مطلع الأسوار:
تنسى الجهات، التي تختبر الدم، وهو يطلع مثل الطّل في ليل النشيد، تنسى زهرة الثلج وهي تغادر مرفأ القلب قبل أن تهتف لما يصنعه الموت في جسد يختبر دقائقه الأخيرة، قبل أن تخطف اللقاء الأخير معه. تجالسه مثل مديح الملوك، وتنفي روحك لتصنع من هذا الورد عطراً أخيراً. تنسى الجهات وتذهب من دون حراس، وندماء، من دون هتافات أخوية تتوالد مع الاختلافات اليومية.
بين أخٍ وأخته.
بين أخٍ وأخيه.
بين دمٍ وصاحبه.
كنا نريد أن نراك حياً مثل من مات منا قبل الموت. ومثل من عاش منا قبل الهزيع. كنا نريد أن نراك، أن ننسى علاقاتنا الصغيرة بك وأنت تدلف إلى الحوارات التي عبرناها قبل جسر الحب، وبعد ليل النجمة التي غادرت ليلة الذبح. كنا نريد أن نقرأ ما نسيناه من تفاصيل علاقاتنا، بين الخبز والصباح، بين السمك وحنين الجيران وهم يتسامرون حول نجمة الدار ليلة مجيئك ضارعاً بالنسيانات.
لا امرأة تضمك بزعترها، لا أم تهديك ثدييها، لا شريك يحتمل الطريق وأنت تغادر كي لا ترانا في أحزان الصبّار، وفي سعف النخل الذي جزه أبي في ليلة القدر، دون مراعاة لمنزلة الليلة الكريمة.
كان يقول: هذا سعفٌ.
وكنا نقول: في شهر رمضان يا أبتاه!
فيقول: لا يضير الصوم سفك الدماء. خذوا أحزان يعقوب، ولا تلتفتوا للطريق. هذا أخوكم، أصغر الورد، أكثر العطر، خذوه إلى الملك الأثير كي يكمل قصيدته عن العائلة. كي يغلق باب منفانا، وينسحب بأرواحنا التي لملمها طوال هذه السنين. جدار زاخر بكل ما يمليه الزمن علينا. في مساكن العجزة وهم يأخذون السيرة من طعم التمور ورواة الأرز. من الأثقال الطاعنة وماضي الرياح الشمالية وهي تنكسر مثل الرمان على أكتاف من رآنا بين أجنحة الأحزان وأسوار البيت.
مطلع الشبابيك:
نأتي لزيارتك كي لا ننسى، فتختبر ساعاتنا عبر أسئلتك التي لا تكف عنها:
- كيف أمي؟
- مازالت لا تعرفك.
- ولكنني هنا في زمن ينفطر بعشقها.
- ما زالت لا تعرفك.
- لعلني تغيرت كثيراً
- ربما لأنها شاخت.
- ربما عصفت بها الأحزان.
وتنسحب، تتركنا في هدنة القبر نوزع عطر المشموم على الموتى. حين نعيد درس زياراتنا الأسبوعية، كان واضحاً أن العابرين يلتقون كثيراً على مشارف من مات قبل هدنة الحياة أو بعدها. تساقط من شجرة العائلة منسحباً نحو شجرة المنفى. دون أن يستأذن الريح وهي تصفق جدران البيت برسائلها التي تهاوينا وتتعبنا ونحن نقرأها، رسائل مصابة بالنسيان، تحتفي بتهديداتها اليومية في اختطاف من تبقى منا.
- لمن جئت هذه المرة؟
- لأجملكم.
- لقد أتعبنا الحزن؟
- ليكن الحزن بوصلة العائلة .
- بعد كل هذا!
- ومازال في الأفق الكثير.
- خذ الجهة الأخرى.
- ليس ثمة غيركم يستحق كل بهاء هذا الموت المعطر.
ربما تنسى الجهات،
أبناء وأباء وأحفاد، في سريرة البيت، حيث الأصوات والنعال، وسجادة الصلاة، وعقال أبي، وما تبقى منه كغواص أختبر موانئ الإشارات الغامضة.
تعتزل أمي فضاء العائلة، تنصت لفريد الأطرش، فلا تسمع سوى بكائها. تتقدم أنت بروحك، أو ما تبقى منها لتسخر من هذه العاطفة الجياشة. لم تدرك جحيمها الخاص لأنك تنسى الجهات، لم تعد شبابيك البيت تستر أرواحنا وهي تهب في ليالي الصيف، حين نغزل سيرة الحب بكثير من عصير الليمون.
ربما ننسى الجهات ليباغتنا بشكل مناسب، يمتحننا كلما نسينا الدرس، يموج بنا ساعة الحسرة وفيض الحديد في صليل النار، قبل أن ينفذ الحديد وتخمد النار.
تتوقف أمي عن الغناء.. تصمت قليلاً .. قليلاً
ثم ترتل سورة ياسين.
مطلع الصناديق الخشبية:
هل رأيت من يتذكر الموتى؟
هل رأيت أحلامنا بين أحلامهم. سنوات الفراق لا تكفي لكي نعذر للموت أخطاءه التي يكابر فيها. ولا تكفي لكي ندعوه يرافقنا في سفر من لا ينسون، ولا يكبرون، ولا يختبرون الحب، والجنس ومشاهدة الأفلام السينمائية.
تنحل المسامير ونحن نعالج قلعها من خشب كان أبي يمعن في تنجيره ليرقع به صناديق الخشب الكثيرة التي يملأها بكل ما يصادفه في مسيرته اليومية إلى عمله الأخير، حين كان يروي حدائق الشوارع بماء حياته، ولا يكف عن التقاط بقايا أفراح الآخرين، وتكديسها في هذه الصناديق.
بعد كل هذا الوقت، لم تنفتح على أفراح كبيرة. تصدأ المسامير، فلا نقدر على إمساك هذه الأفراح التي ستظل عالقة هناك في ظلمة الخشب وهو يعتصرها كي تظل هادئة تحلم بانحلال المسامير بعد ذهابنا جميعاً.
لا عمرك يكفي كل هذه اللقاءات القصيرة التي تعبر نهر العائلة وهي تبدل راياتها، ولا يكفى ما سبقنا من الأحاديث البعيدة على قمم التهارم. كلما سبقنا أخٌ أو أختٌ، ليؤثثا قبور القادمين من السلالة الأخيرة لقصيدة البيت، بين الحرائق وزهرة الياسمين، تحسسنا أرواحنا أن كانت قابعة في سلة البلح، وفناجين القهوة الصباحية، التي نرتشفها بمتعة من غافل الموت واكتشف نهاراً جديداً. لا عمرك يكفي ولا تكفي حكايات من لا أسماء لهم وهم يتوغلون في أمواج البحر كي يقتنصوا حكايات الصيادين وهي ترتحل مع أشرعة مراكبهم. حكايات لا تنتصر على النسيان والفقد وصوت أبواق الموت، وذكرى الشواهد وهي ترتص ببعضها لتستأنس الوقت المتبقي لكل هذا الليل الذي ينثر عطره الأخير على من مات قبل الموت وبعده.
- هل قلت لنا شيئاً أخيراً يا أخي؟
- قد مت قبل موتكم.
- إذاً من هناك مع العائلة؟
- ربما أخ آخر لم تحبسه السنين.
- هل يستطيع أن يؤنس أمي في وحشتها؟
- ربما يستطيع، ربما يعجز.
- لكنها تعبت!
- وماذا أفعل لها. أسالوا ربك؟
- هل يسمع صوتنا؟
- ربما.
- إلى أين أنت ذاهب؟
- إلى حيث أجد روحي