زليخة أبو ريشة* حينما يتوقف المجتمع عن مصادرة حق المرأة في الحياة ستنشر المرأة شعرها

ندى ضمرة

أثارت الشاعرة زليخة ابو ريشة في حديثها لـ العرب اليوم قضايا كثيرة ربما أهمها أنَّ التحريم لدينا ذهنية, وهذا التحريم الذي من سلالته التكفير والتخوين, يتناسل في وجوه الحياة المختلفة, وهنا تكمن خطورته, ومن نتائجه خلق أرض خصبة للاختلاف الخادع أو المزيف, أي الاختلاف غير الخلاّق, حيث يصبُّ الجدل والنقاش حول قضايا شكلية تتعلق بالحجاب والنقاب ومصافحة المرأة وسياقتها السيارة, أو قضايا مفروغ منها مثل عمل المرأة على الكاش وسواه, أو قضايا خطيرة مثل تبرير القتل ل¯ (لذميّ) و (الكافر) و (المرتد).! وجريمة الشرف!.
أبو ريشة أكدت على مظاهر تحول الإفتاء الإسلامي إلى كهنوت, مضيفة وهذا ليس من الإسلام في شيء, مؤكدة أن كل ذلك ساهم في عزلة الآداب والفنون خاصة الشعر.

* فهل صحيح أن شاعراتنا العربيات يكتبن عن ظهر قلوبهن?

- الشعر ينفصل أولاً عن أجسادنا إناثاً كنا أم ذكوراً. والشاعرة التي بحثت في رأسها, ونكشت فيما دخله من أيديولوجيا, ستتولى تنظيفه فوراً بخطابٍ جماليٍّ مغاير. وعلى ذلك فالمرأة الشاعرة التي تعيد إنتاج الذكورة الفكرية ليست سوى ذكرٍ يلبس فستان الأنثى. وهؤلاء ينقرضن لحسن الحظ, بفعل غرف الإنعاش التي أنشأتها النسوية العربية للفكر العربي, وبفعل الحساسية الشعرية الجديدة التي تعيد ولادة الشعور في فطرته الأولى. وبذا لم يعد ممكناً ترك التواضعات لتحتل حيِّزَ القصيدة بينما الأنوثة - كمعنىً ومبنىً - تُضام وتُهدَر. ومن جهة أخرى فإنَّ الشعرية النسوية ليست سوى مظهر من مظاهر الحداثة التي غادرت فحولة اللغة والشعر معاً, تلك التي (استفحلت) بسبب انفراد الذكور الأشاوس بالمشهد الشعري!

* بين الحداثة والغنائية ثمة بون شاسع ففي الوقت الذي تدعو فيه الأولى الى التأمل والمشاهدة التفصيلية نجد ان قصائدك تتميز بغنائية مميزة, أين تكمن مهارة الشاعر في الجمع بين الغنائية والحداثة?

- في الحداثة غنائية غيَّرت بنيتها; فبينما كانت القصيدة عربياً تحتفي بالإيقاع الصائتِ, ذهبت الحديثة إلى الإيقاع الصامت أو الهامس. وليس من طلاقٍ البتة بين الحداثة والغنائية. كل ما في الأمر أن الشعر الكلاسيكي - فيما يبدو - قد استنفد إمكاناته في الإدهاش (أعتبر نزار قباني بهذا المعنى كلاسيكياً برغم موقعه على خارطة التجديد) فمضى الشعرُ المغامر إلى مناطق أعمق في التجربة الإنسانية حيث تقلُّ الأصوات, ويكون التأمل. وأما عن شعري فقد مرَّ في مراحل من التجريب ونشدان الاختلاف بحثاً عن صوتٍ مغاير. ولست أدري إلى أي مدى استطعتُ أن يكون شعري وجوداً موازياً لوجودي الفعلي, ولا إلى أي مدى كان وفياً للحداثة التي أومن بها عقلياً وروحياً. ولكني أعلم أنَّ الاحتفاءَ بالمجاز هو صلبُ أيِّ غنائيَّةٍ مهما تتخفى وتمَّحي. وأنَّ المجاز نفسه الذي يدخل في دوراتٍ تفتح أمامه حيواتٍ تتجدَّدُ بها دماءُ الشعر, هو سرُّ أي غنائية. وأنَّه معنى مهم في الإنشاء الشعري وموسيقاه.

* لماذا يبدو المشهد الشعري الأردني شبه خال من الشاعرات خلافا لتوجههن نحو السرد?

- لا أميل إلى هذا التعميم. فالكاتبات قليلات قياساً بالكتاب الذكور. والسبب معروف, ولن أخوض فيه. صحيح أن الشاعرات من جيلي نادرات, وكذلك الساردات, لكن ثمة عدد جديد من الشاعرات الشابات اللواتي يشكلن علامة على طريق لا شعر المرأة فحسب, بل وعلى طريق الشعر العربي عموماً, أقصد نوال العلي, ومها العتوم, وجمانة مصطفى, ورانا نزال, ومريم الشريف وغيرهن. وعندما يتوقف المجتمع عن مصادرة حق المرأة في الحياة (جرائم الشرف), فما بالك بحقها بالحرية التي لا يكون شعر من دونها, فعندئذٍ يكون ممكناً أن تتجرَّأ المرأة فتنشر شعرها الذي لا أشك في أنها تكتبه وتخفيه في ملابسها الداخلية خوف ميتة العار, وسطوة الأهل والمجتمع! فشعر المرأة تحديداً هو لدى مجتمعنا المتخلف بيان واعتراف مكتوب بارتكابِ موبقة الحب المحرمة! وعلى المرأة أن تتحلى بقدرٍ كبير من الشجاعة حتى تُقدِم على نشر أولى قصائدها التي لن تخلو بطبيعة الحال من أثر التجربة الشخصية ومذاق البوح. وفي رأيي أن تحرر النساء الكاتبات مرهون بنصوصهن التي ستشرع لهن الحياة بكل ما تنطوي عليه من مخاطر ومِتَع.

* بين ثقافة التحريم والنزيف في منطقتنا العربية إحتلالاً وتطرفاً, اختلفت كذلك وانقلبت موازين العالم بحيث أصبح مرايا متكسرة أو مفتتة لذواتنا, هل تعتقدين أن هذا هو العائق أو الفارق بيننا وبين الثقافات الأخرى?

- نحن نلتقي مع ثقافات أخرى في التحريم وما شابه; فلدى عدد من بلدان الشرق الأقصى تابوات قد تفوق ما لدينا عدداً. ووضع المرأة في كوريا واليابان والصين ليس كمثل الغرب حتماً, رغم أخذها بأسباب التقدم التكنولوجي والتقدم المادي. إلا أن المرأة هناك ما تزال تناضل من أجل حقوقها, ولكي تغير بالوعي منظومة القيم التي تقهرها وما تزال.
غير أننا نختلف عن غيرنا في موقعنا الجغرافي والتاريخي الذي أهَّلنا لعدد من الاختلاطات القاتلة. فنحن على مرمى حجر من التقدم والحضارة في أوروبا, مستعدون لخلع جميع أثوابنا لكي نلحق بحداثة الشكل, وفي الوقت نفسه, سيطلع منا من يصف لنا الاحتضار على أنه الخلاص!! وسيزدهر تفسيرٌ صحراويٌ للقيم وللدين سيأتي على البقية الباقية من عقلنا المستشهد. وضعُنا صعبٌ, ومخاضنا عسير, ولأرجو أن لا نلد في النهاية جرذاً أو صرصاراً!! غير أننا نختلف عن غيرنا من شعوب وثقافات أنَّ التحريم لدينا ذهنية عبر عنها بعمق المفكر صادق جلال العظم في كتابه المعروف.
وهذا التحريم الذي من سلالته التكفير والتخوين, يتناسل في وجوه الحياة المختلفة, وهذه خطورته. ومن نتائجه خلق أرض خصبة للاختلاف الخادع أو المزيف, أي الاختلاف غير الخلاق, حيث يصبُّ الجدل والنقاش حول قضايا تافهة مثل حجية الحجاب والنقاب ومصافحة المرأة وسياقتها السيارة, أو قضايا مفروغ منها مثل عمل المرأة على الكاش وسواه, أو قضايا خطيرة مثل تبرير القتل ل¯ (لذميّ) و(الكافر) و(المرتد)! والمختلف وجريمة الشرف! وكل ذلك من مظاهر تحول الإفتاء الإسلامي إلى كهنوت, الذي نعرف أنه ليس من الإسلام في شيء. وكل ذلك ساهم في عزلة الآداب والفنون وخصوصاً الشعر. فبينما نكتب الحداثة في مغامرتها الحرة, يكون المجتمع قد بدا مختاراً الأغلال ليرسف فيها. وهنا نطرح أثر الآداب والفنون على الناس, بل جدوى الفن, ولمن نكتب!

* الهوية الصوفية نلمحها كثيرا في قصائدك حتى أنك تنشدين بعض الأناشيد خلال أمسياتك ... ما سبب هذا التأثر? وكيف تؤثر الصوفية في روح الشعر والشاعر?

- الصوفية هي عصير الشعر. ولا يكون شعر دون أخذٍ أو انشداه. وإذا كان التصوف سيراً وسلوكاً في مدارج الحقيقة, فإن رحلة الشاعرة تبدأ من ذهولها عن نفسها وسيرها وسلوكها في ملكوت اللغة وروح الأشياء بحثاً عن الحقيقة الشعرية. الشعر أيضاً بحثٌ عميق عن خلاصٍ آخر. ولذا فإني أُنشد من شعر المتصوفة في أمسياتي حتى أدخل إلى طقس الشعر ولأغادر جسدي وحيداً وراء المنصة يستمع هو الآخر إلى صوتي الممتلىء بأشواق لا يشبهها إلا الموتُ حباً!

العرب اليوم
27 فبراير 2011