لأنني كنت طوال الوقت، ومنذ أن بدأت علاقتي بالكتابة، أجد نفسي منسجماً مع قناعة كون الشعر هو حياتي الحميمة وطريقتي في النظر والعيش في هذا الكوكب. فليس من المتوقع أن افهم معنى أن يكتب الشاعر شيئاً ويرى شيئاً ويمارس شيئاً ويتخبط في أشياء أخرى. مثل هذه النقائض قد تكون لعبة الخارج، لكن هناك، في الأعماق أعتقد بضرورة وضوح وصراحة وصرامة الرؤية حد الدم.

من هنا أرى أن أساليب الكتابة الأدبية هي أرواح تكتسب طبيعتها من حواس الشخص وطاقته الغامضة في شحذ مخيلة اللغة. وهو ما أعنيه بأن الشعراء كائنات لغوية. أقول ذلك وأحب التأكيد عليه لكي ألفت إلى أهمية الجهر بحق المبالغة في العناية باللغة عندما يتعلق الأمر بالتعبير الأدبي. فليس من الحكمة الزعم بعدم الاكتراث أو التهوين أو لامبالاة الشاعر بلغته لئلا يبدو منصرفاً عن مضمون وموضوع النص منشغلاً باللغة. إنني أرى على العكس من ذلك، فإذا لم ينشغل ولم يعتن ولم يسهر الشاعر على لغة تعبيره فبأي شيء ينشغل إذن؟ ان الانشغال الحميم والعشق العميق للغة هما مهمة الشاعر بالدرجة الأولى، وهما الشرط الذي من شأنه أن يميز شاعراً عن الآخر. أما الموضوعات والمضامين فهي التي لا ينبغي الاكتراث بها أو القلق بشأنها، لأن ذلك يحدث تلقائيا وعفويا وبفطرة الروح في جسد الشخص والنص، انه يحدث تماماً مثلما يحدث الحلم في النوم. لأن تجربة الإنسان هي بمثابة النسغ في الغصون والدم في الأوردة، من الطبيعي أن يتمثلها النص لحظة الكتابة. بل إنها شيء يتحقق دون أن يمكن تفاديه مهما زعم الزاعمون، انه شأن داخلي يحدث في الباطن، غير أن اللغة هي فقط ما يستدعي الاحتفاء والاهتمام والإخلاص والعشق لكي تمتزج بالروح الداخلي للشاعر.

هذا بالضبط ما يجعلني أفهم بأن الكلام ومواصلة الكلام عن التخوم المتوهمة بين الشعر والنثر وأشكال وأساليب التعبير هي ضرب من إهدار طاقة الشاعر في ما لا فائدة فيه لحظة الكتابة. دون أن يمنع هذا بالطبع انشغال النقاد في ما يذهبون إليه من اجتهادات، فهذا شأنهم دائماً. من غير الافتراض بأن الشاعر هو مساهم (نظري) ضروري في هذه العملية. أو التوهم بالافتراض بأن الشاعر سوف يكون قادراً على فهم وتفسير وتنظير كل ما يتعلق بالكتابة. أظن ان في هذا خطأ شائع يتوجب تفاديه. الشعر شيء والكلام عنه شيء آخر.

مرايا

بالرغم من مظهره الذي يوحي بالرزانة إلا أنه عابث من الدرجة الأولى. يرى في أشياء العالم طاقة محبوسة يتوجب إطلاقها من أسرها...).
هذا ما تقوله عن نفسك إذ تنظر في المرآة أو مراياك الذاتية. هل يمكن اعتبار النص الشعري بهذا المعنى، لكونه أثر الشاعر، هو (لشخصية) الفعلية له، التي لا تتسع لها الحياة اليومية على نحو ما، (مجنون ليلى) الذي تماهيت معه في أحد كتبك هو الأخبار التي قيلت عنه، بحيث ليس هناك وجود لمجنون ليلى خارج الخبر؟

ـ هو كذلك بالفعل. النص الشعري هو (الشخصية). وهو أيضاً السؤال المطروح على واقع لا يكترث سوى بشهوة ترويض الوحش الخارج من غابة الناس والخارج عليها. النص هو الشخص إلى حد كبير. لذلك فان الاحتدام الكوني بين الشاعر والعالم يبقى، بدرجات متفاوتة، لحظة اختبار دائمة للطرفين: الشاعر أمام الأجوبة، والواقع أمام الأسئلة. لكي لا يقبل الشاعر جاهزية أجوبة الواقع، ولا ينكر الواقع جوهرية أسئلة الشعر.

كنت أشير دائماً إلى أن الأجوبة الجاهزة هي الآلية التي يستخدمها الواقع لكبح نشاط مخيلة الكائن وحقه في النقض، في حين يسعى الشعر إلى إطلاق طاقة هذه المخيلة على آخرها. وربما رأيت في لحظات كثيرة من حياتي بأن في سعي الشعر إلى تلك الحرية هو تعويض مفترض لغياب الحريات في حياتنا.
كتابي (أخبار مجنون ليلى)، هو أيضاً اقتراح لنقض أجوبة التاريخ القديم (ديناً وسياسة واجتماعاً) التي تريد لنا أن نقبل بفكرة الحب العذري كمفهوم أخلاقي ديني وليس كطاقة إنسانية تستدعي تحقيق الحب الكامل لكي يكون للحياة معنى.
كنت أريد أن أسأل الحكاية عن حقيقتها في مهب حاجة الشخص ككائن إنساني قبل أن يتعرض النص ككائن جمالي لعطب متداول يكرس وهم عذرية الحب في عالم هو بحاجة ماسة لاختراق المعجز من أجل إنقاذ الجمال.

أصدرت منذ مطلع السبعينات عدداً كبيراً من المجموعات الشعرية... هذه التجربة تطوّرت بالطبع عبر السنوات واختلفت، لكن هناك خيطاً ما وحده الشاعر يدركه يربط بين تجاربه كلها، ما هو هذا الخيط، أو الهاجس، أو الإحساس الذي لطالما رافق قصيدتك؟

ـ إذا كان ثمة خيط رافق القصيدة في مجمل النصوص التي كتبتها، فأرجو أن يكون هو فعل الحب والحرية والجمال الذي كان يتوغل بي في تلافيف التجربة: حياة ونصاً. فقد كنت كلما فشلت في حقل الانهماكات المختلفة في حياتي العملية (وهي كثيرة)، سرعان ما أتشبث ببريق الأمل الباقي في الكتابة والشعر، وهو حقل أنهمك فيه وانشغل وأستغرق دون أن يخالجني شعور الإحباط الذي يصادفني عادة في الحقول الأخرى.

الحب والحرية والجمال هما المكونات الجوهرية لكل مشاغل حياتي دون الزعم أنني كنت مصيباً أو ناجحاً في المساعي التي تمثلت في الكتب وغيرها. ودون الثقة بأن الاختلاف بين الكتاب والآخر كان إيجابياً دائماً.
لقد كنت في خضم تجارب متلاحقة في الحياة والكتابة. ثقتي الوحيدة تتمثل فقط في كون هذه الانهماكات تشعرني بأنني موجود وبحقي في هذا الوجود.

الموت

عطفاً على السؤال السابق، أحد مجموعاتك يحمل عنوان (قبر قاسم)، موضوع الموت أو الغياب هل يمكن أن نعتبره محرّكاً أساسياً في شعرك؟

ـ في حضرة سؤال مثيل اقترحت له الجواب التالي. فكرة الموت بالنسبة لي ليست مخيفة فحسب، ولكنها أيضاً غامضة، لأنني لا أعرف أين سأذهب. هذه هي المشكلة بالنسبة لي. أحب دائماً أن أعرف إلى أين تأخذني الطرق. والموت مكانٌ لم يعد منه أحد لكي نعرف ماذا حدث هناك. كما أن الإجابات الجاهزة والغيبية التي تقترحها علينا الاجتهادات الدينية والبشرية ليست فقط غير مقنعة، ولكنها أيضاً غير مطمئنة. ان فكرة الموت لا تحتمل بالنسبة لي، أظن أنها غير عادلة، خصوصاً عندما يحدث ذلك في مقتبل العمر أو في منتصفه أو قبل إنهاء العديد من المشاريع التي أمضى الإنسان سنوات عمره من أجل تحقيقها.
كمثال، ماذا يعني أن أموت قبل أن أنهي كتابة النص الذي أشتغل عليه والمشاريع الثلاثة التي بدأتها في السنوات الأخيرة. هذا أمر غير مفهوم، ولا تفسره لي فلسفات الأديان واللاهوت جميعها.
لذلك ينتابني أحياناً شعور بعدم تصديق ذلك، وارتاح لهذا الشعور لكونه يضع الفكرة جانباً لعبثيتها.
وأخشى أنني حاولت (من غير قصد) أن افتك بفكرة الموت فيما أقترح لنفسي قبراً مبكراً على شاكلتي. لكي أزعم أنني لن أموت أبداً.
من جهة أخرى، إذا نحن سلمنا (لئلا أقول استسلمنا) لفكرة الموت، سوف يرعبني حقاً الطريق إليه، أو الوسائط الجهنمية التي ربما لا أستطيع تفاديها. وأعني حالات العجز والشيخوخة أو المرض. ان هذا سيكون أكثر ضراوة من الموت. لذا أفكر دائماً، أعني أتمنى أن أموت فجأة، أموت وأنا قادر على الحياة. وأخشى أن أقول برغبتي في الموت سريعاً. قبل النهاية. مثل الكفّ عن قراءة الشعر قبل سأم القاعة.
سيبدو الأمر ضرباً من العبث الفظّ. حتى من غير أن نجهد النفس للتعمق في الوجود، فقط علينا أن نشاهد الموجود. إنني في منطقة العبث تماماً، ولا أجزم بقدرتي على الخروج سالماً.
أحياناً أصاب بحالة من لا معنى لحياة الإنسان. هذا الإنسان الذي بذل تاريخاً كثيفاً من التضحيات عبر التاريخ البشري لكي يهنأ بلحظة كريمة ومكان آمن دون جدوى. ترى لماذا أرادت الآلهة لهذا الكائن أن يظل (وإلى الأبد) ضحية العذاب الدائم، وهو الكائن الضعيف الذي أمضى كل عمر خليقته في الصلاة والعبادة. أليس ثمة آلهة ترأف به لمرة واحدة وإلى الأبد؟ ما هو المعنى الإنساني البسيط للدين؟ هذا سؤال من حق الإنسان على ربه. وسيكون على الله أن يرأف بعباده الذين يستفرد بهم طغاة لا يرحمون.
لكن، من المؤكد بأن قضية الموت هي واحدة من أخطر ما تنهض عليها حالة الكتابة كمفهوم تعبيري يقاوم فكرة الفناء من جهة، والكتابة بوصفها اقتراحاً جمالياً يمنح المشروع البشري غموضاً نبوياً أو قل الوهياً لا تخلو منه مخيلة الشاعر.
فالموت إذن ليس فقط محركاً أساسيا في كتابتي، أظن أنه الحركة الأولى في كتابتي، وربما منذ بواكير ما كتبت إلى نص ( قرين الوحشة) في كتاب (قبر قاسم).

الخاص والعام

نأتي إلى السؤال الذي لا بدّ منه: القصيدة الخليجية، ولعلّي أعيد ربطك هنا بالسؤال الأول، سؤال المكان، هل تشعر بعيداً من تجربتك الخاصة أن هذه القصيدة، لا سيما نثراً، تملك ما تقدّمه ويختلف عن الحساسيات الشعرية العربية الأخرى، وهل نجحت في ذلك حتى الآن؟ أم أن هناك فضاء عاماً تتحرك فيه قصيدة النثر أينما وجدت؟

ـ بوصفها "خليجية" ـ وهذا وصف لا أحبه أبداً ـ ليس من المتوقع أن تشكل أية كتابة إضافة نوعية في ملامح التجربة الشعرية العربية الجديدة. فالتوهم بخصوصية الكتابة في هذه المنطقة أو تلك هو مذهب خطر ولا جدوى منه وليس فوق مستوى الشبهة دائماً. ففي الكثير من هذا الاجتهادات ارتهان للمشاريع السياسية بالية الفكر وخامدة المخيلة. وإذا كان مثل هذا الزعم مفهوماً قبل قرن من الزمان، فإن في هذا العصر سيبدو الكلام ساذجاً.
لكنني أرى إلى العديد من تجارب الكتابة الجديدة في هذه المنطقة باعتبارها سياقاً يكتمل ويرافق مجمل الكتابة العربية الراهنة، مهمة وموهوبة وجديرة. ففي هذه المنطقة أصوات وكتابات هو جزء متصل ومكمل لمشهد الشعر العربي بدون أي قلق فني أو رؤيوي. كنت اقترح (منذ سبعينيات القرن الماضي) تفادي الخضوع لتداول مصطلح (الخليجي) لكي تكون حيوية التجربة قادرة على التعبير عن ذاتها في راحة المطمئن إلى أنه في مكانه الطبيعي شعرياً وإنسانيا، وبمعزل عن أوهام المشاريع الرائجة التي لا تتوقف عن أخذنا إلى المهالك بامتياز.

جهة الشعر

منذ سنوات وأنت تقوم على إطلاق موقع إلكتروني عبر الإنترنت "جهة الشعر"، وهذا الموقع يتطوّر باستمرار، أي أفق ينتظر هذا الموقع اليوم؟

ـ حتى الآن، ومنذ 1995، أصبح موقع "جهة الشعر" واحدا من أهم المواقع العربية التي تطرح اقتراحاً متوازناً لمفهوم وضع الشعر في مكانه الكوني، جميلا، حراً، مرة واحدة وإلى الأبد. وهو موقع صار مرجعاً ومصدراً رصيناً للشعر العربي أولاً وللشعر عموماً، تعتمده جهات واهتمامات مختلفة، من القارئ العادي إلى الدارس إلى الشاعر إلى الباحث إلى الصحافي إلى مراكز الدراسات والمعاهد العالمية.
ولقد اكتسبت شخصياً القدر العظيم من المعرفة من خلال تجربتي في هذا الحقل. كما صار للموقع أصدقاء من شتى بقاع العالم من قراء وشعراء ومترجمين ومؤسسات ثقافية، بعضهم يسهم في تغذية الموقع باستمرار.

قلت دائماً أن هذه الوسائط مستقبل لا يمكن تفاديه. وعلينا الاكتراث به بقدر يتيح لنا اكتساب اللياقة الحضارية لما نزعم إنها الحداثة. فالأمر لا يتجزأ.
ونحن الآن نعمل على الاستعداد لنقلة نوعية تتحول فيها (لجهة الشعر) من كونها مشروعاً فرديا كنت أعمل عليه وحدي، إلى مشروع جماعي يشارك فيه شعراء ونقاد ومترجمون بلغات مختلفة، ومناطق مختلفة من العالم استجابة لمكانة الموقع وذهابه الإبداعي للأفق الرحب الذي فرضته التجربة السابقة.
ولكون الموقع متعدد اللغات فإن الأمر سيكون أكثر تشويقاً ومتعة وفائدة.
أفق هذه التجربة يستعصي على الوصف لا تستطيع أن تصف الأفق لكنك فقط تذهب إليه، وفي هذا كفاية الجمال والمتعة. علينا فقط أن نميز بين وهم اعتبار النشر الالكتروني في شبكة الانترنت وسيلة للانتشار الإعلامي، وبين كونه في العمق طريقة للاتصال الإنساني. لئلا نرتكب الحماقات ذاتها زاعمين أننا نريد الذهاب إلى العالم لتلقينه الدروس، نحن الذين لا نزال نرفل في أمية فك الخط وعمى ألوان الطيف الإنساني.

تعدّد

قمت بتسجيل قصائدك مع موسيقى مرافقة، وقمت بإصدار كتاب مع رسوم لفنان تشكيلي، وآخر مع مصوّر فوتوغرافي، فإذا أضفنا الإنترنت لشعرنا بالحاجة الملحة إلى حضور الشعر ضمن وسائط أخرى أو في حوار معها، ماذا تحدّثنا عن ذلك، هل هو إحساس بأن الشعر لم يعد قادراً على أن يقوم بذاته، أم رغبة جمالية تجريبية لا علاقة لها بموضوع إيصال النص أو الشعر؟

ـ باكراً كنت مولعاً بالفنون التشكيلية. وهو ما جعلني أشارك في كتاب (النهروان) مع رسام بحريني هو جمال هاشم بتخطيطات مبتكرة تتقاسم الكتاب بالتساوي وليس كما لوحات مرافقة ثانوية. فيما بعد كنت أقترب من اكتشاف فداحة ما نخسره في التفريط بالحساسية البصرية في العمل الإبداعي. في الثقافة العربية المتعة البصرية مفقودة لأن حاسة البصر شبه مغيبة. كنت أكتشف ما يشبه القطيعة أو الانقطاع بين الشعر والفنون الأخرى في التجربة العربية. فيما بعد، تضاعف عندي هذا الشعر بالخسارة وأنا أرقب المكتشفات الالكترونية في وسائل النشر والاتصال والتعبير ثم تسارع هذه الوسائط بصورة منقطعة النظير. من هذه الشرفة أشعر بأن التجارب التي تحققت مع مبدعين في فنون تعبيرية بصرية كانت بمثابة المعرفة النوعية التي أغنت حياتي وتجربتي بحساسيات إضافية ما كنت سأنالها بمعزل عن هذه المغامرات الفاتنة.
المهم أن هذا كله يستجيب في العمق مع نزوعي إلى تجاوز التخوم بين أشكال التعبير في الكتابة والعبور إلى حقول نوعية في الأساليب والأدوات وآليات البحث والفن. إنني أتعلم كل يوم أن الأفق الإبداعي يتحقق جماليا كلما تيسر للمبدع أن يبتكر أجنحته للتحليق بحرية وبدون خوف.

أخيراً، المنطقة العربية والخليجية خاصة تغلي بالأحداث السياسية المتسارعة منذ 11 أيلول، هل يتسرّب هذا القلق العام إلى نصّك، وهل نستطيع كشعراء وكتاب أن نبقى بعيدين عن "انفجار" بهذا الحجم يحدث حولنا؟

ـ دعنا نتفق على أن اعتبار أن ما تقوله هنا ليس سؤالاً لكنه جواب نافذ.

جريدة (المستقبل) بيروت - الخميس 4 أيلول 2003