للشاعر البحريني قاسم حداد حصة في الولع, وربما أكثر من حصة في الوجع, ذلك أنه منذ كتاباته الأولي في سبعينيات القرن الماضي يمشي مخفورا بالوعول.
الشعر عنده ليس في القصيدة فحسب, بل في العالم كله. أما اللغة, فإنها دائما قنديله نحو المستحيل في أحدث أعماله, طرفة بن الوردة, تمتزج فنون عدة, حيث يحضر: الشعر, والتشكيل, والموسيقي, والفوتوغرافيا. إنه مشروع حياته الكبير, كما سماه. حلم به علي مدار أربعين عاما, وأنجزه خلال السنوات الأربع الماضية.
عن تجربة طرفة, التي صدرت في ديوان مطبوع ونسخة مخطوطة وصوحبت برسوم تشكيلية ولقطات فواتوغرافية وعرض موسيقي, وعن قضايا ثقافية متعددة, دارت هذه المقابلة مع الشاعر قاسم حداد..
دعنا ننطلق من تلك الجائزة العالمية في الموسيقي(GMA), التي حصل عليها مؤخرا ابنك الشاب محمد حداد عن عمله الموسيقي الذي صاحب أحدث كتبك طرفة بن الوردة. لماذا هذه التجربة دون غيرها أطلقت عليها مشروع حياتك؟ ولماذا سيرة الشاعر العربي طرفة بن العبد بالتحديد, ذلك الشاعر الذي عاش حائرا ومات مقتولا علي يد ملك الحيرة عمرو بن هند؟ هل هي السيرة التي وجدت فيها القدر الأقصي من الشغف بالتمرد, والشغف بالشغف؟
كلما تقاطعت حياة الشاعر مع غور التجارب الإنسانية الأخري, تيسرت لها فسحة حرة من المعرفة. فالشعر, شأن كل إبداع, موهبة ومعرفة في آن واحد. وعلاقتي مع طرفة بن العبد (الشاعر والتجربة) منذ بداياتي الأدبية المبكرة. بدأت بوهم العلاقة التاريخية التي تزعم بكون طرفة من البحرين, وبلغت ذروتها بالتحرر العميق بوعي الشاعر بوصفه تجربة كونية تخترق المكان والعصور.
لقد أخذني طرفة إلي تمرده, وأخذته إلي مستقبل أحلامي الكونية. الشعر يكمن هنا, في هذه المسافة الشعرية التي أعيش من أجلها. وحين يدرك الشاعر ماذا يريد من الشعر في حياته, يكون قد أنجز طريقا مهما في تجربته. ولقد رافقني طرفة في كل مراحل حياتي, بشتي تجلياتها. وكنت كتبت العديد من النصوص متقاطعا معه في مراحل مختلفلة من حياتي وتجربتي الشعرية.
وفي كل لحظة, كنت أراه قنديلا يفتتح مواقع خطواتي, ويمنحني صدق الحب, وصرامة المعرفة. من هنا أسمي ذلك( مشروع حياتي), لقد كنت أسعي أكثر من أربعين سنة إلي تحقيق التجربة, وقد أنجزتها في أربع سنوات, بجناحين من الروح والجسد: ابني محمد بالموسيقي, وابنتي طفول بالفوتغرافيا, كي يتأكد معني أن يكون النص مشروع حياة.
التشكيل والموسيقي حاضران بقوة علي امتداد تجربتك كلها, لكنهما في مشروع طرفة مستقلان بذاتهما إلي جوار الكلمة. هل هو الاستلاب الكامل للمتلقي لتركض حواسه كلها في وديان وسهوب التجربة؟
مبكرا كنت مولعا بالتشكيل, وبالفنون البصرية كلها. وكنت أجد في العمل المشترك مع مبدعين في تلك الفنون تجربة نوعية تضيف متعة وخلقا جديدا في حياتي, فقد كنت أتعلم من تلك التجارب ما يغني حياتي وشعري, ويمنحني لذة الجمالات التي أحبها وتقصر عنها كتابتي. ولقد وجدت نفسي في تجربة طرفة, أثناء الكتابة, في مهب مغامرات فنية مختلفة, منذ كتابة النص بخط يدي علي الورق الفني المختلف, ثم بدأت تتبلور أثناء ذلك بعض الرؤي لتشكيل لا ينتمي سوي للبحث عن آفاق تعبيرية تتصل بالكتابة وشعرية الحياة.
اعتبر البعض,( وهو انتباه يعجبني) أن تجربتي في التشكيل هنا ضرب من تبلور ولعي بالتشكيل ومحاولة لاكتشافات جديدة بعد تجاربي المشتركة مع تشكيليين مكرسين. أي أنني وضعت نفسي في تجربة كثيرا ما تخيلتها أو تمنيتها إذا جاز التعبير. وقد راقت لي التجربة واستمتعت بها. ففي الفن, كلما تحققت متعتك أثناء إنجاز عملك, ساعد ذلك أكثر فرص استمتاع الآخرين بالعمل. والحق أن شيئا من هذا يمكن ملاحظته في معرض إطلاق الكتاب, فنا وكتابة. الحق أن إيقاظ حواس التذوق والاكتشاف والاتصال من شأنه أن يضع الفن في مهب درجات مختلفة من الإحساس بالتجربة ووعيها والتعاطي معها, دون أن يكون هذا حكم قيمة فنية طبعا. إنها بعض من السعي نحو آفاق اتصال بين الحياة والفن في تجربة مخلصة.
الصورة ليست في البصريات فحسب, أقترح أن نكترث جوهريا بالمعني الإبداعي للصورة. فالفنون عموما هي فنون صورة, منذ الصورة الشعرية, حتي الفوتوغرافية. وبالتالي الوسائط الجديدة, التقنية خصوصا, هي وسائط ليست ذات قيمة في حد ذاتها, الإنسان وتجربته وموهبته تجعل الوسائط مبدعة وإنسانية. المبالغة في وهم التقنية تفريط في طاقة حلم الإنسان.
اللغة تاج علي رأس القصيدة.. بماذا تصفها
اللغة, قنديلنا نحو المستحيل.
أين تجد الشعر؟! وهل القصيدة فعل نرجسي في الأساس بوصفها مرآة؟!
الشعر ليس في القصيدة فحسب, إنه في العالم كله. ولا أفهم معني أن يكون الشعر فعلا نرجسيا. فعل الحب ليس كذلك. ثم إن تشبيه المرآة والشعر لا يروق لي أبدا, فليس من الحكمة السهر علي عكس الواقع في الشعر.
هل تفسد الأحداث الطاغية الفن أحيانا؟ وما رأيك فيمن يحاولون إيجاد دور شعري لهم من خلال عملهم كنشطاء وخطباء سياسيين بالأساس؟
ثمة اجتهادات لا تحصي في هذا الحقل. وليس من الحكمة الاعتقاد بوهم صحة وصواب أحد هذه الاجتهادات. فالحياة تسع جميع المجتهدين, وديمقراطية الفن تفترض أننا نري في كل هذه الاجتهادات المختلفة والمتخالفة جزءا من طبيعة الحياة. حياتنا, دون التوهم بضرورة أن نعجب بكل ما يقدمه لنا المجتهدون, في الشعر والفن والفكر والثقافة والسياسة. نحن أشكال كثيرة ذاهبة إلي مصائرها بوسائط متاحة, وعلينا تحية الجميع بشرط الصدق والموهبة والمعرفة.
مع مد موجات الثورات والانتفاضات, يراهن البعض علي الكلمة أكثر من ذي قبل, والبعض يراها انتقلت إلي ظل أكثر هدوءا, بعيدا عن الصخب. هل عظمت أمانة الكلمة أم اضمحلت؟
إذا أنت حسمت أمرك في ما تريده من الشعر والكتابة, يسهل عليك بعد ذلك أن تكون منسجما مع نفسك, وصارما عليها في آن. هل الكتابة وسيلة لمآرب تسعي إلي تحقيقها, أم أن الكتابة هي حريتك في حياتك؟ فليس من العدل الذهاب إلي الغايات وتحقيقها في عربة الإبداع.
قصيدة النثر.. هل هي في طفولتها المتأخرة, أم شبابها, أم كهولتها؟
يتوجب الكلام عن الشعر, تلك تسميات تتصل باجتهاد التفاصيل. الشعر لا عمر له ولا مراحل ولا قوالب. والمبالغة في الخضوع لوهم( قصيدة النثر.., وغيرها) تفريط ظالم في الشعر.
ماذا يحتاج إليه الشعر كي يسترد عافيته, ويعود خبز المائدة؟
الشعر لا يحتاج إلي شيء, ولا يحتاج إلي أحد. لا مواعيد ولا مناسبات ولا قضايا. العالم يحتاج إليه.
ماذا تضيف إليك علاقتك بالأجيال الشعرية الجديدة, في بلدك وفي العالم العربي؟
إنني أتعلم من الأجيال الجديدة كما الدروس التي يلقنني إياها أولادي في العائلة. أشعر دائما بأنني في المستقبل, ويتوجب أن أخلص لهذا الشعور بلا ادعاءات ولا أوهام.
الاهرام- 25 -11-2012