حاوره: علي سعـيد

قاسم حدّادبرفقة قاسم حداد، لاشك أن ثمة ما هو جديد ومؤثر. ليس لأن صاحب (ورشة الأمل) يشكل منذ زمن أحد أبرز الظواهر الشعرية الحديثة في الخليج و الوطن العربي وإنما لأن الشاعر البحريني لا يكف عن تقديم مقترحات جمالية وشعرية خلاقة.. وما بين موقع جهة الشعر و مشروعه القادم للنشر "طرفة بن الوردة" يدور الحديث الذي يبدأ أولا من خَيار الأمكنة:

* للمرة الثانية نلتقي في هذا المقهى العصري الحديث ، ماذا يعني بالنسبة إليك هذا الخيار؟

- هذا المقهى عرفني عليه، صديقي الروائي و المصور الفوتوغرافي حسين المحروس الذي يسكن قريبا من هذا المكان (البديع)، وهو أول مرة، اختار هذا المقهى موعدا للقاء وفيما بعد شعرت بأن المكان يتميز بهدوء وحميمية. في الحقيقة أنا لست طارق مقاهي ولا أحسن اختيار الجلوس في المقاهي، ولكن هذا المقهى دفعني إلى أن يكون المكان الذي غالبا ما أدعو فيه و التقي مع أصدقائي.

* هل تكتب الشعر في المقهى؟

- لا، ولكن حدث ذلك مرة أو مرتين، خارج البحرين وكانت أشياء صغيرة. ليس لدي تقليد الكتابة في المقاهي. يمكن طبيعة البحرين لا تساعد أن يكون المرء جليس مقهى، ربما و ربما لأنني "بيتوتي" أكثر.

* على ذكر الأشياء الصغيرة، آخر كتاب أصدرته هذا العام هو (الغزالة يوم الأحد: شذرات)، حدثني عن تجربة كتابة مقاطع شعرية صغيرة؟

- في الحقيقية، فكرة الكتابة "الشذرية" أو الكلمات.. اعتمدتها في قصائد قديمة في البدايات، لكن مع تبلور التجربة تغير الأمر. وأتذكر أنني بدأت أكتب هذه الشذرات هذه في برلين 2008 في فترات متباعدة حقيقةً. نشرت بعضها في زاويتي في جريدة (الوقت)، وفيما بعد استكملت الباقي عندما عدت إلى البحرين، فتكونت مجموعة أجواء شعرت أنها تمثل جانبا من تجربتي.

* ولكن تبدو مفاجئا إلى حد ما؟

- أنت تعرف، ليس لدي موقف مسبق بالنسبة للشكل التعبيري، أشعر أن لحظات التجربة هي التي تقترح شكلها، إذا استطاع الشاعر أن يعبر عن نفسه بشكل "شذرات" أو نص طويل (كتاب) أو مشروع عملٍ أو قصائد نثر. كل هذه أشكال تنبثق في وقتها. ويبقى فيما بعد أن مسألة درجة النجاح والفشل؛ مسالة نسبية؛ المهم هو أن يجد نفسه في هذا النص مهما كان شكله. وهكذا جاءت "الشذرات" في كتاب. وها أنت تقول أنه مفاجئ، هل تقصد على مستوى الشكل؟.

*ربما ولكن أيضا وجدت في هذه النصوص الصغيرة اقترابا أكثر للحظة التي نعيشها حيث ثمة اختزال أكثر للأشياء خصوصا ونحن نعيش في عصر الاتصالات والإيقاع السريع.
- نعم، فيها هذه الومضة والانبثاقة السريعة. هذا جانبٌ إيجابي على الأقل، هنالك قراء أحبوا التجربة لنفس السبب الذي تشير إليه – الصورة الشعرية السريعة، المكثفة والتي تعطي دفقه لمخيلة القارئ.

*فيما يخص المعنى، لاحظت أن في هذه المقاطع جرعة عالية من الحكمة (النسيان صقلٌ للمخيلة) وكأن النصوص أشبه بحكم تقرأ لوحدها كتبها رجل بلا شك ذو تجربة في الحياة؟

- إن جزءا كبيرا من الشعر يتضمن خلاصات لتجربة الإنسان في حياته. وتتفاوت مسألة توصيف المضمون؛ حتى العرب يقولون: (ومن الشعر لحكمة). الحكمة توصيفٌ فلسفي أكثر. وحين يأتي ذلك شعرياً ومن قصدية ذهنية، يكون الأمر محتملاً.

* وقصيدتك تجنح في هذا الاتجاه؟

- لا بد من درجة من التأمل الداخلي يتوالد في حياة الكاتب مع الوقت، وقد لا يظهر هذا في القصيدة الطويلة، قد ينبثق في كلمة صغيرة، وربما هذه الكلمة الصغيرة التي تسميها حكمة، من الخطأ أن تضيف لها شرحاً أو استطرادا؛ فهي شرارة، طاقتها في أن تشعل مخيلة القارئ واستيعابه و اكتسابه لقبس من تجربة الشاعر ورؤاه إذا صح التعبير.

* منذ ما بعد البدايات وقصيدتك تتجه في هذا الاتجاه أي القصيدة التأملية – الحكمة- في حين أن المزاج الشعري العربي في العقدين الأخيرين، مال أكثر نحو قصيدة التفاصيل والشعر اليومي. هل تعتقد أن الإصرار على الكتابة بهذا الأسلوب هو تحد للزمن وإيقاعه؟

- لا أعرف.. أرى أن تعبير (إصرار) لا يناسب الشاعر. في رأيي الشاعر لا يصرّ على شكل أو طريقة تعبير. فهذا يشي بموقف مسبق عند الشاعر، قبل الكتابة. بينما أعتقد أن الشاعر يستجيب لانبثاقاته الداخلية. خوالجه الداخلية إلى أي حد تذهب إلى أي شكل من الأشكال. لا أصرّ شخصياً على أن أكتب النص بهذا الشكل أو ذاك، وإنما أستجيب لحالة انبثاق الصورة وكيف تأتي، تأتي وزنا أو شظية أو شذرة أو نصا طويلا. ربما في بعض النصوص كتبت ما تسميه، قصيدة التفاصيل ولكن لم أكن قاصدا بهذا المعنى. اللحظة الشعرية و التجربة بالذات تستدعي. لا بد أن تكون لدى الشاعر تجربة تستدعي قصيدة التفاصيل كنموذج، أو تستدعي النص التأملي.

* متى لجأت إلى قصيدة التفاصيل؟

- في كتب مختلفة، ربما في (علاج المسافة) و(لستَ ضيفا على أحد). ثمة أكثر من كتاب فيه بعض النصوص التي انبثقت عن تجربة حياتية، فرضت النص اليومي. وأنا أسمي هذا النص: (الملامسة الشعرية للحياة اليومية). ألامس حالة يومية تفصيلية، غالبا ما يعبر عليها الإنسان بلا انتباه. حدث هذا في كتاب (دع الملاك) الذي كتبت معظم نصوصه في باريس. وكذلك (لست ضيفا على أحد) الذي كتبته في برلين. من هنا أقول ان طبيعة التجربة والأشياء والمكان، أحيانا هي من يقترح عليك هذا الأمر. حيث أكون مستجيبا لها، وفي اللحظة التي استجيب أكون غير متوقع بالنسبة لي. وقتها شعرت بأن هذه هي الصيغة و الشكل و السياق يعبران عني فعلا.

* حسنا كيف تنظر لتطور الموهبة الشعرية لدى الشباب و الشابات في الخليج بداية ومن ثم في العالم العربي ككل؟

- انظر. ما يكتب في المنطقة عندنا الآن، هو جزء مرتبط تماما بالتجربة العربية. لا أميل للكلام حول التجربة في الخليج، لأنك عندما تقرأ الآن، تقرأ قصيدة عربية بالتأكيد. هذا أولا و ثانيا: الإيقاع السريع في الحياة كما تحدثنا بالإضافة الى توفر وسائل النشر وتعددها وانفتاحها أكثر من السابق، خصوصاً أكثر من الحال في جيلنا. كل هذا جعل ما يكتب وينشر من التجارب الجديدة عددا كبيرا (كمياً)؛ هذا لطبيعة سهولة وسائل النشر. إذ توفر لنا أشخاص منهم من يطبع لأول مرة أو يكتب أول قصيدة أحياناً.. هذا الأمر جعل المشهد الشعري شائكاً وكثيفاً مثل الغابة، لذلك تحتاج أن تكون مدركاً لأدوات عملك الصارمة أثناء القراءة لكي تمسك بناصية الموهبة الشعرية. وما يختلف بين جيلنا وبين من جاء بعدنا، أننا كنا نجد صعوبات ذاتية وموضوعية كثيرة في حالة الطباعة، ساهم هذا في صلابة وصرامة شروط النشر على الصعيد الأدبي وعلى صعيد الطباعة. وأظن بأن مفهوم التجارب الكبيرة واضحة المعالم التي يصادفها القارئ بعد ما تبدأ في النشر – في أجيالنا- تكون لأنها قد كتبت جزءاً كبيراً من تجاربها دون أن تنشرها. لذا عندما يبدأ الشاعر في نشر تجاربه يكون قد مرّ بمراحل ومراجعات وفشل ومختبرات وقلق قبل ذلك. وما يحدث الآن هو أن الأشخاص يبدأون بالنشر منذ محاولاتهم الأولى. نحن الآن نصادف من ينشر أول قصيدة كتبها في حياته. في حين أنه يحتاج إلى سنوات من التجارب لكي يكون هو متأكد من نفسه أولاً و بأن لديه موهبته شعرية موجودة والقارئ أيضا يتيقن من ذلك. القراء الآن يقرأون تجارب الكاتب لسنوات طويلة دون العثور على الشعر في غالب الأحيان، لأنه يقرأ تلك المحاولات التي بقينا سنوات ونحن نرميها في سلال المهملات. هذا أهم الأسباب التي تربك المشهد وتشوش القراء وتسيء الى الشعر. ما حدث في أجيالنا لا يحدث لدى الجيل الجديد. لا زلت أحتفظ بثلاثة أو أربعة دفاتر فقط فيها مسودات و تجارب لم تنشر، هذا بالطبع غير الذي كنت لسنوات أرميه في سلة المهملات.

* منذ الستينيات؟

- منذ بداية الستينيات موجودة ولم تنشر. فهي محاولات فاشلة فعلا. كنت وقتها فرحا بها و متوهما أنها الشعر. الشعراء الكتاب الآن.. ينشرون كل هذا. وبطبيعة الحال هذا أمر مربك. لأن كل هذا الذي ينشر ليس سوى محاولات في الطريق الى الشعر (عندما تتوفر الموهبة).

*لاشك أنك واجهت هذا الأمر من خلال تجربتك في موقع جهة الشعر؟

- ولا أزال أواجه، وهذا يضعني حقيقيةً في مواقف حرجة و صعبة، لأن عدد ما يصلنا كثيرٌ و نحن مجبرون أن نختار النصوص التي تتوفر فيها الحد الأدنى أو قطعت شوطا في تجاربها. لدرجة أنني أواجه صعوبة حتى في اختيار النصوص التي تنشر في الصحافة الثقافية. أنا متابع للصحافة الثقافية؛ و يوما بعد يوم أجد صعوبة في العثور على نص شعري في هذه الصحافة كي أنتخبه لموقع جهة الشعر. هذه هي الأسباب التي تجعل المشهد الشعري الآن مربكا ومحبطا أحيانا، ويدفع الآخرين لأن يجدوا في كثير مما ينشر، اثباتا على غياب الشعر. وهذه هي المشكلة.

* حدثني عن تجربة موقع جهة الشعر و هذه المغامرة التي بدأت منذ خمسة عشر عاما. كيف تنظر لهذه التجربة الآن، خصوصا، بعد أن العالم كله قد "تأرنت"؟

- أصبح الأمر الآن، يطرح مسؤولية مضاعفة. أولا ان (جهة الشعر) من أبكر المواقع إن لم يكن الموقع المبكر بالنسبة للشعر العربي الحديث. وهو جاء بالنسبة لي امتدادا بولعي بالنشر الالكتروني والذي تعرفت عليه مبكرا. وقد وجدت في (جهة الشعر) امتدادا خصوصاً لتجربتنا في مجلة كلمات بين (1984 – 1992). ولكون هذه المجلة تصدر عن أسرة الأدباء والكتاب في البحرين، تماثل هنالك نوع من الموقف الحرج. فقد كان لدينا منظور فنيّ لما ينشر في المجلة؛ بعض الأصدقاء من أعضاء الأسرة كان لديهم وجهة نظر ترى أنه ما دامت المجلة تصدر عن أسرة الأدباء، فإن كل عضو في الأسرة من حقه أن ينشر فيها، وجاء ذلك الرأي في سياق الكلام عن ضرورة أولية النشر في (كلمات) للكتابة المحلية. هذه وجهة نظر وأحترمها، ولكن هذا لم يكن منسجماً مع الرؤية الأدبية لهيئة تحرير (كلمات) و متعارضا مع منظورنا الفني. فطرحنا فكرة أن يعفونا عن إصدار (كلمات). أردنا أن يحدث ذلك في ذروة حضور المجلة، في حين كان لدينا، وقت توقفها، المواد الكافية لعددين أو ثلاثة، فلم تكن لدينا مشكلة في النص. لقد كانت المجلة تعمل في الأفق الإبداعي العربي بالدرجة الأولى وليس المحلي. وهكذا توقفت المجلة. وفي فترة لاحقة، بدأت أتعرف على النشر الالكتروني و الانترنت وباقتراح من صديقنا عبيدلي العبيدلي في "مؤسسة النديم" الذي دعاني وقال: لم لا ننشئ موقعا للشعر.

* في العام 1996؟

- أجل، فبدأنا بموقع اقترح العبيدلي أن يسميه المتنبي. فقلت له: لا، إذا أردنا أن نؤسس موقعا حديثا يجب أن نختار اسما حديثا لكي لا نقيد ونؤطر بصيغة معينة ونحن نقدم شعرا حديثا..الخ. فاقترحت: (جهة الشعر). باعتباره "سايت" على الشبكة العنكبوتية. وبدأنا بتجربة بسيطة وجدت فيها جماليات شعرية في ما يخص النشر الالكتروني وأيضا كان لدي علاقة بالكمبيوتر سبقت الموقع بسنوات قليلة.
وكالعادة لم ننظر للشعر محليا أو عربيا وإنما نظرنا الى الشعر كونياً هذه المرة، فبدأنا بلغة ثانية (انجليزية) شعرنا بضرورة أن يكون هنالك نص انجليزي ومترجم.
وسرعان ما تولعنا بهذه التجربة، إلى أن اقتنع بعض الأصدقاء بأفق النشر الالكتروني. ولكن وقتها لم يكن هنالك مواقع الكترونية عربية للشعر، حتى أن كثيرا من أصدقائي الشعراء والكتاب عندما كنت أحدثهم عن الموضوع لم يكترثوا بالأمر ولم يشعروا بجدية ما أذهب إليه. كان ثمة من يقول: "ما الذي تفعله، هذا ليس عمليا وليس له أي معنى".
أما أنا فقد أحببت التجربة بسبب نظرتي الى البعد الشعري فيها، حيث استطيع أن أرى قصائد الشعراء العرب تنشر وتصل وتسافر في الزرقة الغامضة.

* ولكن العالم العربي في ذلك الوقت، لم يكن فيه انترنت؟

- هنا جانب المغامرة في الموضوع. إذ يجب أن يكون لديك مخيلة لترى هذا المستقبل. مراراً كنت أقول عن فكرة الانترنت والنشر الالكتروني: "هذا مستقبل لا يمكن تفاديه". وشيئا فشيئا بدأت تنتشر مواقع انترنت في التسعينيات. وكلما وجدت موقعا جديدا لأحد الشعراء العرب، به أشعر رفيقا يؤنس الوحشة في هذه الشبكة. أعتقد الآن أن (جهة الشعر) عملياً، تشكل مرجعا عالميا للشعر العربي. ويتصل بنا عدد كبير من المؤتمرات الأدبية والمهرجانات الشعرية العالمية ومراكز الثقافة والدراسات في الجامعات في كل دول العالم؛ يتصلون إما لأخذ نصوص أصلية أو مترجمة أو يسألون عن أسماء أو عناوين شعراء عرب. وقد تعددت، يوما بعد يوم، اللغات في الموقع. ساهم هذا في تحول " الجهة" لوسيلة اتصال حقيقية للمهتمين بالشعر. صار كثير من الشعراء بالرغم من أن لديهم مواقعهم الخاصة يميلون إلى نشر نصوصهم في (جهة الشعر). ونسعى إلى التعريف بكل موقع جديد بالشعراء والأدباء و الفنانين من خلال وضع "صلة" لهذا الموقع الجديد في واجهة الموقع.

* أنت تعمل على الموقع لوحدك؟

- لا. أنا أحرره أدبيا ومن ثم أرسله للمحررة التقنية في مكتب "النديم".

* ولا يزال النديم؟

- بالطبع فهو شريك مؤسس.

* ولكن لاحظت أنك تنشر أيضا غير الشعر في الموقع؟.
- هذه النظرة الفنية التي ميزنا بها (جهة الشعر) منذ البداية. فالموقع ليس للنص الشعري. رؤيتنا للشعر هو في لغة التعبير الشعرية. ومفهوم الشعرية في العمل الفني.

* تعني بالمعنى الأرسطي القديم (نسبة لأرسطو في كتاب الشعر)؟

- ما نعنيه تحديدا هو مفهوم الشعرية في النص السردي وأحيانا في القصة القصيرة أو في المقالة وكثيراً في الفن التشكيلي. وقد وضعنا ملفا أساسيا للفن التشكيلي والفوتوغرافي. كل هذه حالة شعرية، لقد أسميتها: (جهة الشعر) بالمعنى الأوسع.

*تعني أن يكون للأعمال ذلك الأثر الأدبي ؟

-الجهة ليس لديها موقف مسبق لا من الأجيال ولا من الأشكال. إن سعدي يوسف وأدونيس لهما الحق مثل أي شاعر من الأجيال الجديدة كلما كان موهوباً، لكل الحق الكامل في مشاركتنا في (جهة الشعر).

* ولكن ألا يعتبر هذا نوعا من السلطة لديك كموقع جهة الشعر؟

-من الأفضل في هذه الفترة خصوصا، أن يكون هنالك نظرة صارمة للأشياء. الآن ثمة عدد كبير من المواقع التي تنشر الشعر والأدب، وهي تنشر كل شيء وذلك حقها. لكن ليس بالضرورة أن نكون مقتنعين بما ينشر في تلك المواقع. لذلك نحن نحاول أن نقترح درجة من الصرامة الفنية في اختيار النص، بأن يكون هنالك درجة من الموهبة. هذا ما يدفع البعض لاعتبار النشر في (جهة الشعر) حكم قيمة فنية.

* إلى أي مدى ساهم جهة الشعر في وصول تجربتك الشعرية للآخرين؟

- انظر، لدي موقع شخصي قبل جهة الشعر، ولكني هجرت الموقع كل هذه السنوات. لأنني أصبحت أجد نفسي في (جهة الشعر) بنشر شعر الآخرين. (أرجع الآن لنشر بعض المواد المتراكمة عندي).
أولا: لا أعتبر النشر في شبكة الانترنت وسيلة للانتشار الإعلامي، هذا شرط يصلح لكل شيء ولكن لا يصلح للإبداع. اعتقد أن النشر في جهة الشعر والإنترنت هما وسيلة للاتصال الإنساني والحوار الإبداعي مع الآخر وليس للشهرة ولا الترويج ولا التسويق. ثانيا: باعتباري المشرف على هذا الموقع، نادراً ما أنشر المواد التي تتصل بشعري في (جهة الشعر). هنالك أشياء كثيرة تصدر في الصحف عن كتبي وحوارات معي لا تجدها في جهة الشعر. شخصيا لا أنشرها في "جهة الشعر".

*ترفض أن تكون نوعا من الدعاية؟

- كثيرون يلاحظون هذا. مما يعطي مصداقية للجهة. وهذا يعود ليس لأسباب التزَمُت أو تواضعا وإنما أولا، لأنني أمام نفسي، لا أعتقد بأن كل ما أكتبه جدير بالنشر، وأن ما ينشر عني يجب أن يراه الجميع. هذا من جهة، ومن جهة أخرى يكفيني فعلاً أن أرى نصا لشاعر أو صديق ينشر في الجهة لكي أعتبر نفسي موجوداً، هذه هي القصة. وبالتالي أتفادى نشر كل ما يتعلق بي إلا ما ندر ولأسباب وظروف تتعلق بالطرف الثاني أو حرجا من كاتب المقالة. ولكن في الأخير لا أعطي أولوية للمحرر الجهة.

* أنت غزير في الكتابة و النشر السنوي ولكن إلى أي مدى يتعب هذا الأمر القراء في متابعتك ما تنتج؟

- أولا: ما ينشر متتابعا ليس بالضرورة كتب متلاحقا. تمر علي سنوات لا أطبع شيئا، أحيانا أشتغل على نصوص تتأخر في النشر فتصدر تباعا. الجانب الثاني: كما أشرت لك. النشر ليس حكم قيمة على ما ينشر. هل أبدو حقاً صاحب غزارة في الإنتاج؟ ربما لأنه لا يوجد في حياتي شيء آخر سوى الكتابة. فأنا لا أنشر شعرا فقط. مقالاتي هي وجه آخر لكتابتي. فمن مقالتي الأسبوعية (وقت للكتابة) كنت أميل لاختيار بعض هذه المقالات، لتصدر في كتاب. على صعيد الشعر أحيانا ينتابني شعور متناقض: أما أنني قد كتبت شعرا أكثر من اللازم، أو أنني ما زلت أكتب محاولاتي لكي أبدأ الشعر.
ولكن صعب الإعلان عن الرغبة في كبح الجموح الشعري أو الرغبة في التوقيف عن الكتابة. هذا صعب. لا أملك تفسيرا لما يحدث.

* ذكرتني بتصريحات أدونيس الأخيرة عندما أعلن أنه توقف عن كتابة الشعر و أنه قال كل ما لديه؟

- هذا ليس صحيحا. ربما كانت هذه مزحة عابرة من نقائض أدونيس، والدليل على ذلك أنه قد نشر في جريدة "أخبار الأدب" قبل أسبوع نصا جديدا بعنوان (كونشرتو القدس). ربما كان للشاعر أن يقول كل شيء.. وهنالك شعراء كثيرون أعلنوا ذلك، ولكنهم ما إن يعودوا الى البيت حتى يكتبوا قصيدة.

*و كيف إذا نظرت لتصنيفية أدونيس عندما اختار ثلاثة شعراء عرب، من بينهم أنت كأفضل الشعراء الموجودين؟

- مع احترامي لرأيه و تقديره وهذا شيء أعتز به، لكن من المؤكد أن رأي أدونيس ليس حكماً على الشعراء الآخرين. أعتقد أن لدى أدونيس منظورا يسع العديد من شعراء جيلي. فما تفضل به أدونيس ليس حكم قيمة مطلق، وأنا أعرف أن هنالك تجارب شعرية من جيلي وغير جيلي وهو يعرفهم ولكنها هي لحظة اقترح فيها هذا الاسم. ما هي مقاييسه؟ لا أعتقد أن هذا المقترح نهائي وجازم.

* قاسم.. بعيدا عن الشعر، هل سمعت ألبوم فيروز الجديد؟

-لا، للأسف. أوصيت احد الأصدقاء كان يزور بيروت، ولكنه كان
قد وصل مطار البحرين.

* اعتقد أصبح متوفرا حاليا في البحرين لأنه وصل السعودية مبكرا؟

- حسنا سوف أوصي محمد (ابنه) والألبوم من عمل زياد، أليس كذلك.

* أجل، كنت أود أن نخرج إلى موضوع فيروز ولكنك للآن لم تصغ لأغنياتها الجديدة؟

- فيروز موضوع جميل.

*أنت إلى ماذا تصغي عادة؟

- أحب فيروز في كل الأوقات ومتحمس لتجربتها مع زياد منذ (كيفك أنت) و (البوسطة) مع أن هنالك أناسا يعتقدون أن جو زياد مختلف. غير أن الجانب الجنوني في عمل زياد أنه أنزل الآلهة إلى البشر وصعد بالبشر إلى الآلهة. (يصمت ثم يضيف) أحب الموسيقى بشكل عام .

* وكيف هي علاقة النص الشعري بالموسيقى إذا بدأنا كأول الفنون؟

- اتصالي باللغة اتصال موسيقي بالدرجة الأولى وهذا يتضح من خلال تعاملي مع اللغة. وأجد في اللغة العربية جماليات بلاغية وإيقاعية لا متناهية. لذا أعتقد على الشاعر الجديد الآن وفي المستقبل ودائماً أن يكتشف في اللغة العربية ما لا حدود له من الموسيقى، ولا يقف عند ما قال المتكلمون أن الشعر خارج الأوزان والتفعيلة ليس كذلك. لسبب بسيط أن بحور الخليل والأوزان هي في أصل موسيقاها ناتجة من العلاقات الإيقاعية بين الحروف والكلمات والنحو والصرف. بمعنى أن الخليل بن أحمد لم يأت بشيء جديد من خارج اللغة. البحور هي مجموع هارموني بين المفردات والكلمات وتجاوراتها وإيقاعها اللفظي والموسيقي. لذلك أمام الشاعر الذي يأتي للشعر بدون الأوزان الجاهزة، بحرٌ وكنزٌ غني من الموسيقى. فأنا لا أكتب جملة دون أن يكون فيها سرٌ موسيقيٌ أو جانب موسيقي نثرا كان أو شعرا. من هنا أجد علاقة هائلة بين الموسيقى وبين الشعر وهذا السر الذي يجب أن لا يفرط فيه هذا الشاعر الجديد مما يصله بالإنسان. الإنسان، فيما يتصل بالشعر، سوف يسمع أولا. التقنية البشرية تقوم من خلال اتصال الإنسان بمعظم الإبداع عن طريق الأذن. فيجب أن لا نُفَرِط في هذا الجانب مهما كان الشكل الكتابي الذي نكتبه. حتى الجملة النثرية والمقالة ثمة إيقاع معين يجب أن نكتشفه أو نبتكره ونحافظ عليه. وهذا ما أظنه من الثروات الدائمة في الكتابة الأدبية العربية. لذا تستهويني كل أنواع الموسيقى التي أمسك بالإيقاع فيها وهي مجموعة الإيقاعات الموسيقية.

* حول مشروعك القادم عن طرفة بن العبد.. نحن نعرف أن هنالك كتبا كثيرة حول هذا الشاعر الجاهلي ولكن قراء قاسم ينتظرون قراءتك.. ماذا لو حدثتني عن هذه التجربة الذي استغرقت وقتا طويلا بين برلين و البحرين؟

- هو نص شعري بالطبع. يتكون من مجموعة فصول وأقسام و كتب و ودفاتر وفيه وزن وسرد ونثر وشهادات وسيرة وتاريخ ووثيقة. وكل هذه الأشكال موجودة، شعريا في النص. بسبب علاقتي القديمة بطرفة بن العبد، مررت معه بتحولات وقناعات ومكتشفات شعرية ورؤيوية. في هذا النص أعدت صياغة سيرة طرفة بن العبد. اسم الكتاب سيكون (طرفة بن الوردة). والوردة هي أم طرفة بن العبد.

*لماذا طرفة؟

- بسبب عشقي لهذا الشاعر منذ أن سمعت به لأول مرة.

* في مدرسة الهداية بالمحرق؟

- نعم في مدرسية الهداية، بداية الخمسينيات وكتبت هذا في غير مكان، مع الوقت وتقدم التجربة، شعرت بعلاقة غامضة بيني وبين طرفة؛ ربما استهواني في البداية موقفه الاجتماعي من القبيلة وتحرره. ثم تعرفت على شعره فوجدت بأنه قرين روحي وإبداعي عبر مراحل مختلفة. وقد كتبت عنه عدة نصوص في مختلف مراحل تجربتي باسم طرفة بن الوردة أيضاً. ما يعنيني هو الشاعر والإنسان الآن. بمرافقة طرفة كتجربة إنسانية قرأت هذه حياتنا دون أن أؤرخ. فأنا لست مؤرخا و إنما راءٍ.

* مثلما حدث مع تجربة كتابك (مجنون ليلى)؟

- بحرية أكثر، وبصيغة مختلفة.

* الكتاب هو مشروعك الأساسي في برلين ولكن متى سيصدر؟

- في بداية السنة القادمة لأنه الآن في المطبعة حقيقية.

* وسيترجم؟

-جزء من الكتاب (المختارات) يجري ترجمتها الآن في ألمانيا.

* ما هي دلالة انتساب طرفة إلى أمه في عنوان الكتاب؟

- أعجبني كثيرا اسم (الوردة) أولا. وفي التاريخ لا يوجد معلومات عن الأب، هنالك معلومات قليلة عن الأم. وفي الجانب الفني كثيرا ما استخدمت في نصوصي اسم الوردة في دلالات مختلفة. استخدمتها كثيرا في الإشارة للزنزانة في الاعتقال. كنت أسمي الزنزانة الوردة. وهذا انعكس على أشياء ورموز كثيرة في القصيدة. و اعتقد أن رمز الوردة ما زال يحمل غنىً وتنوعاً يليق بالشاعر في كل العصور.

* أخيرا.. قاسم هل يقلقك مسألة العمر أو الزمن؟

- أبدا. ولا أجد في الزمن خطرا ماثلا، ولذلك أتصرف دائما بأني في بدايات الأشياء، إن كنت في بدايات الكتابة أو الشعر أو الحياة. وهذه علاقتي بالزمن. وهو أمر ينعكس على علاقتي بأولادي وأصدقائي والأجيال الأخرى. أعرف أنني لا أزال معهم أتعلم الأشياء وأكتبها لأول مرة وكل قصيدة أكتبها هي لأول مرة وكأن كل شيء أفعله لأول مرة. اعتقد أن هنالك أشياء قادرة أن أواصل فيها وأكتبها وأعيشها. لا اشعر بالهرم أو الشيخوخة ولا يقلقني هذا الموضوع أبدا. يخبرني الشعر أنه أقوى من الموت.

الرياض
25 نوفمبر 2010