تقرأ غسان زقطان فيرتخي الجسد ويرتاح. في: 'كطير من القش ... يتبعني' عن 'الكوكب' (رياض الريّس للكتب والنشر)، قصائد غير مُخيّبة لأكثرنا تطلباً من الشعر. إضاءات عميقة على أشياء نكون نعرفها، وعبارات نكون نألفها، لكنها تنمو وتتجسّد في قصيدة زقطان، حتى بوسعنا لمسها. قصيدة تولد في الهدوء، وفي السكينة التي هي علامة قصيدة غسان. بهدوء وسكينة، يحتفل الشاعر بالعالم، عالمه، وبالبساطة المؤثرة والإمتنان للحظات شعورية سخية مكنت الشاعر من الحب. أن يحب وأن يُحب.
القصائد في 'كطير ...' التي كُتبت بمفردات نعرفها، تتحوّل الى غيرها في قصيدة زقطان. فيض مجهول فيها، لا تنغلق، ولا تختم مشهداً ومفتوحة دائماً على صداقة احد ما يشبه الشاعر، ومفتوحة على خياله .
تلفت في قصيدة زقطان، لحظتها التي تؤشّر عليها، لحظة مُنشغلة بعزلتها، لا تناقش أفكاراً ولا تتبع أساليب، لحظة يتيمة بفرادتها، سمتها الأناقة والنظافة. قصيدة نظيفة غير مُهانة بالحزن المكرور، ومحميّة بميراثها من الوحدة والكبرياء
.
يعتقد الشاعر غسّان زقطان في تصوّره وعمله على قصيدة حديثة، أن كفاية القصيدة هي في اقتصاد مشاعرها. هذا ما يعتقده، فيما نقرأ نحن القرّاء مشاعره الساخنة الفيّاضة غير المكتوبة، تفيض في السطور الصامتة، ناقضة إستغراقه المتنكر بالمفردة القصيرة. إستغراق مُتنكر، لكنه فاضح كالهوى .
المقاطع المتسربلة برقتها في قصيدة زقطان، مكتوبة افضل من المقاطع القوية. هذه لعبة الشاعر على كل حال، إذا صحّت قراءتي لمقاطع متسربلة بالرقة، واخرى قوية .
للسفر حضوره الطاغي في المجموعة، وهو سفر ما، تبحر به عبارة الشاعر. سفر قديم وسفر في آنية لحظة الكتابة وسفر في تهيؤ القصيدة إليه. سفر ثابت في المكان وآخر متحرك. سفر جغرافي وسفر إنساني. مراوحة في المكان وفي أدقّ تفاصيله، وإيغال في البعد تحضنهما القصيدة كما يجدر بالشعر أن يحضن، وكما يليق بالسفر حين يُسرد شعراً ونثراً .
الحب في مجموعة غسان الجديدة، صدى للحب. المكان صدى. المشاعر صداها والحزن والمدن وشخصيات الشاعر في قصيدته، محض استعادات مُتخففة من ثقلها الحقيقي. قصيدة هي رجع مشهد وليس المشهد بعينه. الصدى هو شعر التذكّر، والضباب الذي يغشى الرؤية يُحيل حياة القصيدة، حيوات .
' ... الأميرة في نومها والمساء على حافة النافذة
خزانتها بعد قوسين في البهو مفتوحة
والخزانة سوداء
أشباحها في الخزانة هادئة وهي تأكل ذكرى الحرير
ملابسها الداخلية بيضاء
شرشفها أبيض
والتعاويذ منسية في المرايا
وكانت شؤون المنازل، أيضاً، هناك
الثياب التي استخدمتها اليمامات في الصيف
رائحة الزيت
فوضى يديها التي تركت أثراً في القماش الخفيف على
منبت النهد
شيء من الإرتياب
على عسل الصوت
لا مشقة في البعد
لكنه سببٌ كامل لانتظار المجرة في البيت. '!
قصائد تمنح شعوراً بالخفة، كما لو معانيها نشأت من التداعي فقط، كما لو أن أشخاص القصيدة لم يكونوا قط، أوجدهم الشعر وأوجدتهم القصيدة ململمة عطورهم وأطيافهم .
قصيدة خالية إلاّ من الشاعر الواقف على مبعدة من مواضيعه، فهو الحاضر في التذكّر وفي الحبيبة وفي الأم الراحلة وفي الفنادق والمشاهد والمسافات. حضور طيفي يسمح للقصيدة بالتقدم من دون 'الأنا ' المتشاوفة، وحنان متغلغل في ثنايا السطور يرعى القصيدة ويهدهدها. قصيدة خلود صغير لحالتها، وقصيدة تلتفت الى عالم مسكون بالأشباح، عالم مبهم، ولا يُدرك إلا بعبارته الخاصّة. أخيراً ـ احسب ذلك ـ قصيدة عارية إلا من حساسية غسان زقطان الشاعر، الحساسية التي لا تترك القارئ الى سلامه، بل تخضّه خضاً لذيذاً.
القدس العربي
02/01/2009