تتعرض خلاله البلاد العربية إلي إقصاء من التاريخ

حسن مخافي
مكناس (المغرب)

سعدي يوسفسعدي يوسف شاعر ينقب عن الأشياء بحواسه الظمآى إلي اكتشاف قارة هي قيد الإنجاز في كل قصيدة ينتهي منها، دون أن تجد سبيلا إلي الاكتمال، وها قد تجاوز السبعين بسنة وقارته الشعرية لم تعثر بعد عن شكلها النهائي. لم تف ثلاثون مجموعة شعرية بالحاجة، لأن سعدي ما زال يحلم بقصيدة تحس بالأنف. رحلته الطويلة إلي القصيدة ليست رحلة عبر الزمان فقط، هي رحلة في الأمكنة أيضا وأساسا. ما إن يعقد ألفة مع مكان ما حتى يغادره مضطرا أو... مضطرا. وبين مكان وآخر يرفض سعدي يوسف الكلام عن المنفى، لأنه يلجأ في كل مرة إلي توطين النفس. هذا علي الرغم من أنه لم يتمتع بمشهد نخيل البصرة منذ ما يقرب من ثلاثة عقود. وقبلها كان يحمل حقيبته متنقلا منذ امتلك ناصية القصيدة التي تستعصي عن الانصياع. أقام في الجزائر حيث كتب أوراق من ملف المهدي بنبركة ، وتقاسم الخبز المر مع الفلسطنيين في حصار بيروت، وخبر العيش تحت أعين المخبرين في عواصم شتي علي طول الوطن العربي وعرضه، قبل أن يحط عصا رحلته الطويلة في لندن... يصر سعدي يوسف علي أنه شاعر مادي بكل إيحاءات الكلمة، ولذلك فإنه لا يتواني عن شحذ مبضعه الشعري من أجل القبض علي تفاصيل تلم شتات الرؤية... رؤية استشرافية تطل علي المستقبل دون أن تشيح عن الماضي، لذلك فإنه يوجه نقدا لاذعا إلي بعض الشعر الحداثي لأن المسألة بالنسبة إليه هي أن يكون الشعر أو لا يكون... من الصعب إجراء حوار مع سعدي يوسف، ليس لأنه يتقن تكييف السؤال بشكل يجعله يحدد جزءا من السياق، سياقه هو، ولكن أيضا لأن الرجل يجر وراءه تجربة طويلة يتعذر الزعم بالإحاطة بكل جوانبها. ومع ذلك، وبسبب كل ذلك، كان لنا معه هذا الحوار...

* الشاعر العربي الكبير الأستاذ سعدي يوسف، مرحبا بك في المغرب وبمدينة مكناس. أود أن أستهل هذا الحوار بسؤال مباشر: بعد أكثر من ثلاثين مجموعة شعرية، وأكثر من خمسين سنة من الإبداع، كيف تقوم تجربتك الشعرية التي يمكن أن تتخذ صيغة الجمع، نظرا لتنوعها وغناها؟

بعد نصف قرن من الكتابة والتجريب أجدني لا أزال في اللحظة الحرجة، وربما هذا الإحساس المستمر باللحظة الحرجة هو الذي منحني قدرة علي الاستمرار في الكتابة، ولربما في محاولة تجديد النص الذي أكتبه. أحيانا تتخذ عملية النص الذي أكتبه طابع مراجعة شاملة وقد تستغرق الانتقالة الجديدة عقدا من السنوات، أو أكثر أحيانا. لكن بعد انتهاء هذا العقد أجدني مرة أخري أمام امتحان قاس أيضا، أحاول فيه محاولة أخري وهكذا... واعتبر نفسي محظوظا لأنه أتيحت لي فرصة الحياة أكثر من بعض الشعراء مثل بدر شاكر السياب الذي توفي مبكرا، وهناك شعراء آخرون رحلوا مبكرين. هذه الحياة الطويلة أتاحت لي فرصة الاستمرار. ومع السنوات تبين لي أنني لا أملك نشاطية غير الشعر. نشاطية أعتمد عليها وأحاول أن أطور فيها الشعر وحده. والآن حياتي الفعلية سواء في التعامل مع الكتابة أو في التعامل مع الطبيعة أو مع العالم بشكل ما، حتى في السياسة أتعامل بما تمليه علي استراتيجية الفن أكثر من النظر إلي تكتيك السياسة بين حين وأخر وبين حدث وآخر.

* من النقاد من يلجأ إلي التحقيب في توزيع تجربتك الشعرية علي هذه السنوات الطوال، منذ بدأت كتابة الشعر إلي الآن. ما هي المحطات الكبرى التي انتابك فيها شعور بأنك حققت تحولا في كتابة القصيدة؟

هذا صحيح إلي حد كبير. ومثلما ينطبق علي، ينطبق علي شعراء آخرين. في معاينتي لما مررت به، يمكن أن أعتبر أن الفترة الجزائرية، أو ما أسميها الفترة المغربية عموما كانت العملية الأساسية في طبيعة انتقال النص الذي أكتبه إلي أفق مختلف، أفق فيه الكثير من التجريب، وفيه إعطاء مسافة واضحة بين الواقع والنص الشعري، وبالأخص الواقع السياسي. لقد أصبحت في هذه المرحلة قادرا علي مراقبة الأشياء. إقامتي بالجزائر جعلتني أنجو من هول متابعة الأحداث السياسية التي كان يعرفها العراق آنذاك بقسوتها وتفرعاتها. لقد كنت من الجزائر أراقب من بعيد بشكل أدي إلي أن النص نفسه يأخذ منحي آخر. كما أن إقامتي الطويلة في الجزائر أتاحت لي أيضا تحسين لغتي الفرنسية وأخذت اطلع أكثر فأكثر علي الثقافة الفرنسية وعلي الشعر الفرنسي. وهذا شيء هام بالنسبة إلي لأنه أضاف إلي اهتمامي بما ينشر باللغة الانجليزية اهتماما بما ينشر باللغة الفرنسية من شعر. وهذه الفترة كانت هي فترة التجريب الحر واتخاذ موقف المراجع. بعد عودتي إلي العراق لم يحدث شيء مهم. ولكن عندما خرجت من العراق مرة أخري سنة 1978 وحتى الآن أخذت عملية محاولة التجدد صورة مستمرة، غير خاضعة للتحقيب، كأنها مستمرة يوميا تحدث بين قصيدة وأخري. وحتى الآن ما أزال في هذه الحمى...

* هل الإشارة إلي مرحلة الجزائر، وإلي مغادرتك العراق مرة ثانية في آخر السبعينيات، باعتبارهما محطتين حاسمتين في تطور القصيدة لديك، أمر يجعل تجربتك الشعرية مرتبطة بالمنفي؟

أنا لا أعتبر إقامتي في الجزائر منفي، ولا إقامتي في تونس أو دمشق أو بيروت منفي. وحتى الآن لا أري في إقامتي في بريطانيا منفي. البلاد العربية هي أرضي وبلادي ولغتي... وهذه مسألة طبيعية. ولذلك لا أشعر وأنا فيها بالغربة. ربما قد أشعر بالحنين، وهو شيء تغلبت عليه مع مرور السنين. لكني لا أنظر إلي حياتي خارج العراق بأنها منفي لأنني أحاول أن أوطن نفسي في الأرض التي أكون فيها. أنا أعتمد علي التقاط المادة الخام من الأرض، من الطبيعة. وهذه المادة الخام هي التي أعتمد عليها في الكتابة. إني لا أكتب القصيدة المجردة وإنما أكتب نصا هو نتيجة ارتطام الحاسة بالمادة الخام. ولهذا يجب علي أن أوطن نفسي، وأن أقرأ الناس والتاريخ والجو السياسي في هذا المكان أو ذاك، وأن أساهم بقدر الإمكان فيه. ومن هنا فإني لا اعتزل السياسة. وحتى الآن أشارك ببريطانيا في المظاهرات التي تقام في الشارع وفي الندوات واللقاءات ذات الطابع السياسي.

* من المعروف أن أهم العناصر التي ضمنت لك الاستمرار كشاعر يحتل مكانة بارزة في المشهد الشعري العربي الحديث، يكمن في نجاحك منذ وقت مبكر في خلق مسافة بين ما هو سياسي وما هو شعري، علي الرغم من انخراطك المبكر في العمل السياسي. هل لك أن تحدد طبيعة هذه المسافة؟

السياسة هي نشاط بشري مستقل بذاته، والشعر نشاط بشري آخر مستقل بذاته أيضا. هذه مسألة أولية. الأدوات مختلفة والنظرة إلي العالم مختلفة. النظرة إلي العالم مختلفة بمعني أن الفن أكثر استراتيجية.

* وضعت عليك هذا السؤال لأن هناك شعراء كان لهم بريق في وقت ما، لأنهم كانوا يعملون علي تمرير مواقف سياسية عبر القصيدة، ولكن هذا البريق انطفأ بمجرد مرور الظرف الذي أملي عليهم قصائدهم. تجربة سعدي يوسف تركز علي شعرية القصيدة في المقام الأول، وهو ما تكشف عنه القصائد التي نشرتها إبان الخمسينيات في مجلة شعر التي كانت تناهض الخطاب السياسي في الشعر، وكنت أحد الشعراء الشيوعيين القلائل الذين تبنت قصائدهم هذه المجلة؟

أنا أعتقد أنني استلهم الماركسية كثيرا في شعري، وفي ما يخص هذه النقطة بالذات، مسألة معالجة الحدث السياسي بطريقة فنية، فإني استفيد من الماركسية ومن اجتهاداتها في علم الجمال. ولكني استخدم كأداة المتناقض الماركسي في اللغة، ويتمثل في هذه اللغة التي تسمي اللغة المادية، تلك هي أداتي. ولو أردت أن أوضح الأمر قليلا حسب المصطلح العربي، فإني أقول باني استخدم الاسم الجامد أكثر من المشتق. لا استخدم المصدر إطلاقا...لأن المصدر مجرد من الزمان والمكان، فهو تجريد. في الفن عموما نستخدم الملموس للوصول إلي مجرد ما، ولكن عندما تصبح الأداة هي المجرد تكون العملية الإبداعية خاطئة. عملية الكتابة ستكون خاطئة لأن الشاعر مثل النحات. النحات في حاجة إلي مادة خام، الشاعر أيضا أداته هي المادة الخام، والمادة الخام هي الاسم الجامد، وهي الفعل. المادية متحركة والاسم الجامد تسمية للمادة الخام. وهذا منطلق ماركسي أفادني كثيرا في كوني استطيع أن أكتب عن كل شيء. وجنبني الرتابة وجعل عيني مفتوحتين دائما علي كل شيء. كل شيء تستطيع أن تخضعه لعملية علاقات كي تنتج قصيدة.

* في شعرك تركيز علي المكان. هل هذا يعود إلي أنك عشت طيلة هذه السنين في اللامكان أو في أمكنة متعددة عبر ما أسميته توطين النفس لكي لا استعمل كلمة منفي التي لا تروقك؟

المكان موجود في الشعر العربي. وقد تم الاهتمام به في العصر الجاهلي الذي أعتبره أهم شعر عربي حتى الآن. القصيدة الجاهلية هي أفضل ما كتب العرب من شعر إذا نظرنا إلي الاحتكامات الفنية الأساسية. هي قصيدة وثيقة وموثقة. والمكان فيها واضح بشكل عجيب. ولذلك فإني لم آت بجديد في هذا. لكن ربما في وقتنا لضياع كثير من الأشياء اتخذ المكان شكلا مختلفا، وهذا هو الطريق الصعب، وقد تعلمته من امرئ القيس ولم آت به أنا.

* قلت ذات يوم إنه لا يمكن قراءة الشعر دون تمثل شخصية صاحبه. هل هذه القولة تنطبق علي الشاعر سعدي يوسف؟

نعم تنطبق علي كثيرا لالتصاق القصائد بحياتي. وهي تفاصيل لحياة طويلة وهذا شيء وارد بالنسبة إلي أحيانا. ولكن الأمر ليس تعميما لأنه في بعض الحالات لا تكون المطابقة بين شخصية الشاعر وبين القصيدة.

* هذا يعني أن الشعر مرتبط بالتجربة الفردية؟

أعتقد أن الأمر كذالك ولكن ليس في الشعر وحده بل الأمر علاقة فنية، علاقة فنية يمكن أن تبني. حتى التلصيق هو تجربة قائمة. بكل

* حتى وإن استعملنا التجربة بالمعني الذي يجعلها مرتبطة بالرؤيا كما يستعملها بعض منظري القصيدة العربية الحديثة، والتي تتقاطع في مدلولها بالموروث الصوفي؟

والله إني لا أفهم شعر التصوف، ما تواتر عن ابن الفارض هو تقليد وديوان ترجمان الأشواق لمحيي الدين بن عربي شعر عادي جدا، ما عدا بعض الأبيات مثل نونيته القصيرة المعروفة. لكن الديوان علي وجه العموم ديوان ضعيف...

* عندما سألت هذا السؤال فإني لم أقصد بالضبط شعر التصوف، وإنما كتابات المتصوفة، فلسفة التصوف، إذا صح أن للتصوف فلسفة ما. المتصوفة بلوروا مفهومهم للرؤيا بشكل أكثر جلاء في كتاباتهم النثرية.

عموما أنا لم أهتم بالمتصوفة لأنهم مؤمنون، ولذلك فإن التصوف محدود الأفق. ولأن التصوف مؤمن فإنه لا يقدم إشكالا.

* طيلة هذه السنوات مما أسميته تجريبا، مررت بأشكال مختلفة من الكتابة. ومن المعروف عنك أنك من المتحمسين لقصيدة النثر، ولو أنك لا تكتب قصيدة النثر إلا نادرا...

صحيح أنا متحمس لقصيدة النثر من حيث المبدأ، من حيث أنها تضيف عنوانا جديدا إلي الشعر العربي وتفتح بابا للاجتهاد والتجديد والتغيير. ولي مآخذ علي ما تراكم منها حتى الآن. فهي لم تتوصل بعد إلى نظام موسيقي معين ولم تستطع أن تخرج من الدائرة المغلقة إلا نادرا، ولم تكتب ببيان عربي سليم في أدبها، وكثير ما يكتبها أناس يجهلون اللغة العربية إطلاقا. وهناك جانب التقليد فيها لما هو منحط في الشعر الفرنسي. تقليد فج يكون أحيانا عن جهالة. هذه كلها مآخذ جدية. وهذا لا يغير من موقفي من أن قصيدة النثر تفتح بابا جديدا في الشعر العربي. ومن المؤسف أن يحدث هذا لأني كنت أتصور أن قصيدة النثر عندما تأخذ مداها ستكون أداة جماهيرية، أداة للتعبير الحقيقي عما يجري في هذه الأرض المعذبة التي هي أرضنا، لكن معظم نماذجها أشعرتنا بالانكفاء وبالخذلان والتقوقع على ذات غير متكونة وتعاني من هشاشة.

* في ديوانك الأخير صلاة الوثني الكثير من قصيدة النثر من حيث هيمنة الصورة وبعض الخلل في الوزن والكثافة اللغوية...هل في كل هذا دعوة إلي تصور توفيقي يجمع بين قصيدة النثر والشعر الموزون؟

أنا أعتبر أن قصيدة النثر باب ينبغي أن يكون جديا في الشعر العربي. لدي مجموعة شعرية كتبتها في أوائل الثمانينيات تحت عنوان، يوميات الجنوب، يوميات الجنون . وهي في معظمها قصائد نثر. إني لا أضع حدودا قاطعة بين الأنواع الشعرية علي الإطلاق. ولذلك أكتب الأبيات العمودية وبحور الشعر من طويل وبسيط، وأكتب قصيدة النثر وقصيدة التفعيلة. واستخدم في بعض الأحيان مقاطع من لغات أخري...

* في كتاباتك الشعرية أيضا تركيز علي اليومي، وهذا من الخصائص التي يمكن أن يتميز بها الشاعر سعدي يوسف عن شعراء آخرين من جيله. فأغلب الشعراء من رواد القصيدة العربية الحديثة يميلون إلي إثارة القضايا الكبرى. هل هذه المسحة التفصيلية ترد إلي اعتقاد بضرورة علاقة الشعر بالمجتمع؟

لست متأكدا إن كان ماركس أو هيجل من قال إن الحواس هي بوابات المعرفة الخمس. أنا اعتمد الحاسة منطلقا للكتابة. الحاسة هي التي تمنح البداية لعملية الكتابة عندي. ومن هنا أجد طريقة للتفصيل. البصر، اللمس، السمع...الحواس كلها تشتغل، وتقيم علاقات بين ما التقطته. ولأني أكتب الشعر كل يوم، وأحيانا أكتب قصيدتين في يوم واحد فإني لا أكتب دون استحضار هذه الملاحظة الجدية الحقيقة. هذه مثلا طاولة عليها كأس ومفرش ومنفضة سجائر، ألاحظ هذه الأشياء بدقة وأقيم علاقات بينها وأعيد تشكيلها ضمن منطق ينسف العلاقات القديمة، يفضي إلي بناء علاقات جديدة بين الأشياء.

* هل في هذا ربط بين الشعر والتشكيل؟

ربما فيما يخص تكوين الصورة واستخدام اللون ودراسته. أنا أهتم اهتماما كبيرا بالفن التشكيلي، وصديقتي أندريانا رسامة. وأنا أتردد علي معارض كثيرة برفقتها، ونتناقش حول قضايا تفاصيل اللوحة وتوزيع الألوان ودلالتها...إلخ. الفن التشكيلي له تجليات عدة في شعري، بالإضافة إلي الموسيقي. أنا استمع إلي الموسيقي في البيت طيلة اليوم بلا انقطاع. وأحيانا لا يحمل النص لدي سوي قيمة موسيقية فقط.

* في شعرك أيضا تعامل خاص مع اللغة. لغتك قريبة من اللغة اليومية، ولكنها تؤسس شعريتها انطلاقا من توظيف خاص....

هي أقرب إلي اللغة اليومية ولكنها متعصبة للفصاحة العربية. أنا متعصب للفصاحة، ولغتي مع ذلك أقرب إلي اللغة اليومية لأنها أقرب في نظرتي إليها إلي المادة الخام، ولذلك يكثر في قصائدي استعمال الاسم الجامد. ومن هنا تأتي الفكرة بأنها عادية، ولكنها في منتهي الفصاحة. أحيانا أستخدم كلمات منقرضة كما يقال أقوم بإنقاذها واستعملها شعريا بطريقة تبدو معها عادية. وأحيانا أخري استخدم النحت اللغوي خاصة في الفعل المزيد والاسم ... مثلا أتذكر أنني استعملت في إحدى قصائدي الكنيسة ناقوسها يرترن بدل يرن . وهو فعل غير موجود في اللغة العربية، ولكن استعماله بهذا الشكل أضفي عليه دلالة أخري.

* استعمال الحواس بالشكل الذي أشرت إليه، والتعامل مع اللغة بصورة أقرب إلي اللغة اليومية التي لا تتعارض مع الفصاحة، هل لكل هذا علاقة بما يمكن أن نسميه النزعة السردية التي تطغي علي أعمالك الشعرية؟

النزعة السردية، أو لنقل المسحة القصصية هي مبدأ أساس لدي. وهذا يكشف عن جزء من جهدي في أن يشاركني القارئ ما أكتب. وفي هذا أخذ بيد القارئ كي يتاح له تتبع النص، فأنا بشكل ما أساعده علي المتابعة. فالمهم في القصيدة في النهاية هو القارئ والمفروض أن يفتح المبدع أعين الناس علي الجمال وعلي الحياة.

* هذا الجنوح نحو استعمال السرد في الشعر يفسره بعض نقادك بأنه ينم عن رغبة دفينة في كتابة الرواية. خاصة وأنك جربت هذا الشكل الأدبي في عملك مثلث الدائرة كما أن لك مجموعة قصصية...

أنا قارئ نهم للرواية، وربما أقرأ الرواية أكثر من الشعر. وأهتم بشكل خاص بالرواية الإفريقية. و مثلث الدائرة هي جهد روائي نشرته، وأصدرت قبل ذلك مجموعة قصصية هي نافذة المنزل المغربي.

* هل هي المجموعة التي تتضمن قصة عن المهدي بنبركة تحمل عنوان غرفة المهدي...

لا أتذكر الآن، ولكني أتذكر ذلك النص الشعري الطويل: أوراق من ملف المهدي بنبركة . فقد كنت في الجزائر عندما اختطف المهدي، وكانت جريدة لوموند الفرنسية تنشر ملفات عن قضية المهدي بنبركة بعد اختطافه. قمت بتكوين شبه أرشيف للقضية، وبالإضافة إلي حديث الأخوة المغاربة الذين كانوا موجودين بالجزائر آنذاك، تكون لدي ملف، كتبت تلك القصيدة علي ضوءه. وحسب ما بلغني فإنه كان للقصيدة صدي كبير بالمغرب، وتداولها الناس علي نطاق واسع.

* استغل هذه الإجابة التي تفصح عن اهتمامك المبكر بشؤون المغرب العربي، لأسألك عن علاقتك بالثقافة المغربية. هل تري فيها إضافة إلي الثقافة العربية بالمشرق؟

كنت دائما أأكد علي البحث في المغرب ضمن ما أسميه المبحث المغربي. في علم الاجتماع وعلوم اللغة والاقتصاد وفي التاريخ والجغرافيا والعلاقات الدولية... وكنت ألتفت في كل هذا إلي الاستمرارية التاريخية للدولة التي لم تتوافر في أي مكان سوي في المغرب. هذه الاستمرارية الحضارية عانت كثيرا وهذا شيء طبيعي. كانت هنالك فترات صعبة جدا ولكن الجسم الأساسي للكيان المغربي ظل حيا وظل فعالا ونشيطا. ولم يقتصر تأثير ذلك علي البلد وحده بل تعدي ذلك إلي أرجاء المغرب العربي. ولهذا فإني أقدر الثقافة المغربية...

* وكيف تنظرون إلي الشعر المغربي الحديث؟

كل الشعراء المغاربة أصدقائي، ولي معهم علاقة قديمة ومتينة. المشهد الشعري المغربي مطمئن. وحتى في فترات الانحسار ظل الشعر المغربي حيا.

* وماذا عن الأوديسة الشخصية التي وعدت القراء بإنجازها ذات يوم...

إلي حد الآن ما زلت في طور التخطيط التفصيلي لهذا العمل. فأنا مصمم على إنجازه. وكنت أوشكت أن أبدأ بها قبل أن يجري في العراق ما جري. وهي مسألة أثرت في كثيرا: لقد كنت في أمستردام مع منظمة العفو الدولية. كنت في غرفتي عندما بدأ قصف بغداد، فأصبت بشلل ليوم كامل، فقدت القدرة علي السير وعلي الحركة. وفي اليوم الثاني تحسن وضعي بعض الشيء... وخلال هذه السنوات الثلاث أنا مضطرب عصبيا بسبب ما جرى وما يجري. هذا عرقل كثيرا بداية هذا المشروع. الآن هدأت النفس بشكل ما لأني أعرف أن العراق ستظل على هذه الحال لعشرات السنين. وإذن على أن استمر في مشروعي الشعري وفي كتابة هذا المشروع بالذات.

* قبل غزو العراق بأقل من شهر، قلت إن العراق الحالي زائل أو في حكم الزوال. وتساءلت هل يهل عراق آخر وهل سيتاح لك أن تعيش ذلك العراق الآخر. ما هي توقعاتك الآن بعد مضي ثلاث سنوات علي احتلال العراق؟

عندما تم احتلال العراق كتبت مقالة تحمل عنوان مائة عام من الاستعمار. هذا ما أتوقعه، قرن من الاستعمار. عندما دخلت بريطانيا العراق إبان الحرب العالمية الأولي، لم تخرج إلا بعد نصف قرن. وما يحدث ويحدث الآن شيء شبيه بذلك. وطيلة نصف قرن على الأقل، سيعاني العراق وطأة الاحتلال والحماية والأشكال المختلفة من الحكومات العميلة. وستبدأ من جديد التظاهرات في الشوارع والمطالبة بإغلاق القواعد الأجنبية...

* تردد في كثير من المناسبات أنك لم تترك العراق مستعبدا لتعود إليه مستعمرا...

عندما تركت العراق تركته احتجا على اضطهاد الناس والحكم الدكتاتوري الذي كان موجودا والذي اعتبره استعبادا للبشر. ولم اترك هذا لأعود إلى عراق مستعمرا أشد هولا.

* أما زلت عند موقفك من أنك لن تعود إلي العراق ما دام تحت الاحتلال؟

لن أعود، لن أعود لأنه أولا لم يتبق لي من الإقامة على الأرض إلا الشيء القليل، ولا أريد أن أسيء إلى موقفي والعراق مستعمر.

* ولكنك عدت إلي العراق شعريا في صلاة الوثني...

هذا دفاع عن بلدي وواجب علي أن أفعل ذلك. وواحد من الذين كتبوا عن الديوان قال إنه يمكن أن نسميه ديوان شعر المقاومة.

* هل في هذا عودة إلي ما كان يسمي في الخمسينيات والستينيات شعر المقاومة؟

إني احترم المصطلح كثيرا. فماذا يفعل الفنان تجاه هذا الوضع إن لم يكن مقاوما.

* هل تشعر بأن الشعر العربي يشاركك في منح القضية العراقية كل ما تستحقه من أبعاد؟

لم يحدث بعد تراكم معين بهذا الشأن يسمح بإصدار حكم.

* إذا اعتبرنا أن تطور الشعر العربي المعاصر يخضع لانعطافات تاريخية من شاكلة ما يعرفه العراق. هل يمكن أن يفتح احتلال العراق أفقا جديدا للقصيدة العربية؟

إن حركة التجديد في الشعر العربي حدثت في وقت صعود الحركات الوطنية والجماهيرية. فالشعر الحديث ولد وانتشر مع هذه الحركة. والناس كانوا في أوج عنفوان، وكانوا يتطوعون للقتال في فلسطين. الآن هناك انكفاء سياسي تتعرض خلاله البلاد العربية إلي إقصاء عن التاريخ. هذا واضح في قصيدة النثر التي وقعت تحت وطأة ما هو سلبي. مع تفاوت بين من يكتبونها. فقصيدة الصحراء: محمد باهي للشاعر حسن نجمي، علي سبيل المثال، مليئة بالإحساس بالوطنية والقومية وهي دليل علي أن تكوين الشاعر له دور كبير في الموضوع.

* دعني أسألك سؤالا أخيرا: ما هي القصيدة التي تتمني أن تكتبها، ولم تكتبها بعد؟

القصيدة التي تجمع الحواس كلها في نص واحد، وبخاصة حاسة الشم. هذه مدوخة، كيف تتوصل إلى رائحة عبر اللغة؟ هي مسألة صعبة لكني أظل أحلم بها، وعندما أحققها في يوم ما سأكون سعيدا.

القدس العربي
2006/04/19