رشيد يحياوي
(المغرب)

في المتاهات الشعريةالقاعات التي تحتضن قراءات شعرية تغص أحيانا بجمهور قد يفوق عدده ذلك الذي يحضر لناقد. هل الشعر مازال يحتفظ إذن بكل جاذبيته أم أن الذي يكذب هذه الجاذبية هو أن الناقد يبيع من كتبه نسبة تفوق بكثير ما يبيع الشاعر!؟
لكن حضور الجمهور لسماع الشعر يشكك في ما يقال عن أزمة في علاقة الشعر القارىء وعن عزوف هذا الأخير عن الشعر، غير أن واقع السوق واقع صادم حين يثبت أن ترويج وتسويق المنتوج الشعري لا يرضي بالمرة طموح الشاعر والناشر. على أننا رغم ذلك يجب أن نبعد مؤقتا الحكم الذي نطلقه من غير رادع حين نقول إن المنتوج الشعري (الديوان) تراجع في سوق النشر. هل تأكدنا فعلا من خلال المقارنة والإحصاء أن الديوان الشعري عرف حاليا تراجعا بالنسبة لمراحل سابقة ؟
ولو أن هذا التراجع حقيقة مؤكدة ، فيجب أن نضعه في مقابل هذا الإقبال المستمر على حضور القراءات والندوات الشعرية . هو ما يجعلنا نستنتج أن الحفرة التي يتعثر فيها القارىء قبل وصوله للشعر، هي الكتابة وشروطها في السوق ، حيث إن حرارة العلاقة بين الشعر وطالبه تتدفق بمجرد أن يحسب هذا الأخير أنه في مأمن من الكتابة ، فلعله يحن لشفوية الأسلاف . ولعلها الرغبة في معرفة الأسماء، ولعله الطمع في الفهم الذي اغتصبته الكتابة.

الجمهور يتساءل عن الشعر وعن سيره ، فيرى أن الشعر إما لا يسير أو يسير نحو الهاوية. فإذا كان لا يسير فهو ميت وإذا كان يسير نحو الهاوية فيجب الا ننجر وراءه . الشعر إذن إما ميت أو في هاوية . أما الشعر نفسه فلا يعرف ما يخلف من حرائق أو رسوبيات أو أعشاب .

الشعر لا يعرف سوى أن يتحدى فهو موجود إذن بالتحدي.

وقد عرفت الساحة الشعرية انتعاشا ملحوظا تمثل في صدور عدد من الدواوين الجديدة . ومنذ السبعينات الى الآن انضاف الى هذه الساحة كم جديد حمل معا أسئلة ظلت مكتومة بسبب الصمت المريب للنقد المغربي الشعري تجاه هذه الإضافات . لقد بقي النقد في مجمله أسير نظرتين : الأولى هي النظرية الصحفية الهادفة للتعريف بالعمل . والثانية هي النظرية الأكاديمية التي تهدف لتجريد الظاهرة الجمالية بمعزل عن المرحلة والتي تبقى مع ذلك بعيدة عن عموم القراء بمن فيهم المبدعون أنفسهم والذين أصبحوا يظهرون تبرما واضحا من إغراق النقد في التقنية والصنعة العالمة أو المتعالمة والتي تجعل العمل مجهولا عند المبدع نفسه .

والسؤال المحير هو لماذا تظهر الأعمال الشعرية وتختفي في صمت ؟ ولماذا لا يتطوع للكتابة عنها إلا أصدقاء الشاعر وخاصة الذين ليس لهم وزن نقدي . ولماذا لا تحتفي بهذه الأعمال إلا الجمعيات الثقافية التي لها قرابة مكانية أو سياسية أو شخصية بالشاعر؟.

إن الجواب عن هذا السؤال كامن في الحالة العامة للساحة النقدية . فهذه الساحة تعرف تراكما كميا ونوعيا لافتا للنظر نمير أنه تراكم يتم في طقس بارد كالصقيع . والمبدعون والكتاب بما يراكمونه من أصناف الكتابة كأنهم يراكمون حطبا مبللا لا يقبل الاشتعال . أو كأنهم يملأون بحرا محاصرا لا تهب نحوه ريح عاصفة لتهيجا. ولا شك أن الكتابة لا يمكن أن تفيد وتستفيد من غير أن تحترق وتهيج.

إن الناظر في الحالة الثقافية المغربية يجد أن الكتب تخرج للأكشاك والمكتبات فتقتني لتوضع بعد التصفح في الرفوف أو تقرأ وتكتم من غير أن تشرح صدرا أو تسيل حبرا.

والطريف أن النقاد والكتاب يستغربون في سرهم وجهرهم هذا الصمت . ولكنهم لا يقومون في نفس الوقت بما يكفي لإشعال الحرائق، والأغرب من كل طريف أن يصبح رفع القلم عند العديد من الأكاديميين يعادل رفع جبل.

إن ساحتنا الثقافية في حاجة لزوابع في الكؤوس . فذلك أحسن على كل حال من أن نبقى نتبع السراب الخادع سنين النفس بأنه يفضي الى ماء سحري سيجعل الميت حيا يرزق .

لقد خلق الشعر العربي الحديث بلبلة مازالت مستمرة ومازال عدد من القراء يعلن تبرمه من هذا الشعر النقاد حائرون في أمرهم. أما ما أصاب نظريات الأدب فأصابهم العي واختلطت أوراقهم فما وجدوا الى هذا الشعر سبيلا.

تبخرت الأسباب التي أثارت النقاش حول الريادة والنشأة ونفدت الموضوعات التي كانت تفري بالمعالجة. وفي مقابل ذلك ظلت قافلة هذا الشعر تسير باحثة لها عن أساليب تمكنها من الاستمرار . تبدأ مشكلة هذا الشعر من سير هذه القافلة . وترجع لسببين : الأول هو أن الموضوعات القابلة للنقاش تم استنفادها بحيث لم تعد معروضة يعرفها الأمي والعالم . والثاني هو كون القافلة على عجلة من أمرها ورياح النقد التي ترافقها على عجلة من أمرها كذلك . فما يكتب هذه السنة يصبح قديما في السنة الموالية. ولا تنفعه يومها عتاقة أو قداسة . بل يهدم وتتهاوى دعائمه ويذهب أثره فمن يغامر إذن بالكتابة عن هذا الشعر مع علمه أنه الى نسيان ؟
في السابق كان هناك تواطؤ ممتاز عند متداولي الشعر بين مصطلحاتهم وبين ما يعتبرونه شعرا . لم يكونوا يختلفون إلا في بعض الجزئيات . كتلك الممثلة في تحديثات الشعراء وإضافاتهم . أو بعض انحرافاتهم الفنية والأخلاقية والدينية وربما وقع الاختلاف بسبب مواقف غير شعرية كالاحتكام للمعيار القديم دون الجديد. ونادرا ما كان يقع اختلاف جذري كالاختلاف حول بعض الشعراء. أشعراء هم أو حكماء؟
أما ما حصل اليوم فهو هروب الكتابة الى منطقة بعيدة جدا عن المصطلح أي مصطلح "شعر" إذ أصبحنا أمام اختلاف ان لم نقل قطيعة بين المصطلح وبين الظاهرة . ودليل ذلك ان الآراء تتباين بمجرد أن تعرض الظاهرة على المصطلح . لكون الظاهرة ليست على مقاس المصطلح . ومع أن المصطلح " شعر " في إحدى تخريجاته القديمة التي يدل فيها على الفطنة الى المعاني ، مصطلح مناسب للتجديد ، فإن آثار القرون الشعرية السالفة بتقاليدها وحمولاتها تجعله غير مناسب لكي يطلق على ما يكتب الآن. (نقصد بصفة خاصة ما يقع الاختلاف حوله من كتابات منسوبة للشعر).

بناء على ذلك ، سيكون من جليل الخدمات ان نبحث " للشعر " الحالي عن مصطلح مناسب يمكننا من أبعاد السؤال التقليدمشكلتنا. الذي نتساءل بمقتضاه عن بعض الكتابات هل هي شعر ؟ وإذا رفعنا هذا المصطلح فليس لكي نضع مكانه مصطلح " كتابة " أو مصطلح " نص " فهذان مصطلحان فيهما تعميم لن يحل مشكلتنا . بل يجب البحث عن مصطلح يكون كافيا في دلالته على الظاهرة. القارىء قد يوافقني على أنه يوجد خلل ما في معرفتنا حين نضع في خانة واحدة قصيدة لامرئ القيس وأخرى للسياب وأخرى لسركون بولص وأخرى لبنطلحة. إذ كيف نسمى الكل شعرا ؟ اللهم إلا إذا كنا نجعل الشعر نمطا لأنواع متعددة، ولذلك نرى أن هذه التسمية المصطلح ناتجة عن خلل ما في تطور المعرفة بمستجدات الكتابة. ومن أسباب هذا الخلل اشتغال النقاد والباحثين بظواهر جزئية وإغفال أسئلة جوهرية تبحث في تشكل النوع الأدبي وفي مصيره.

لقد كان الشعر الحديث في هدايته قد أثار بانحرافاته الدلالية غبارا حجب المعاني وستر المقاصد. وكان هذا الاختيار المستحدث الذي ارتضاه الشعراء قد استعدي عليهم قطاعا واسعا من القاعدة التقليدية لمتداولي الشعر. وبدأنا نقرأ ضمن مقدمة مميزات هذا الشعر مباحث في غموضه ورموزه وأساطيره . ثم انطوت الخمسينات والستينات وخمدت حركة " الحداثة " في السبعينات والثمانينات.

لقد انقشعت الآن الغشاوة التي كانت قد سقطت في الأعين وتحول مبحثا الرمز والأسطورة بصيغتهما الأولى المعروفة الى مبحثين تاريخيين ندرس فى ضوئهما ما استند اليه الشعر الحديث ليكون حديثا وقت ظهوره وتكونه . إذ من منا الآن يجد الحماس الكافي ليطرح بنفس الحدة الأولى هذين المبحثين في شعر العقود الثلاثة الأخيرة ؟
هذا يؤكد أن قضية الغموض لم تكن ناتجة الا عن غشاوة أو قذى في عين القارىء فقارئ اليوم لم يعد يواجه كسابقه عسر الفهم والتواصل مع شعراء اعتبروا من رواد التأسيس والبناء نذكر هنا بنموذج واحد هو شعر السياب .، فبعد استئناس القارىء برموز هذا الأخير أصبح جليا أن شعره لم يعد غامضا (نقصد الغموض الذي يفيد تمنع المعنى والمغزى واحتجاب المقصد). الغموض ليس ناتجا بالضرورة عن الأسطورة . إذ اللغة الشعرية بطبيعتها تميل لأن تكون غير مباشرة. وقد استقرت في الأذهان مفاهيم تترجم لهذا المبدأ منها مفهوما الانحراف والوظيفة الشعرية.

غير أن ما نود أن ننبه اليه حاليا هو ظهور نصوص شعرية لعلها تهجس بتحول في " الحساسية" أو بظهور " اتجاهات " جديدة . وهذه النصوص لأناقة للغموض فيها ولا جمل. لا ينطبق عليها تصنيف الرموز الى أسطورية وتاريخية وشعبية وشخصية .. الخ لا يتساءل القارىء عند قراءتها عن مغزى الشاعر وعن دلالاته وعما يريد أن يقول أما الباحث فليس في حاجة للتسلح بترسانة لتحليلها ، لأنها لا تحجب شيئا يتطلب أن نضع له الكماين لنوقع به ولا تستعصى على المراودة لكي تجبرنا على أن نتفنن في عشقها لاستدراجها . ولا تحوم بنا في ماهر بعيد عنا لكي تستلبنا لبعض الوقت . نصوص واضحة ترصد أشياء مألوفة بلغة لا "انحراف " فيها وهي موجودة مبثوثة في مجلات وجرائد متعددة ويظهر أن منبعها المتدفق أكثر من غيره يأتي من لبنان وسوريا. ولعل دار نشر "الجديد" خير مرجع لما نقصده . دواوين جد صغيرة ونصوص قصيرة أيضا متشبثة بأطراف الصفحات ، لا يكلف الديوان الواحد من هذه السلسلة ربع ساعة في قراءته .

هذه الحساسية الجديدة تنبئ بقدوم حداثة جديدة نقترح لها اسم 0حداثة الوضوح لتكون مقابلا لسالفتها حداثة الغموض . وهذا التحول من الغموض ال الوضوح مطروح على الدارسين ليفسروا أسبابه وليربطوه باختفاء الأحلام وسقوط الأقنعة وتعرى العورات . أما النقاد الذين تربوا في حضن الحداثة السابقة فأمامهم تحد كبير يؤكده صمتهم الراهن عن هذا التحول الجديد. ونرى أن هذا الصمت يثبت أن النقاد لم يملكوا بعد مفاتيح شعرية هذه الحداثة التي يدل رواجها على أن جمهورها لا يستهان بعدده.

غريب أمر هذا الشعر. فهو دائما مصدر شكاوي . في السابق كانت الشكوى تأتي من القراء وكان مصدر الشكوى هو مشكل الغموض. أما الآن فستأتي الشكوى من غير شك من النقاد وسيكون مصدر الشكوى هو مشكل الوضوح.

إننا نعتبر أنه من باب الزعم والافتراض وحدهما الجزم بتحديد ماهر الشعر أو كيف يتكون أو ضبط وحصر عناصره أو حتى النصوص التي ينحدر منها.

كيف نضبط حدود الشعري داخل نص نثري أو حدود النثري داخل نص شعري كيف نميز الشعر داخل قصيدة شعرية وكيف نهتدي للصيغة التي تتولد بها القصيدة داخل الشعر الحديث ؟ ما الفرق بين القصيدة وبين النص وبين الشعر؟
الا يتجه الشعر حاليا نحو خارج الشعر ؟ الا يشتق النص والقصيدة لغتهما بعيدا عن تمثل أية بنية خطابية مسبقة ؟ الا نجامل أنفسنا أو ننافقها حين نقبل بكثير من الكلام المسمى شعرا لمجرد أن أخوين قالوا لنا إنه كذلك أو لان شاعرا لا نشكك في شاعريته هو الذي قاله ؟ هل هذا جهل منا أم تجاهل ؟هل أنجزنا دراسات استكشافية لواقع ما يجرى عندنا من أشعار حتى نعرف ما يكتب وما يروج ونقارن بين أشكال الكتابة ؟
ثم الا تعد الحرب العشواء التي نعلنها على كل من يلجأ الى التقييم والتقويم و إصدار أحكام القيمة، حربا تبرر عجزنا عن تحديد القيمة نفسها؟
ما أكثر هذه الأسئلة المؤرقة والتي نحتاج لإجابات عنها وعلى أمثالها لعلنا نستفيق ولو جزئيا من الخدر الأدبي الذي أصابنا والتأخر العقلي النقدي الذي اعترانا والذي جعلنا نبصر الظواهر تمر أمامنا فلا نواجهها الا بالصمت المغرض أو التصفيق المريب أو الابتلاع السهل الذي لا يجلب صداعا ولا يسبب حمى نقدية .

إن ما نقوله إذن عن الشعر عن تكوينه وفضائه ليس سوى تأمل في تجارب أقرب الى الانعزال منها الى الخضوع لبنيات جاهزة . وما دامت كذلك فإن ما نرصده لها لا يلزم غيرها . بل لا يلزم حتى هذه النصوص نفسها.

إن أسئلة شعرنا الحديث أسئلة كثيرة جدا ، وان صمت النقد عن مواكبة هذا الشعر يزكى هذه الفوضى التي حولت كل ترقيع لغوي الى شعر بزعم وبدون زعم . والمنابر الصحفية بصفة خاصة تتحمل قدرا من المسؤولية في إشاعة هذا الكسل الشعري الجديد ليس لأن عليها الا تنشر التفاهات ولكن لأنها لا تقدم النصوص الجيدة من الإبداع الشعري الانساني حتى خارج الإقطاع العربية لكي يكون مثالا يقزم البطولات الوهمية لبعض الشعراء كبارا كانوا أم صغارا أما اذا كنا وصلنا مرحلة موت الشعر وعقم الإبداع فالأحسن ان يتحول الشعراء الى مناطق الظل حفاظا على ذاكرتنا الشعرية أو يغيروا مسالك تعبيرهم الى اشكال أدبية أخرى غير الشعر.

نتأمل نصيبا كبيرا من هذا الشعر المسأمومة، فنجده يولد بكل بساطة خارج الرحم .الأليف لا يحنو عليه دف ء ولا ترعاه أمومة، لكنه مع ذلك يكبر بعضه يكبر سليما معافى وبعضه يكبر حاملا شللا جزئيا أو كليا. بعضه يبعث على العطف . وبعضه يبعث الاشمئزاز . أصحابه من الشعراء لا يفرقون بين رحم طبيعي وبين رحم اصطناعي. لا يفرقون بين ولادة استوفت عدتها وبين ولادة قيصرية. لا يميزون بين الجنين المقلوب في الرحم وبين نظيره الذي استوى في وضع طبيعي. واذا خاطبهم العارفون ادبروا وقالوا هذا أمرنا رضينا به نصيرا لنا وسندا وهذه طريقنا اخترناها بفطنتنا ونباهتنا.

شعر ليس قصرا على الشعراء الصغار إنه شعر يظهر في أية لحظة وعند أي شاعر خانته المناف . غير ان الشاعر " الخبير " تسعفه - عادة - تجربته وكونه ليس على عجلة .

ليس الناقد وحده من خول له ان يثبت في شهادته " الطبية " أن هذا الشعر سليم أو مصاب بمرض مزمن أو بعدوى سريعة الانتشار أو بعجز مؤقت أو دائم . فالقارئ -عادة - هو الذي يقبله أو يرفضه ، لكن القارىء لا يكون دائما محايدا أو حتى في كامل قواه العقلية لكي يوصف بالعدل والصدق وتقبل شهادته . على أن لهذا الشعر كأي شعر عائلته بين القراء . وفي هذه الحالة تكون القرابة العائلية عائقا أمام التداول النزيه فالعائلات تحضن مرضاها وتدافع عنهم بل تنكر أنهم مرضى وأمام وضع كهذا تفقد الأحكام الفقهية دواعي تطبيقها وتنقلب الأوضاع الأخلاقية مجتمعة فالشعر العاق يرضى عنه والشعر الذي ضل طريقه يصبح هو المرشد. ويصبح الشاذ هو السوي والقوي هو الضعيف واللين هو الصلب ، طبقات في طبقات.

وتختل الموازين وتطفح المكاييل ويستغرب الناس .

بعض النقاد تطارده جحافل اللعنات لمجرد أنه قال يوما كلمة " حق " وبعضهم يجد نفسه مرفوعا بين الإعلام لأنه بدوره قال ما يعتبر " حقا " أما الواقع ، فله حقه هو الآخر لكن لا أحد يأبه به . ويمكن للشاعر " المتنطع " ان يحلل بالملموس "واقعا" الوهمي فيحصي عدد ما يبيع من نسخ إذا وجد سبيله الى النشر طبعا ، وأمره في هذا لا يختلف عن الشاعر " الرصين " .

ليس مرد هذا الى " أزمة " أصابت الشعر ، فالشعر هو " الأزمة " بامتياز ، وليس المرد الى كون هذا الشعر دخل مرحلة صناعة عصرية معقدة تكنولوجيا .

فمرجع ذلك هو أن هذا الشعر يطلق من غير ان يعرف طالقوه السبب الذي دفعه لذلك ولا الغاية التي يسعون لتحقيقها ولا من يخاطبونه . ولا حتى المراد بالشعر . شعر لا ناقة له في الشعر ولا جمل . ولا تدري ناقته كيف تهتدي في أرضه. ولذلك تضل طريقها وتموت من العطش لتتحول سرابا. وهذا السراب يسيل لعاب العطشى فيبقون أثره وهو يبتعد وهم في أشرد.. أما أصحاب هذا الشعر فيتوهمون أن هؤلاء العطشى ليسوا بعطشى وأنهم لا يتبعون سرابا بل يتنعمون في ماء زلال.

قلنا ان أسئلة شعرنا الحديث أسئلة كثيرة . فمنها أسئلة حول مايسمى " قصيدة النثر " وعلاقة الوزن بالشعر . ذلك أنه حين ظهر مصطلح "حداثة " في ثقافتنا الأدبية ارتبط بالشعر بالذات . وتضافرت لأجل ذلك عوامل . فكان أن أصبحت حداثتنا الأدبية حداثة شعرية. أما في الرواية والمسرح والنقد فلا يعثر مصطلح " حداثة " على مكانه الا بمشقة . وبدله يتم الحديث عن التجديد والتطوير والتفعيل والتأصيل .. الخ .

هل المنثور ليس إذن بصاحب حق في الحداثة ؟ هل " العقل " الأدبي العربي مازال أسير "جينات " الشعر التي انغرست فيه منذ مئات القرون ؟ ثم لماذا يشغل الشعر الناس وهو على ماهر عليه من هامشية و" أزمة"!
سيبحث المنثور هذه المرة عن حداثته انطلاقا من المؤسسة للأرض المنيعة للشعر والتي طالما عملت على إقصاء النثر ونبذه وتكريس مفهوم يغالي في الأنانية والعنصرية الأدبية مبني على نقاء العرق الشعري. حيث لا يكون الشعر شعرا إلا إذا ارتفع وتنزه عن النثر.

نسجل هذه الملاحظة ونحن نرى أن من أطرف ما أصبح يتداول في خطابنا عن الشعر مصطلحا يسمى " قصيدة النثر " ويراد لهذا المصطلح في مقصد من تداوله أن يمثل "ذروة " الحداثة الشعرية في وقتنا الراهن . وله ضمن الشعراء قبيلة مستعدة للتضحية في سبيله بالغالي والرخيص من اللغة . لكن هذا " الشعر " مازال من غير جنسية وهوية . فبعضه يكتب على هيئة شعر التفعيلة. وبعضه يكتب على هيئة ا المقال النثري وبعضه يخلط بين الشكلين . وهذا دليل على كونه من غير شكل . قد يكون الشكل عبودية . ومع ذلك فالهوية لا يمكن لها أن تتمظهر من غير شكل .

لسنا ضد " قصيدة النثر " على كل حال لأنها أصبحت واقعة. آثر عدد من الشعراء عدم خرط نصوصهم في أعمدة الوزن . لكننا نرى مع ذلك أنه لا يوجد نموذج يقنعنا بأنه الممثل الممتاز لقصيدة النثر . لا نرى سوى تجارب متباينة ينخرط تحت لوائها المبتدئون والمتمرسون. إن الخلط الحاصل ليس في الظاهرة . إذ الظاهرة موكولة للتطور . الخلط هو في قصور إدراك الظاهرة . فهذه قصائد من غير أن تكون قصائد. كيف ينطبق مصطلح "قصيدة " على نصوص بعضها يتكون من جملة في ثلاث كلمات ، وبعضها يتكون من ديوان بكامله ؟ أما تسميتها بقصيدة النثر، فراجعة الى الاحتكام للمعيار القديم الذي هو الوزن - البحر. ذلك أن النقاد حين لم يجدرها على بحر أو تفعيلة أصابهم بها العجب . ولم يجدوا في الخزان النقدي ما يساير ظهور هذا النوع من الكتابة الشعرية ، فكان أن اصطلحوا عليها بما يجمع بين الشعر وبين النثر.. ولا نعرف لماذا لم يسموها على سبيل المثال: نثر القصيدة. لماذا إذن نسبوا الشعر للنثر ولم ينسبوا النثر للشعر ؟ ثم كيف تكون هناك حداثة نثرية ؟
نرى أننا أمام حداثة نثرية ناهضة على أنقاض حداثة شعرية عاجزة . والحداثة النثرية تجد بذورها الآن في قصيدة النثر ويقودها شعراء . أما موقع قصيدة النثر داخل الشعر فلا يمكن أن نقوم به لكون مفهومنا ومصطلحنا للشعر مهترئين ويحتاجان لتغيير وتحديث . أما الشعراء الذين ظنوا أنهم أحدثوا بهذه القصيدة حداثة شعرية فهم في رأينا أسرى مرتين: الأولى لأنهم من غير شكل. والثانية لأنهم يفسرون لغتهم بمصطلح النظم الذي أرادوا التحرر منه .

وهذه الحداثة سواء أعانت حداثة نثر أم حداثة غموض، لابد أن تحسم في قضية الوزن، ولقد أثارت مسألة الوزن في الشعر قديما وحديثا نقاشا ساخنا.

وارتبط ذلك النقاش بما اعتبر هوية وطبيعة فطر الله عليها إدراك الإنسان وحواسه وملكة غرسها في لسانه ووجدانه، وكانت تلك الفطرة والهوية هي الوزن. ووصل تأليهها لدرجة تصنيف كتب تشرع لها وتتعقب نوازلها وتضع أصول الاجتهاد فيها.

حدث ذلك حين كانت آذان الناس أكثر تطورا حتى من الأجهزة العصرية في التقاط الذبذبات والموجات. كانت تلك الآذان تميز بين الطويل وبين المديد وبين الخفيف وبين البسيط .. وتميز بين من سلم وبين من أصابته علة. وبين من يزحف وبين من يسرع وبين من ينقبض ويقبض. كانت للهوية القديمة مملكتها وغابها وشريعته . وتم ذلك في ظل عقد الوازن عليه بين الوزان وبين صاحبه الذي يتلقى المكاييل. والطرفان معا كانا متفقين على نوعية المكاييل وعددها وحجمها وعلى الحد الذي لا يجب أن تجنح عنه ريشة الميزان.

أما في وقتنا الحالي فاختفت المنظومة التجارية والبدوية القديمة. ولم تعد الإذن تسمع قرع أواني النحاس. وهجرت مكاييل الحديد والموازين ذات الكفتين إلا في الأسواق التقليدية. لم يعد الوازنون أنفسهم يولودن على ملكة الوزن . ألم يعلن الشعراء تبرمهم بالمكاييل القديمة ؟ ولكي يتجنبوا احتجاج الباقين من نسل القبائل الشعرية القديمة. عمدوا على عصرنة الخطاب حول الهوية الشعرية . فسمعنا عن كون تلك الهوية يجب الا تكون أسيرة الوزن -البحر . الخ. يجب أن تنفتح على أبعاد أخرى تتصل بالداخلي وبالخارجي وبالمسموع وبالمنبور وبالمتعدد.. الخ . وان ظل ذلك داخل قومية واحدة . هي قومية الوزن .

إن المسألة في رأينا لم تعد نقدية صرف . يتم تبنيها لتأجيج نعرات فكرية يضفي عليها بعضهم أغطية أيديولوجية . إنها متصلة بما يسمى "جمهور" الشعر فبما أن الجمهور أصبح لا يفقه شيئا في "البحور" ولا يميز شيئا في التفاعل ، وبما أن أذنه لم تعد " برابول " يلتقط الأمواج الدقيقة ، فبما أن الشعراء أنفسهم أصبحوا غير " وازنين " وبما أن النقاد لم يعودوا يلتفتون الى مكاييل الشعر، فقد انتفت من تمة الحاجة للوزن - البحر.

والناظر في الدرس الشعري يلاحظ أن ما يخص منه الوزن نادر . وضمن هذا النادر تطالعنا دراسات لا تخلو من طرافة مضحكة لا تتصل في شيء بالشعر. وترتيبا على هذا نرى أنه من باب إضاعة الوقت أن ينشغل بعض الباحثين بإحصاء بحور وتفاعيل بعض النصوص الشعرية. وأنه من غير المفيد كذلك أن نضيع جهد ووقت الطلاب في الكليات بتلقينهم قواعد وشواهد في العروض لا حاجة اليها لأسباب منها على الأقل .

- أنهم لا يستفيدون بالعروض في قراءة الشعر الحديث لتخلي قسم منه عن العروض .

- أنهم ينسون بسرعة ما تلقنوه لكونهم لم يجلبوا على ملكة الإحساس بالتفاعيل .

- لأن العروض في ذاتها لم تعد صالحة حتى لدراسة الشعر القديم .

- لأن آفاق دراسة الشعر انفتحت على أبواب أخرى.

وفي مقابل ذلك يحسن بمدرسي العروض أن يستغلوا جهدهم الثمين في دراسة شعرنا القديم على أسس صوتية غير متصلة بالعروض. وأن يلتفتوا للشعر الحديث غير العروضي ليكشفوا عن نظامه الصوتي إن وجد أما مبحث العروض فترى مكانه المناسب ضمن مادة المناهج القديمة. وأن يحدد الهدف من تدريسه في تعريف الطلاب بإحدى مقاربات نقادنا القدماء ابحث الشعر.

قد يقال إننا نمارس خطاب الأزمة وأنه يحسن بنا الا ننساق وراء إثارة الزوابع الفارغة ، غير أننا نرى أن ما نكتبه هنا ليس موجها ضد أحد . كما أننا لا نفتعل الأسئلة أو نستعير لغة الهرطقة خلافا لما قد يكون القارىء تعوده منا، إن ما يدفعنا للكتابة بهذه الصيغة هو أولا وقبل كل شي ء رغبتنا في الا نمارس لغة الصمت . يدفعنا لهذا الجهر عشقنا لقراءة الشعر لما نجده فيه من متعة شخصية أولا قبل أن تكون متعة نابهة من موقع المتابعة والمواكبة النقدية .

إننا ندعو الى الاحتكام الى القراءة لكي لا نستسلم لمغالطات الشعراء كتلك التي يقولون فيها إنهم يكتبون لأنفسهم قبل كل شي ء ، فلو كان الأمر صحيحا لمن ينشرون إذن ؟ ولماذا يضيعون وقت القراء بقراءتهم .

القراء يجب أن تكون لهم كلمتهم. لأنهم الذين يقتنون الدواوين والجرائد والمجلات ويحضرون اللقاءات الشعرية . هم الذين يرفعون تكلفة الإنتاج بقلة النسخ أو ينقصونها بكثرة الاقتناء . فإذا كان القارىء حتى لو كان شاعرا لا يقوى على إكمال قراءة ديوان زميله فما بالنا بعموم القراء؟
إن من بين ما نسجله داخل صفوف هؤلاء القراء غياب اقتناعهم بالشاعر في ذاته إن كان شاعرا . إذ عم سيتحدث الناقد أو حتى الشاعر اذا كان ما يتحدث عنه لا مقبولية له عند القارىء أو المتلقي . أليس مجانيا للصواب ان يعكف النقاد على دراسة الخواص الشعرية في معزل عن متداوليها ؟ أليس الدرس النقدي في هذه الحالة هو أشبه بشخص يصف زخارف بناية لجمهور لا يرى تلك البناية أصلا أو يرق في مكانها ساحة فارغة ان لم نقل خرابا أو خما أو زريبة للحيوانات ؟؛
إننا حاليا حين نبحث عند القراء عن الشاعر الذي يعتبرونه شاعرا بمعنى الكلمة فسنصاب بخيبة أمل وخاصة اذا بحثنا عندهم عن شاعرهم المغربي . وفي هذا السياق نسمع تعليقات كثيرة عن شعراء نعتبرهم " نبغوا " في الشعر وأغنوا الذخيرة الشعرية المغربية وأوصلوا "صيتهم " الى إقطاع أخرى. وتعبر هذه التعليقات .عن عدم ارتياحها للشعر المغربي ولشعرائه، بل تنسب شهرتهم أما للأقدمية أو لأسباب أخرى غير شعرية مكنتهم من اعتلاء بعض المنابر أو ركوب بعض الموجات.

هذا الموقف يحملنا على الظن أنه من المستحيل أن نجد في المغرب إجماعا على شاعرية شاعر . ومع أن إجماعا كهذا ليس ضروريا بحكم أن المتلقين مختلفون في تكوينهم وفي أفق انتظارهم، فان إجماعا ولو بأغلبية نسبية شائع عادة. يكفي أن نقارن بين موقف هذا المتلقي من الشاعر المغربي وبين موقفه من الشاعر المشرقي حيث نلاحظ شبه إجماع على شاعرية بعض الشعراء المشارقة .

وترتيبا على هذا فإن دراسة وافية لاستقبال الشعر عند المتلقي ستمكن الشعراء من قياس درجة حضورهم الشعري، بل سترشدهم لسبل تواصل أكثر فعالية وعطاء، والمسألة الأخيرة التي نريد أن نثيرها هنا تتعلق بما يسمى "صراع الأجيال " ذلك لأننا نرى أنه ليس عيبا أن ينشأ عندنا صراع ثقافي بين الأجيال ، بل سيكون طبيعيا أن يواكب هذا الصراع مايسمى سنة الحياة فالصراع بين الأجيال معروف تاريخيا . وهو يتعدى الثقافي الى الاسروي والاجتماعي عامة .

ويجتمع فيه السياسي والأيديولوجي والنفسي والمادي، إذ يحس الشاب أن الشيخ يحتكر المقعد المادي أو الرمزي ويمنعه من التربع عليه، كما يحس هذا الشاب أنه المؤهل لقيادة الجماهير ورأس خربتها نحو التمدن ولسان حالها في الخطوب. بل يظهر له أن الأسلاف هم في صورة أقرب الى المتخلفين عقليا وتاريخيا وفي صورة العجز وربما القردة . أما الشيوخ فيظهر لهم "الناشئون " مجرد صبيان لم يصلوا بعد لسن الرشد ولم يؤهلوا للتصرف في تركة أسلافهم التي قد يلوثونها بإضافاتهم ، ومنهم من يحجم عن الكلام معهم أخذا بقول القائل : من تسحر مع الصبيان أصبح مفطرا.

إذن ليس عيبا أن ينشأ هذا الصراع ، بل العيب أن يبقى هامشيا مختنقا متحشرجا وضيقا لا يصل لخلق حركة . وجميل أن نشاهد طبول النار تضرب بين الطرفين . إذ سينتج عن ذلك أن يسيل حبر كثير وتتحرك أقلام أصابها البوار وتسود صفحات تعاني من فقر المداد.

والحاصل في ساحتنا أن هذا "الصراع " يخوضه علنيا طرف الشباب وحدهم. في حين يفضل "الشيوخ " "الصمت " ولهذا الصمت في جبهة الشباب نتائج متباينة، فمنهم من يحس بالغبن والضيم بتجاهل الآخر له. ومنهم من يحس بأنه كسب المعركة بأن دمر قواعد الخصم وأربكه خططه وألجم لسانه. في حين لا يوجد صراع حقيقي بين الطرفين ولأهم يحزنون. إذ الشيوخ راتعون في "الثروة " لأن الشباب بكل بساطة لم ينجحوا بعد في خوض حرب حقيقية إذ ما يقولونه ويكتبونه هو مجرد زبد وإن كان لا يذهب ذلك أنهم لم يصلوا بعد لمعرفة حتى الأرض التي يقفون عليها ويدافعون عنها وما هي خرائطها الجيوثقافية . الأولى بهم أن يحددوا منطلقاتهم وأهدافهم بدقة .

إننا لا ننظر للصراع بين الأجيال بأنه صراع مفتعل. بل نريد أن يكون صراعا حقيقيا . صحيح أننا نواجه في صراع كهذا بلبلة. كالتغريق بين الشاب وبين الشيخ ، إذ في ساحتنا شيوخ شباب وشباب شيوخ ، وشباب حصلوا على " فيزا " نحو الشيوخ لا هم شباب ولا هم شيوخ . وبعض الآراء عندنا يذهب الى ان الشعراء ليس فيهم فرق بين الفني والفقير والعجمي والبلدي والصغير والكبير . هذا الرأي إنما يطمس الصارع لنية في نفس يعقوب . ذلك أننا حين نتفحص آراء الشباب نجدها متعصبة لجيلها . من مظاهر ذلك أن الشاعر الشاب تجده يسرع بإعلان تعاطفه مع آخر من جيله بمجرد ما يحس أن زميله في " خطر " ومن مظاهر ذلك أيضا أنك تجد الشاعر الشاب يترشح لجائزة الشيوخ وما الا ينجح فيها حتى يعلن حالة الاستنفار والحصار على الشيوخ وعلى الفصل بينهم وبين الشباب .

إن الأمل في مستقبل الشعر هو للأجيال الجديدة بالتأكيد لكونها حاليا هي القاعدة العريضة لمتداولي الشعر خلقا وتلقيا. أما السلف الصالح فأغلبه استنفد إمكانيته باستثناء بعض أعلامه ممن تشتغل كيونته باستمرار . ولذلك فللأجيال الجديدة رهان تاريخي عليها أن تكون واعية به. وذلك بأن تطور لفتها الإبداعية وتخلق حركتها النقدية وأن تتخلص في الوقت نفسه من كثير من أوهام المجد والعبقرية التي تعيق حركتها وتبين لها الباطل حقا.

إن الشعر لم يكن دائما ذلك الزمن الجميل حيث تنزل طمأنينة كونية تمكن الشاعر من اكتشاف العشب الروحاني. ولم يكن الشاعر ينجح دائما في أن يراود ريحا جحيمية منذورة لتخريب قلاع الأسطورة.

مازالت أبجديات الأسرار الرطبة والمقصلات الهائجة وغرف الإظلام الغابري تتكشف عن فصول ملحمية تنتهي بإرغام العالم على التهدم في مقابر الصمت .

تتزايد في هذا الزمن المناداة بالديمقراطية وحرية التعبير وحقوق الإنسان. فتوالي الشعوب المطالبة بحقوقها وتتبجح الحكومات والأنظمة بتطبيق تلك الحقوق وإقرارها. كيف يعقل في زمن كهذا تعذيب الشعراء؟
أي حل يعتصم بحبله الشعراء ولا يتقطع بهم ؟ وأي درع تحميهم من النبال المسمومة للمؤسسات ولا يكتشفون في اللحظة الأخيرة أن الدروع من خيوط العنكبوت ؟
هل نقول مع عنترة : هل غادر الشعراء من متردم ؟ ولسان حالنا يؤول المتردم ليجعله كل مادل على أنقاض تشهد بمنحة الشعراء؟ أم نبكي ماضيا لا نريد أن نصدق ثقوبه لنرضي أنانية الشعر على الأقل ، فننقش بأحرف من ألق خصيب تلك القولة التي أخبرنا فيها ابن رشيق عن أعراس العرب واحتفالاتهم لمجرد أن شاعرا كان ينبغ فيهم ؟
قد يصدق أن ننعت القدر الشعري بالقدر الطرفي (نسبة الى طرفة بن العبد) لان الشاعر يحمل قرار موته بين يديه ماضيا نحو الجلاد الذي لا يفرق بين الماء وبين الدم .

كيف يقبل الشعراء العيش في عالم فني يخلقونه خلقا كالذي يفلق الصخرة بأطرافه الجرحى ليخرج نواة الشمس ؟ كيف يكون هذا العالم غير فني ويخلق الشعراء فنيته من دمهم ؟
رياح جامحة وخيل تكبو ومهد من شرار جحيم الآلهة ومنابر مستوردة وأخرى مستهلكة وعصي من أشجارنا وأخرى من الغرب . وتوجيهات من قصر الرئاسة وأخرى ..

بلبلة نسمعها ونسد آذاننا وأخرى تخترق أصابعنا... هكذا فتاتنا تذرره رياح جاهلة.

حين قرر خليل حاوي أن يضع حدا لحياته الجسدية محتجا على تواطؤ بعض الأنظمة العربية وصمتها أمام ذلك العرس الجنائزي للو جود الفلسطيني واللبناني ، كان على يقين ان الصمت والتواطؤ من شيم نفوس بعض الأنظمة . وكان على يقين أن الشرف الرفيع مهما أريق حول جوانبه ويداخله الدم البريء لا يمكن أن يصل لهدفه .

اذا كان الشعراء ينزاحون في لغتهم عن مراجع لغتهم فهم لا ينزاحون في حياتهم عن مراجع حياتهم . ولعل إشكالهم أنهم حين يقررون التكلم كالآخرين يفقدون قدرهم .

إن الشعراء أصناف قد لا تفرق بين لفتهم إلا مراجع حياتهم .. ونحن نريد هؤلاء الذين يحملون قدرهم بين أيديهم ويذوبون يوميا لكي تحتفظ الشمس بما تسلط عليه أشعتها ولكي يجد البحر روافد تمده بالماء العذب المقطر من انصهار الذوات المنذورة للموج العطشان وملوحة الطقس .

وفي العطش والملوحة نسمع مرة عن شعراء قرروا التوقف عن الكتابة فيما يتوقف آخرون من غير إعلان أو إخبار هل بلغ سيل اليأس رباه لهذه الدرجة ؟ ألهذا الحد تموت الحرة ولا تأكل بثدييها.

فأي حل يعتصم بحبله الشعراء ؟ وأي درع تحميهم ؟!

عن (نزوى)