قاسم حداد تجربة متميزة في الشعر العربي الحديث، أعلن بشارته منذ عام 1970 وانطلق يبحث عن رأس الحسين الخارج من مدن الخيانة، وهو في رحلته التي ما تزال تنمو نضالا وعطاء بالمعني السياسي والثقافي والانساني، مع اصرار علي حرية الثقافة وحرية الإبداع خارج كل الانتماءات، كموال حزين يلج عتمة ليل داكن دون ان يتوقف عند الإشارات الضوئية.
ولد قاسم حداد عام 1948 في البحرين، ودرس فيها حتى السنة الثانية ثانوي، ثم التحق بالعمل في المكتبة العامة في عام 1968 وانتقل في عام 1980 الي إدارة الثقافة والفنون في وزارة الإعلام.
شارك قاسم حداد في تأسيس أسرة الأدباء والكتاب في البحرين عام 1969، وفرقة مسرح أوال عام 1970، كما ترأس تحرير مجلة كلمات التي تأسست عام 1987، وفي عام 1994 أطلق موقعا علي شبكة الانترنيت عن الشعر العربي باسم جهات الشعر .
القدس العربي التقت الشاعر قاسم حداد علي هامش مشاركته في افتتاح دارة الفنون في دمشق القديمة، وسألته:
* منذ تجربته الشعرية الأولي في ديوان البشارة وحتي آخر أعماله بما فيها نثره، يبدو قاسم حداد مخلصاً لشعرية النص أكثر من اخلاصه للتسميات والتعقيبات؟
كان للتجربة قدرة علي منح الشخص معرفة ما، اذا لم يعتنِ بها أضاع نعمة لا تقبل التعويض. مبكراً انتبهت الي هذا الأفق الرحب الذي يتكشف أمام الموهبة متطلبا الخبرة بلا توقف. الأفق الذي اسمه الكتابة بشتى تجلياتها وبشرطها النوعي: الشعرية.
واذا جاز لي الزعم بأنني تفاديت القناعة في الفن، فثمة تراكم نوعي تيسر لي الإصغاء الي درسه بشكل بالغ الحساسية متجنباً الثقة واليقين والاستقرار في أسلوب ولغة وشكل تعبيري لأكثر من الفترة الزمنية الكافية لشعوري بالقلق وربما الضجر لرتابة الشكل. سميت ذلك: يقين البهائم، وهو شعور لا يليق بالفن والإبداع اللذين أسعي لتحقيقهما في كتابتي.
الشعرية هي الشرط الذي يمنحني الاطمئنان بأنني اذهب الي الأفق بطريقة معقولة. ويبقي بعد ذلك أمر النجاح والفشل بين يدي النص والتجارب.
أما مسألة التسميات وتصنيفات الكتابة فقد صح لي تجاوزها (إجرائياً). بمعني أنني لا أتوقف كثيرا أمام توصيف ما أكتب ما دمت أشعر بأن الشرط الشعري هو المكون الجوهري لممارستي الأدبية. إخلاص الشخص وصدقه فيما يكتب يوفران لحظة حاسمة تسعف الموهبة وأدواتها علي حسن وجمال التحقق.
* ما هو سر الغنائية الكامنة في أشعارك؟
يظل الغناء هو الخيط المنسوج في قماشة الإنسان فيما يبوح منذ الأبد. حتى أنني أعتقد بأن الإنسان حين بدأ يعبر عن نفسه (فنياً) يلزمه ان يميز هذا النوع من التعبير عن (بدائية) ما سبقه بقدر واضح من (الغناء). حتى أنني تصورته يتأمل الكائنات الأخرى في الطبيعة من حوله محاولاً تقليدها والتشبه بجمال ما تفعل، كان يقلد الشجرة وهي تمنح ثمرها الشهي، ويقلد الحديقة وهي تزهر، يقلد الوردة وهي تفوح بالعطر، يقلد الطائر فيما يغرد، يتشبه بالغيم وهو يهطل بالمطر، يقلد النهر وهو يهدر. كل كائنات الطبيعة من حول الإنسان جعلته يفكر (فيما هي لا تفعل ذلك) ان يكون مميزا بينها بضرب من التعبير لا بد له ان يكون جميلا وربما أكثر جمالا كون الإنسان هو من بين الكائنات الأخرى قادرا علي وعي حياته وتاريخه وخبرته وطاقاته. من هنا صار لبوحه المبكر ما يشبه الفرق الواضح بين (الكلام) و(الفن)، بين المشي والرقص. هذا ربما هو الأصل المبكر لمفهوم الغناء في الفن. وفي الشعر سيكون الغناء عنصرا أساسياً في النص. ومن غير الغناء سيكون النص (فقيراً). هل ثمة مصادفة هذا التشابه اللغوي والمعنوي بين كلمتي (الغناء) و (الغني)؟
* وما هي الدوافع لاكتشاف مساحات ما بين الشعر والموسيقي والتشكيل؟
ليست ثمة دوافع بالمعني الغائي والآلي للتجربة. لكن ذهاب المبدع نحو حريات مخيلته من طبيعة الأشياء ان يجد نفسه في هذا الأفق الرحب من وسائل التعبير وأنواعها ومن ثمة وسائطها البالغة التنوع والغني لكي يجعل تجربته مرشحة للجمال والحرية، وربما التقدم النوعي في أشكال وآليات الاتصال وتطور المعرفة الإنسانية سوف تشمل المعني الكوني للفن والأدب، وبالتالي العمق الانساني لماهية الثقافة وحدود فعاليتها في حياتنا.
كل فنون التعبير هي وريثة التجربة الإنسانية وارثها في آن. وهي بالتالي سوف تكون متداخلة ومتقاطعة ومكملة لبعضها البعض يوما بعد يوم. وحين كنت أشعر مبكرا بحاجتي لمتعة الفن التشكيلي لم أكن أتوقع أنني سرعان ما أندفع لمشاركة فنانين تشكيليين تجاربهم في أعمال مشتركة ذات مخيلة بالغة التنوع. وحين عشقت فنون الغناء الشعبي، ثم الموسيقي الكلاسيكية لم أتوقع ان هذا سيكون تمهيدا ثريا لتجارب سوف تغني تجربتي الأدبية وتمنح نصوصي حرية التحليق في آفاق جديدة. غير ان الفنون في هذا العصر هي معرفة أيضا، وليس أقل من الذهاب الجاد نحو تفهم هذه التحولات الكونية في موقع الفنون في حياتنا ومفهوم الفعل الإبداعي وتشغيل مخيلة المبدع وهو يذهب في طريق ونحو أفق لم يعد ممكنا ان يفعل ذلك وحده.
ان ذهابي الي هذا الأفق برفقة مبدعين آخرين يجعل الطريق أكثر متعة وجمالاً حيث رفقة الفنون الأخري في العمل الفني تؤنس وحشة الطريق.
* الي أي مدي يمكن الحديث عن تأثير التجربة السياسية والنضال لقاسم حداد في شعره؟
هو تأثير جوهري من شأنه ان يصقل التجربة ويجعل النص مشحوذا بالنادر من تجارب البشر. ليس بوصفها السياسي ولكن بعمقها الحضاري وتكوينها الانساني. فأهمية تجربة النضال ليست في خطابها ولكن في تخطيها للشخصي الي الكوني العام العميق و الجوهري. وظني أنه كلما تمكن الكاتب من تفادي الحديث عن تلك التجربة وتداولها في العمل العام، تيسر لها ان تنال حقها وحريتها في التحول العميق في تجربته ونصوصه. فالنضال، بالنسبة للمبدع، ليس سطحا ظاهرا ولكنه سلوك صامت يتمثل في المشاعر والمواقف والرؤى الجوهرية فيما يكتب ويفكر ويفعل.
بالنسبة لي، سأرى دائما في تلك التجربة واحدة من بين أهم وأعمق وأجمل التجارب التي ساهمت في صياغتي إنسانيا ورؤيوياً شخصا ونصا، دون ان يكون ذلك حكم قيمة مسبقاً على ما أكتب. لكنها فقط ضرب من مسؤولية تستوجب الوعي.
* رغم رفض قاسم حداد لمفاهيم الوظيفة الشعرية، الا أنه دائم البحث عن الفعّالية الثقافية للشاعر، كتابة، نقد، أماسٍ، مواقع الكترونية، جهات الشعر؟
بالطبع، ثمة فرق واضح وصارم بين سعي الإنسان العام نحو فعل التغيير الحضاري في الحياة والمجتمع بآلية وأدوات وسياقات مناسبة وضرورية، وبين حرية التعبير الفني لحظة الكتابة والفعل الإبداعي.
لدي الإنسان كل ما تتيحه الظروف وملابسات الواقع من أشكال التعبير عن سعيه للفعل الحضاري والنشاط الثقافي العام، هذه مسألة مفهومة ومشروعة وتأخذ طبيعتها من إمكانيات الشخص وما تسمح له الظروف أو تتطلبه الفعالية.
غير ان العمل الإبداعي شأن ذاتي لا يجب التدخل فيه من قبل أية سلطة غير موهبة المبدع ووعيه. وليس من المقبول توقع أية جهة أو سعيها لتوظيف هذه الفعالية الذاتية الحرة لمشروع أو سياق أو منظومة أو مؤسسة أيا كانت قداستها، فالفن أكثر قدسية منها.
* ما هي أسباب تميز الشعر البحريني، والثقافة عموماً في المشهد الثقافي الخليجي؟
الآن سيصعب علينا الكلام عن (الشعر البحريني). صار الشعر هو شعر عربي في العالم. لا أقول هذا تفاديا للوقوع في إقليميات ساذجة فقط، ولكن لان لحظتنا الكونية ، بما تفرضه من فعل اتصال حقيقي عميق، سوف تجعل النص الشعري في البحرين يصدر من ذات اللحظة الكونية التي يصدر عنها الشعر المكتوب في ابعد منطقة في الكتابة العربية (علي الأقل.)
وبناء عليه سيكون كلامنا عن (تميز) الشعر في البحرين ضرباً من المخاطرة غير مأمونة النتائج، بالاضافة الي ما أجد نفسي مضطرا الي التنبيه اليه في السنوات الأخيرة، وهو ما اشعر بأنه سلوك فلكلوري يجعلنا نتكلم عن تراث حديث للفعل الثقافي والأدبي في البحرين كما لو انه حدث يستمر بوتيرة واحدة طوال هذا الوقت.
لا أميل الي تكريس هذا الوهم الذي يحتاج لبعض المراجعة والتبصر. فليس من الحكمة قبول مثل هذه الإطلاقات المتغيرة بلا قدر من قلق البحث. ليس لعدم دقتها الموضوعية في واقع المشهد البحريني فقط، ولكن لظلمها وتجاهلها أو جهلها الفادح لمتغيرات بالغة الأهمية والغني والتنوع في مناطق مختلفة في الخليج و الجزية العربية. أتمني فعلا ان نتخلص من جاهزيات المفاهيم ومعطيات التراث الفلكلوري عن هذه المنطقة من العالم.
* في اطار المشهد الثقافي والسياسي المأزوم عربياً، كيف تري مستقبل الشعر العربي؟
قلت غير مرة لست ممن يعتقدون بحتمية تاريخية تجعل انتقال الأزمات من حقولها السياسية والاقتصادية الي حقل الأدب والشعر و الفنون.
الشعر، علي سبيل المثال، هو فعل حب وفعل مستقبل، مما ينفي خضوعه للسلوك العنيف الذي يتعثر فيه الواقع العربي.
القدس العربي
2006/06/08