كان أهداني على استحياء، في «النادي اليوناني» في القاهرة سنة 2005 مجموعته الشعرية الصادرة حديثاً عن «ميريت» تحت عنوان: «مثل غربان سود». قرأت الكتاب في الليلة ذاتها في غرفتي في الفندق، حادبة أولاً على حجمه الصغير، ثم مبهورة بالتكثيف الدلالي الشعري، والتقطير، والصوت الخافت الهامس، المفاجئ. تعمدت السعي إلى لقائه في زيارتي القاهرية السنة الفائتة، بتأثير من انعكاس رقة ديوانه الذي ذكرت، فكانت أمسية جمعتني به في «أستوريل» بتدبير من الصديق، الكاتب والباحث نبيل عبد الفتاح وبحضوره الكلي المعرفة والثقافة والظرف. فاتني في سهرتنا البالغة «الدسم»، ملاحظة وطأة مرض الشاعر، لمّا جهد إلى إخفائه بحساسية المودعين غير الشاكين.
أكتب في رحيل الشاعر المصري السبعيني محمد صالح، وخلّف من دون ضجة تُذكر، من دون مؤتمرات أو جوائز أو تكريمات، خلّف لنا، نحن محبي الشعر، عدداً من الدواوين المؤثرة، منها: «الوطن الجمر» و«خدّ الزوال» و«صيد الفراشات» و«حياة عادية» و«مثل غربان سود» هذا إلى مخطوط، بقي مخطوطاً ناقصاً غير مُنته، بسبب من رحيل الشاعر منذ ما يقرب شهرين.
في قراءة صالح، يتعذّر عليك أن تحسبهُ على جيله العُمري، أو على جيل شعري بعينه، على الرغم من الحسابات المسطحة في أغلب الأحيان، التي تنسب كتاباته لتجربة جيل السبعينيات. شعر جمالي محض، يقطع من الأيديولوجيات التي سادت في زمنه، ويسهم في اتساع الهوة مع شعريات مجايلة. إشارات وإيماءات في تألق الصوت الفردي لصالح، الناهل برأيي من مرجعيات عربية، الماغوط مثلاً، وغربية عنت بأخذ تجاربها إلى آفاق حرّة، لكن من قلب المأزق الإنساني. قصيدة صالح خالية من التفصيلات الهزلية المجانية، وساعية إلى الدمج ما بين السلوك الشخصي للشاعر المذعور من الاستعراضية الدارجة، وبين قصيدته الشبيهة، ذات السحر الخاص في انكساراتها الإنسانية.
لم أحسب في «أستوريل» مدى تجشم صالح الحضور لملاقاتي، هو المقتصر عيشه، على مطارحه القليلة لا يبارحها، محاذراً من مرضه، ومزاجه الخاص، وحساسيته المفرطة، وشاعريته الحقة، استباحات تُمليها الحياة الثقافية الراهنة، في شقها اللاهث إلى الإعلام والأضواء والقفز وإن بمهانة، إلى خانة «النجوم» على حساب النتاج الإبداعي نفسه.
بعد طول إلحاح مني، كان وعَدَني صالح في سهرتنا تلك، بزيارة بيروت، وقراءة بعض من شعره في أحد أماكن تجمّع الشعراء اللبنانيين في سهرات شعرهم الأنيسة. سحابة خفيفة عبرت في عينيه إذ ودعته، أنذرتني بأن أمراً فوق طاقتي وطاقته، حائلاً لا بد، دون أن أراه، ولو لمرة بعد.
السفير
13 يناير 2010