مجنون ليلى

مارسيل خليفة

إن أي بناء موسيقى يعمل على نص شعري هو بمثابة التجربة الجديدة في كل مرة.
بالنسبة لي ، بعد العديد من التجارب التي اشتغلت عليها تأليفا وتلحينا، أجد أن تجربتي التي أشتغل عليها مع نص (أخبار مجنون ليلى) ، هو النقلة النوعية التي أشعر مبكرا بما تقترحه من تشغيل للمخيلة الفنية في أكثر من صعيد.
فهي بالاضافة إلى الدلالة الإبداعية التي تجعل من اشتراكي مع الشاعر قاسم حداد اتصالا برؤية مميزة في الكتابة الشعرية العربية، فإنني أقف في تجربة تتيح لي فعليا أن أحقق الفكرة الجوهرية لما كنت أسميه دائما التحويل الموسيقي للنص، بعناصر إبداعية لا يقودها الشعر ولكن يحاورها ويضعها في صميم المعطيات التي تتيحها أشكال تعبيرية مسرحية ليس فقط الأوبرا ولا التعبير الجسدي ولا الرقص ولا الدراما الموسيقية ولا الغناء الفردي أو الجماعي، ولكن كل هذه مجتمعة في اقتراح تعبيري يستفيد من ذلك التراث بالاضافة إلى التوظيف التقني لآليات العرض الفني الممتع والمبهج والرصين في ذات الوقت.

ففي نص قاس(مجنون ليلى) ما يمكننا تحقيق عرضا جمالياً يصدر عن تجربة بحرينية ولبنانية من حيث المبدأ، لكنه من بين الأعمال التي تأخذ طبيعتها الإنسانية كلما صقلت بالعرض في أماكن أخرى من العالم، واستمتع بها جمهور مختلف في كل مرة.

سوف يعتمد العمل بالاضافة إلى الموسيقى والغناء، التعبير الجسدي والسينوغرافي وتكون نوعية الإضاءة وهندسة الصوت محوريين في لحظة العرض دائما، مما يستدعي خشبة مناسبة ومجهزة بآلية حيوية.

****

من قاسم وقيس إلى بنيس وابن حزم

معجب الزهراني

الكتابة عن ابن حزم لا تتم إن لم تعده على رأس مذهب جديد متفرد في المحبة لم يسبق إليه أحد من قبله وقليل من لحق به، وهذا ما فات سالم يفوت بكل تأكيد. فأدبيات الوعظ والفقه الذكوري السائد بالأمس واليوم وحشت المرأة وحولت علاقة المحبة فيما بينها وبين الرجل إلى ‘’هوى’’ شيطاني مشرع على كل الفتن. وأدبيات التصوف عوّمت معاني الحب وصعدت دلالاته الميتافيزيقية حتى أو شكت أن تطمس كل أثر للمعنى البشري الدنيوي الحميمي فيها. أما صاحب ‘’طوق الحمامة’’ فكتب عن الحب بدراية ومحبة تليقان به (وللضمير هنا حرية التنقل بين الذات الكاتبة وموضوع كتابتها). لنبدأ بالحكاية وسترون كم هي نموذجية مثلها مثل حكاية قيس وليلى. ذات يوم تلقى فقيه قرطبة رسالة من صديقه الشاعر ابن شهيد يطلبه فيها أن يؤلف شيئاً في الحب. ولابد أن الرسالة ما توجهت إلى المرسل إليه تحديداً إلا لعلم صاحبها أن صديقه أفضل من يمكنه أن يؤلف في موضوع متفلت محرج كهذا. فهو قد نشأ في أسرة أندلسية متعلمة مترفة متفتحة ثقفت عقله وهذبت طباعه وصقلت مواهبه، خصوصاً أن تعليمه بدأ على يد نساء رقيقات هن الأقرب إلى نفس الطفل كما نعلم اليوم. وحينما اختار المذهب الظاهري الذي لم يكن له حضور يذكر في الغرب الإسلامي لابد أنه وجد فيه ما يلائم ذهنية قوية منطلقة تبحث عن حريات الفهم والتأويل بقدر ما تنفر من كل تقليد. ثم إن أبا محمد كان شاعراً عاشقاً تورط منذ شبابه الباكر في محبة جاريته ‘’نعم’’ تلك الفتاة الشقراء الجميلة الهادئة المرهفة التي خطفها الموت منه سريعاً ليسكنه حبها إلى أن لحق بها. وشخص كهذا لم يكن من المنتظر أن يكون زميتاً قط. لا في حياته اليومية ولا في كتابته. هذه كلها إذاً معطيات تبيح لنا أن نزعم أن تلك الرسالة وجهت إلى مؤلفها النموذجي. تماماً كما لو أن أحداً طلب من فلاح أن يغني للحقل، أو من بحار أن يغازل أمواج البحر، أو من عاشق للترحل أن يتقرأ علامات الطريق. ولا أستبعد من جهتي أن ابن شهيد كان يريد لصديقه الحميم المنكوب في حبه وفي أهله أن يجد في الكتابة العارفة العاشقة بعض السلوى عن الهموم التي توالت عليه حتى أصبح شعاره بيتاً له يقول فيه:
جعلت اليأس لي درعاً وحصنا
فلم ألبس ثياب المستضام
هذا ما حصل بمعنى ما. فالكاتب رد على رسالة الصديق بكتاب فريد فاتن تقصى فيه القضية من مختلف الجوانب. وحينما آلف فيه بين المعرفة المتسعة والتجربة الحميمة العميقة نجح في وضع أسس فكر المحبة الذي يكاد يجمع كل علاقات الحياة. في رأس الهرم تقع المحبة في الله. وفي قاعدته محبة العشق فيما بين الرجل والمرأة كذاتين تشاكل روحاهما منذ الأصل، وهي وحدها التي لا تزيد ولا تنقص إلا بالموت. وفيما بين هذه وتلك تتوزع مراتب أخريات لعل أهمها عند أمثالنا المحبة في المعرفة. الطريف في الأمر أن المؤلف نظم نصه كله على مجاز البيت/ الجسد الذي له من الأبواب والنوافذ والمسارب الخارجية والداخلية ما يجعله السكن الأهم للحياة والدليل الأقوى على وجود الكائن.
من هذه الأبواب دخل حفيده الفاسي المغربي ليحاوره حواراً إبداعياً يخصه، وضمن مشروع يحاول أنسنة الرغبة والاحتفال بالحب. استراتيجية الحوار مختلفة كثيراً عن تلك التي اختبرها قاسم مع مجنون ليلى، وهو أمر متوقع مطلوب. فالنص الأصلي هنا هو نص نثري - فكري لم يكن الشعر أقوى وأجمل ما فيه. وأخبار الذوات العاشقة لم يتلاعب بها الرواة والنساخ لتمتلئ بالفراغات التي تمنح لعبة التأويل كامل حريتها. ثم إن محمد بنيس لم يذهب بعيداً في لعبة التماهي مع ابن حزم إلا بقدر ما يبني نصه على أثر قرر أن يعيد كتابته ضمن شروط عصره وملابسات راهنه. بصيغة أخرى نقول إن الأثر القديم بدا مثيراً للإعجاب مولداً للاحترام كأثر نثري جريء في المقام الأول. أما التجربة هنا وهناك فالمؤكد أنها محدودة إن لم تكن منقطعة بمعنى ما.
من هنا ما إن نقرأ إشارة الغلاف ‘’أنا الظاهري القرطبي’’، والمقطع الشعري الأول بعنوان ‘’أنا لا أنا’’ حتى ندرك أن مقصد الكتابة يتجه في المقام الأول إلى إبراز المواقف الذهنية والعاطفية من الحب في واجهة التعبيرات. ونظراً إلى كون الخطاب هنا شعري البنى والوظيفة فإن مواقف كهذه تتجلى في سلسلة من التأملات الحرة التي تنتشر وتمتد من حالات الحب المتحقق، إلى الحب المستحيل في أزمنة تخترقها توترات وصراعات وحروب تكاد تلغي كل معنى سوي للحياة الطبيعية والبشرية. كأن التحديق في هذه العلاقة المرهفة فيما بين الذوات الإنسانية لم يعد ممكناً إلا تذكراً وعبوراً، لأن أصوات الصخب والعنف والألم تحيط بالكائن، المبدع وغيره، من كل الجهات. بعد هذا لا غرابة أن تتحول نصوص ابن حزم إلى ما يشبه الشذرات المتناثرة كاستشهادات متخارجة عن نصوص الذات غالباً ومندمجة فيها أحياناً، وهي قليلة من حيث الكم في مجملها. لعل أجملها تلك المقاطع الجريئة التي تحتفي بالجسد عاشقاً ومعشوقاً، فضاء للحب ومجالاً لتحققه. ذهب أدونيس إلى أن بنيس أنجز ‘’طوقاً لطوق الحمامة’’، ونحن لا نرى أكثر من التحلية والوسم والوشم. فالأصل ظل أكثر اتساعاً وتنوعاً وتحرراً وتفلتاً من عمليات الاحتواء، مثله مثل تجارب الحب النموذجية.
أما رسومات ضياء العزاوي قليلة، وتتميز ببساطة العناصر ووضوح الشكل وشفافية الدلالة. ولكي نختم المقال بماء الشعر والحب نورد هذا المقطع الدال على مسار لعبة الكتابة وسماتها ومقاصدها العامة:
أنا الأندلسي المقيم بين لذائذ الوصل
وحشرجات البين
أنا الظاهري القرطبي
الهاجر لكل وزارة وسلطان
أنا الذي ربيت بين حجور النساء
بين أيديهن نشأت
وهن اللواتي علمنني الشعر والخط والقرآن
ومن أسرارهن علمت ما لا يكاد يعلمه غيري
أنا الذي يقول: الموت أسهل من الفراق.

الوقت – 1 مارس 2007

*****

أخبار مجنون ليلى
في صياغة العزاوي وحداد

شربل داغر
(لبنان)

لم ينقطع الفنان العراقي ضياء العزاوي عن حبك صلات التخييل بين الأدب والتصوير، منذ أن بادر في العام 1969، في العدد الرابع من مجلة "مواقف" إلى رسم صوره انطلاقاً من قصيدة أدونيس "هذا هو اسمي" المنشورة في العدد نفسه. كما لم ينقطع منذ العام 1972 عن إصدار الكتب الجامعة بين الأدب والفن، وعن إنتاج ما يسمى بـ"البورتفوليو" أي الكتاب المشتمل على أعمال فنية محفورة ذات أعداد معدودة وموقعة من الفنان. ففي العام 1972 أصدر كتاب "شاهد من هذا العصر"، وفي هذا العام 1974 "رسوم لأرض البرتقال" (بالأوفست)، وما لبث أن انصرف في العام 1978 إلى إصدار مجموعات "البورتوفوليو" التي تتابعت منذ عمله على "المعلقات" وصولاً إلى أعمال الشعري العري.
وإذا كان العزاوي جنح في تجاربه الأولى صوب الموضوع الفلسطيني، منذ كتابيه الأولين إلى كتاب "النشيد الجسدي" (عن سقوط "مخيم تل الزعتر" في الحرب اللبنانية)، فإنه ما لبث أن ارتد إلى استلهام بعض الشعر الحديث، وإلى موضوعات تراثية الطابع، مثل "أف ليلة وليلة"، أو إلى شعراء عموديين بارزين في هذا القرن مثل محمد مهدي الجواهري وأبي القاسم الشابي. وهو ما يسيل إليه في آخر إصداراته، وهو "أخبار مجنون ليلى" الصادر عن "منشورات مجموعة أرابيسك" في لندن، وهو مطبوع بالعربية في 750 نسخة مرقمة وموقعة من الفنان والشاعر. إذ شارك العزاوي في هذا العمل الشاعر البحريني قاسم حداد، بعد ن كان الفنان يختار مادته الشعرية والأدبية، من دون أن تكون للأديب أو للشاعر مشاركة ما أو مسؤولية ما في العمل النهائي. أما في هذا العمل فإن الشاعر حداد مشارك "أصيل" إذا جاز القول، ويتحمل مع المصور العراقي المسؤولية الفنية والإبداعية.
قامت مشاركة الشاعر على أعمال ثلاثة منها تجميعه أشعار "مجنون ليلى" من مظان الكتب، وجمعه لأخباره وسردها في صياغة فنية جديدة، وقوله الشعر إنطلاقاً مما عرفه وتخيله عن المجنون.

التخيل سعياً إلى الخبر

ما قام به حداد لا يختلف أدبياً عما سعى إليه العزاوي فنياً، أي التخيل ؟ "المجنون" فهو، إلى جمعه منتخبات من شعر الشاعر العاشق، تتبع الأخبار المتناقلة عن سيرته، وعن أفعاله العشيقة، وعمل على "تحريكها" إذا جاز القول، أي على تحسس ما فيها من ممكنات القول والإنشاء. ما يؤلف كلاماً على الكلام، وسرداً على السرد. وهو كلام ما احتفظ بالأخبار المتناقلة على ألسنة الرواة، وما اكتفى بتحسينها أو تجميلها، وإنما سعى في أحيان عدة إلى التخييل، على أنه قوة محيية للكلام، بل مستدرجة ومستخرجة للحياة الواقعة في ثناياه. فقد لا يحتفظ لسان الرواة إلا بجانب من الأخبار، أو ينسقونها من جديد، ما يشكل خبراً على الخبر. وقد يضمنون أخبارهم مواد لا تدل على أصحاب الخبر، أو فاعلية فحسب، وإنما أيضاً على سامعي الخبر أو من يتوجه إليهم الرواة بالخبر. يسوق حداد في مطلع إحدى الفقرات القول التالي : "الصحيح الذي هو شك خالص.." عن سيرة قيس وليلى، من دون أن يطلب من ذلك التدقيق ولا التحقق المؤكد منها (ولو أنه يوفر العديد من الروايات عنها). ذلك أنه جنح وجهة أخرى ترى إلى المنقول، على تعدده نظرة تبلبله تبعاً لما يتوافر فيه من عناصر، ولما ينشأ بين القول والحياة نفسها (الخافية، أو المغيبة وراء القول) من إمكانات تعبير، بل من إمكانات عيش. وهو ما يبلغ عند حداد حداً أعلى بكتابته الشعر تمثلاً وتحاوراً مع محمولات الخبر وممكناته ومشتهياته :

"سأقول عن قيس
عن هوى يسكن النار. عن شاعر صاغني في هواه.
عن اللون والاسم والرائحة.
عن الختم والفاتحة.
كنتُ مثل السديم، استوى في يديه.
هداني إليه.
بَرِئْتُ من الناس لما بكاني إليهم
زها بي وغنوا الأغاني بأشعاره.
فما كان لي أن أُقَدّرَ أشعلني أم طفاني".

ما سعى إليه حداد، شرع به العزاوي منذ سنوات بعيدة، وهو التخييل انطلاقاً من نصوص أدبية عربية، معاصرة أو قديمة، وفي غير ميدان، ولو أنها تتوزع خصوصاً بين الشاغل السياسي (من الهم الفلسطيني إلى الهم البغدادي) ولذاذات الحب. وما يشغله في كتابه الفني الجديد، حاوله منذ "ألف ليلة وليلة" و"كتاب الحب" (قبل سنتين)، وهو ما نتأكد منه في غير علامة، ولا سيما في المعالجة الفنية. ففي مسعاه الجديد، كما في محاولاته السابقة المذكورة، نرى الثنائي (رجل وامرأة) يحتل مساحات الأعمال، وتشكل العلاقات بينهما ميداناً للتصوير، وذلك في تخطيطات تقرب من الرسم، أو في وضعيات تصويرية ملونة، وهذان النوعان الفنيان يختلفان في الكتاب، في مدى العناية التي يصرفها الفنان لكل واحد منهما، وفي المعالجة الفنية التي تصيبهما. فالرسوم أو التخطيطات لا تتعدى رسم الوجه، أو وضعيه الجسد المستلقي أو الواقف، بضربات عريضة وسريعة، تكتفي بتعيين الحدود الخارجية للملامح أو لهيئة الجسد الخارجية، على أن في الضربة ليونة وتلقائية حيويتين تضيئان الرسم بأقل عدد ممكن من الوسائل. فالضربة لا تتأنى في المعالجة، بل تسعى إلى مباغتة ما، إلى استنطاق سريع، ما يعطي خطوطها دينامية أكيدة تنشط البياض المحيط بالتكوينات. أما الوضعيات التصويرية فتختلف معالجة، وتتحقق في تركز شديد لموضوعاتها. وإذا كان العزاوي لا يعبأ كثيراً بزاوية التصوير في التخطيطات، ولا يولي تأليف الرسم عناية فائقة، ولا يخصه بالضرورة بتناول مبتكر، فإن الأمر مختلف تماماً في التصوير.
فنحن قلما نجد زاوية تصوير متكررة للثنائي المطلوب رسمه (أو لكل واحد منهما على حدة)، ولا معالجة فنية واحدة لهما : ففي عمل نجد الوجه أو العين يحتلان المساحة الكبرى من السطح التصويري، فيما يبدوان مثل تفصيلين فحسب في أعمال أخرى ؛ وفي عمل آخر نجد الجسد مبسوطاً مثل قيمة زخرفية، فيما هو في عمل آخر جسد "واقعي" إذا جاز القول، يحتفظ بمقاساته الطبيعية، عدا أنه يندرج فوق السطح التصويري اندراجاً يوهمنا بعمق تصويري ما. كما نجد الجسد أو الوجه (أو تفاصيل مجزوءة منهما) في عمل آخر يتوزعان فوق السطح التصويري مثل مفردات بنائية ليس إلا، كما لو أنهما أشبه بمكعب أو مثلث أو حرف لغوي أو علامة غرافيكية. ذلك أن العزاوي منشئ صور، يتناول الجسد مثل أحجار للمعمار، أو نتف من أشكال وألوان قابلة لسرد مختلف من الصور. وهو في ذلك يميل أحياناً إلى معالجة فنية لا تحتفظ من الشكل الطبيعي إلا بمفرداته، أو تحيله بالأحرى إلى مفردات، على أنها أشكال وألوان ومساحات قابلة للتوليف والتلوين. ويميل العزاوي في أحيان أخرى إلى الشكل الطبيعي على أنه موضوع تصوير حافظ لأصل ما. ولعلاقة شبه به.
الجسد أو الوجه الإنساني، ولكن من دون موضعة لهما في أي سياق ؟؟؟ ومن دون إشارات انتوغرافية (ألبسة، علامات..) دالة أو معينة لهما : يدخلان إلى اللوحة مجردين، ولا يكتسبان في إنشاء اللوحة ما يقصرهما على هذا الزي أو ذاك، نقول ذلك، متحققين من غياب شخصية "عبدالله"، التي ضمنها العديد من أعماله الزيتية في منتصف الثمانينات، ومن غياب إشارات أخرى (حروف عربية، ولو متطايرة أو مجزوءة، أشكال زخرفية وبنائية لدور عربية..) اشتملت عليها أعماله السابقة : أهو يتخفف، في لندن، مقر إقامته منذ نهاية السبعينات، من التركة القديمة سعياً إلى مخاطبة إنسان أياً كان، أي المشاهد، من دون إبراز بطاقة هويته عند دخوله صالح العرض ؟
ينصرف العنان العراقي إلى عري الجسد الإنساني، إذا جاز القول، ولكن من دون أن يتوسع في أقاليمه، صارفاً جهده في غالب الأحيان على الملامح والحدود الخارجية للجسد. وهو يطيل الوقف أمام الوجوه، إلا أنها لا تنعم أحياناً بتعابير تفضح أو تفصح عما تعايشه أو تلتذ به أو تكابده. ما نريد قوله هو أن بعض التصاوير يفتقر أحياناً إلى حسية معلنة ومناسبة، فيبدو الجسد "أسلوبياً" إذا جاز القول، يقرب أو لا يختلف عن "الجسدانية اللفظانية" التي حاولها أدونيس في "تحولات العاشق". ومع ذلك فإن العزاوي يتغير في عدته الفنية فيما يعاود الخطى نفسها التي ما تواني عن طرقها منذ منتصف الستينات، ولو أن تصاويره تترجح دوماً بين مساع لونية – زخرفية – تصميمية وبين مساع بنائية – تعبيرية. فنحن لا نزال نلقى في تصاويره ما سبق لنا أن عرفناه في تجاربه الغزيرة ومعارضه في غير مدينة في العالم (من بغداد إلى لندن، مروراً بباريس وبيروت وواشنطن وغيرها الكثير): فولعه، منذ فترة البدايات، بتقاطيع السجادات الشعبية في تخطيطاتها وألوانها المتناوبة، نجد بعضاً من معالمه في لعبة التناوبات التي يقيمها بين مساحات قريبة من الشرائط الزخرفية أنحياناً. كما نجد في تصاويره الحالية اهتمامه القديم بـ "وضعية المواجهة"، كما نلقاها في الفنين البابلي والآشوري (حيث يكتفي الفنان برسم الوجه من دون باقي الجسم، واضعاً الرأس في صورة "مواجهة" لإظهار النظر الجانبي). كما تتحقق،أيضاً من أن لقيس وليلى شكلاً قريباً مما عرفناه في تصاويره السابقة، أي شكل الرأس السومري بعينيه الكبيرتين وشفتيه المفتوحتين، أو تكبير الأنف والعينين، على ما نتبين التكبير في النحت المعماري الآشوري في هيئات الأسود والخنازير المجنحة.
يترجح العزاوي بين التصوير والتلوين، كما قلنا، وهو ما يتضح في تعامله مع اللون خصوصاً، حيث أنه لون مبسوط أحياناً، كما في الزخرفة والتصميم، ولون مقمش، أي مشغول، أحياناً أخرى، كما في التصوير. عدته اللونية لا تزال تستقي مصادرها من الأخضر العشبي والأصفر الذهبي والأزرق السماوي والبني الغامق والليلكي والبنفسجي وغيرها، في مساحات بينة، قلما يختلط بعضها ببعض. وهي خلطات لونية، تجمع بين الداكن والمشرق، بين الصريح والمنطفئ، في أعداد وفيرة، ما يشير إلى طول باع العزاوي المتمادي في موازنة الألوان، بل في "تزويجها" و"ترقيصها".
التخييل سبيلاً إلى السرد، إلى الغواية، بل إلى تبين الخطوط الدقيقة الفاصلة والجامعة، منذ حياة قيس بن الملوح، بين الفن والحياة، وبين الشعر والجنون. وما قام به العزاوي – حداد يأتي في سياق ما أبانه الكاتب اللبناني وضاح شرارة في دراسة بعنوان : "أخبار مجنون بني عام لأبي الفرج الأصبهاني، وبذيله أخبار الخبر لوضاح شرارة" ("دار الجديد"، بيروت، 1990)، وهو أن قصة "المجنون" حملت في خبرها وأفلحت في قبول روايات مختلفة وكثيرة، وخلص فيها إلى القول أن خبر مجنون بني عامر يقرأ على أنحاء مختلفة، ففيه خبر عن التوحش وع موقعه من العمران، ومكان العمران منه، وخبر عن الجنون واختلاط النفس وانتفاء بعضها من حكم العقل، وخبر عن أصل الشعر، وعن علاقته بالخبر، وعن النبوة والولاية وأعراضهما، وعن المشيئة والإرادة والقدر والاختيار والعدل وغيرها.

جريد الحياة
لندن – 12 أغسطس 1997
عدد 12222