التقاه: فادي طفيلي

عباس بيضونهي كتبي المنشورة كلّها جمعت هكذا بكلّ بساطة وبدون أيّ تدخّل.
لم أراجع شيئاً. حتّى أنني لم أفكّر بالأمر. لم أفكّر في مراجعة أشعاري أو مجموعاتي، واعتبرت أن وجود كلّ المجموعات هو أمر لا بدّ منه ولا يمكن مراجعته.
بطبيعة الحال، لو كان الأمر غير ذلك، لو كنت بصدد أنطولوجيا شعريّة مثلاً، لقمت بحذف الكثير. ليس مجموعات فحسب ولا قصائد فقط، بل لقمت بحذف الكثير من ضمن القصائد نفسها. فحين نعيد قراءة أنفسنا، حين نواجه أنفسنا كقرّاء، فإننا نجد الكثير الكثير مّما هو غير مرضٍ، وهذا بحدّ ذاته أمر محيّر. إذ أننا نسأل أنفسنا إن كان من حقّنا أن نلقي أرضاً ما كان في وقت ما، بالنسبة لنا، حيّاً.

كنت، قبل "صور" وقبل "الوقت بجرعات كبيرة"، قد كتبت أكثر من مجموعة شعريّة ولم أنشرها في حينه من دون أيّ سبب واضح، أو ربّما لفوات الوقت. وحين عدت إلى الكتابة في "صور"، وبعدها في "الوقت بجرعات كبيرة"، وجدت أن القصائد السابقة تلك قد باتت خلفي، موجودة على الرفّ حيث اختلطت أوراقها بعضها ببعض وبات من المتعذّر عليّ ترتيبها. بعض تلك القصائد نشر في أماكن متفرّقة، كما ألقي بعضها الآخر في ندوات وأمسيات شعريّة، حتّى بات من الممكن القول أنّها أدّت وظيفتها على نحو ما، أو استثمرت. على أنّها في الواقع قصائد حوت النواة الأساسيّة لعملي فيما بعد.

ما أكتبه الآن هو نصّ قائم عند تقاطع الشعر والنثر والأفكار. وذلك يشكّل لي أملاً، إذا أمكن الحديث عن أمل.

شعر قد يكون خرج من القصائد إلى حيث لا أدري. فالشعر بالنسبة لي، على الأقل، هو حركة ضدّيّة، بمعنى أننا لا نعرف ما هو هذا الشعر أصلاً. فنحن لا نملك مثالاً للشعر سوى الشعر المكتوب نفسه.

والشعر لا يبدو فقط بالنسبة لي من دون تعريف. بل أيضاً من دون ماهيّة فعليّة. كأنّه نوع من الحساسيّة ومن التناول. وبهذا أستطيع أن أجد في كتب علميّة شعراً لا أجده في الكثير من القصائد. فنصّ ألتوسير، مثلاً، عن رأس المال بدا لي شعراً أكثر مما بدا الكثير من القصائد المنسوبة إلى الشعر.
في الواقع أرى أنّه ينبغي التكلّم عن شعريّة النثر. إذ ثمّة شعريّة في الكلام كلّه وينبغي أن تتكشّف كما تكشّفت جماليّة النفايات في الفن التشكيلي. فيكون الشعر إذّاك شيئاً إراديّاً، ويكون بمقدورنا أن نحوّل شيئاً ما إلى شعر.
جماليّة الحطام، التي أتطرّق إليها في كتابتي، قد تدخل في هذا السياق. فهي موازية تشكيليّاً لجماليّة الإفرازات والعالم الـ ما تحت جسدي. إذ أنني أطمح في أن يكون لهذا معادل في الشعر. إنّي لا أكتب طبعاً "بوب آرت" شعري. لكنّي أحبّ وأرغب بأن يكون في الشعر ما هو معادل للـ "بوب آرت".
معظم قصائد الحبّ التي كتبتها في حياتي كانت قصائد عن حبّ راهن كنت أحياه في لحظة كتابتها.

إنّها رسائل حبّ مقصودة، موجّهة إلى عنوان محدّد. وهي، على نحو ما، قصائد ملتزمة، إذ إنّها لا بدّ كانت تكتب وفيها قدر من الرغبة بإرضاء الآخر الذي لا يرضى في النهاية.

تلك القصائد ليست مديحاً للحبّ ولا طلباً له أو تغنّياً به. بل أنّها تتعلّق بسؤال الحبّ الداخلي، وهي تقف هناك حيث يقف هو كسؤال متناقض بحدّ ذاته.
الحبّ بالنسبة لي سؤال ومشكل. نحن ليس بمقدورنا عيش أي شيء إن لم يكن مشكلاً.

احد المظاهر التي تشير إلى عيش الحبّ هو أنّ يكون ذلك الحبّ مشكلاً، وبالتالي ألاّ يبدو حبّاً أو نوستالجيا أو مديحاً.

الأمر المذكور يبعد شبه هذا الشعر عن شعر الحبّ، وبالتالي عن وعي الشعر التقليدي وعن التغنّي التقليدي بالحب.

فإذا قبلنا في ألاّ يكون الحبّ ملاذاً، فإننا نقبل حينئذ أن يكون الحبّ حياة، أو صراعاً أو مشكلاً.

إشكاليّة الحبّ تكمن في أنّه تطلّب لا جواب عليه. إنّه، ككلّ تطلب قويّ، لا يحظى بتلبية له، كونه يكشف منذ البداية "آخريّة" الآخر.
الآخر هو آخر. تلك هي المرارة الذاتيّة التي ينتهي إليها الإنسان، وذلك حين يكتشف، في النهاية، أنّه وحيد.

إحدى الحبيبات اللواتي كتبت لهنّ قصائد الحب وصفت ما كتبته ذاك بأنّه شعر تشريحي. تشريح.

في العديد من قصائد الحبّ التي كتبتها ثمّة رغبة وميل دائمان لشكر الآخر وإشعاره بمقدار دَيني له. هؤلاء الناس الذين كتبت لهم شعر الحب هم من أنقذ حياتي. دافعي الشخصي تجاه النساء اللواتي كتبت لهنّ القصائد هو قول شكراً. شكراً لكلّ امرأة قبلت أن تقاسمني شيئاً. ونحن في النهاية لا نستطيع تقاسم شيء مع أحد من دون صراع.

المستقبل
الاحد 21 تشرين الأول 2007