لم يعد مفهوم «الشذرة» في الأدب، غريباً عن القارئ العربي، إذ ثمة كثيرون من أدباء لغة الضاد، مالوا إلى كتابة هذا النوع الأدب. والشذرة قد تكون ترجمة لمفهوم «الأفوريسم» الذي يعرفه الغرب الذي استقاه من الإغريق القدامى «أفوريسموس» التي تعني «التحديد»، وهي أشبه بحكمة مكتوبة بعدد قليل من الكلمات – وإن كان لا يمنع ذلك في أن «تتمدّد» إلى جملة أو جمل – تُلخص مبدأ ما أو ربما أيضاً تبحث عن تحديد موقف معين..
في أي حال، هنا مجموعة من «شذرات» الشاعر الفرنسي ألان بوسكيه، ينقلها إلى العربية، الشاعر الجزائري المقيم في شيكاغو، الخضر شودار، وهي شذرات تنقل إلينا، بعض هذا التفكير الفلسفي للشاعر، إن جاز التعبير. وبوسكيه، شاعر من أصل روسي ولد في أوكرانيا العام 1919 وتوفي في باريس العام 1998.
****
على أي أرض سأخطو كي أسمع كلمات لا ترحم.
***
لا يهمّ ما إذا كانت نوافذي مشرعة أو مغلقة، فكلها تطلّ على المخاطر.
***
اعتنوا فقط بجثتي. وسأعتني أنا بروحي سواء كنت هنا، أو هناك، أو في أي مكان.
***
لا أعرف سوى قيمة أخلاقية واحدة، صريحة وقاسية وبلا بزنطيات: الوضوح.
***
ما قمة السعادة؟
أن تحيا بلا مثل، كيف ما اتفق، كيف ما يكون.
***
قبل الحب، يعوي الجسد، وبعد الحب يتثاءب.
***
أن تموت لتصبح آخر.
***
للشعر جواب على كل شيء ولكن على نحو مناقض.
***
لا يجمع بين زوجين سوى الأشياء: خزانة، طاولة، ثلاثة صحون، سجاد، أربعة جدران، مقصات، باب، مفاتيح، وأحياناً نبتة خضراء يسقيانها بامتعاض.
***
الشعر الذي يستحقّ هذا الاسم، هو في كل مرة يعني شيئاً آخر.
***
أن تكتب شعراً هو أن تنقل نجماً من مكان إلى آخر.
***
أنقسم على ذاتي: أتحملني أكثر كتفاريق.
***
عليّ أن أتجاوز نفسي لأصبح شيئاً قليلاً.
***
أكذوبة أنك نجحت في كتابة ذاتك، أصبحت حقيقة.
***
أخيراً، اعترف الوقتُ بأنه جاء من النسيان.
***
أنا في أغلب الأوقات أقترب منك أنت، ولا أقترب أبداً مني.
***
تكفي حمّالة نهدين كي لا يضطرب هذا العالم.
***
الشاعر يتنصّت على أبواب: لا بيوت وراءها.
***
الحياة جميلة لو أننا فقط نرتجلها بلا معنى.
***
من النادر أن أحبّ امرأة: أستطيع أن أحبّ أذنها، شفتها، صوتها، حلمتها، مشط وكعب رجلها، بؤبؤ عينيها. واتخذ من تفاصيلها الجميلة تمائم. لماذا تريدونني إذن أن أقبل بها جملة؟
***
المطر مثل نص مكتوب يمّحي قطرة فقطرة.
***
بالنسبة إلى بعض النساء، المروحة هي بمثابة فلسفة: «اقترب، ابتعد، أحبني» يكفي شيء ما كي يغيّرن حياة إنسان.
***
اِلبس ثياب الحداد قبل أن تكتب شعراً: سيقتل حقائقك واحدة بعد أخرى.
***
في الشعر يكون الأطفال أكثر حكمة من الكبار.
***
ليست نواميس الكون هي ما يشدّني وإنما غواياته.
***
الله طريق لا مخرج منه وأكثر من ذلك لا مدخل إليه.
***
كنت دائماً أحلم بأن أبيع مكتبتي، أن أنسى أقاربي، وأغادر باريس إلى ميناء صغير على ضفة المتوسط. حيث أشتري مقهى رديئاً أرمّمه وأعيد طلاءه بلون أزرق فاتح. وستحمل لافتة هذه الكلمات: «على موعد مع الأعداء». ستكثر المشاجرات، وتتطاير شظايا الصحون، وسيكون علي أن أطلب الشرطة او الإسعاف ثلاث مرات على الأقل في الأسبوع. لم تتحقق أمنياتي هذه: الزبائن يتبادلون التحية، يعانق بعضهم بعضاً، يرفعون الأنخاب ويلعبون الورق. حتى أنا ، اعتدت على سمنتي وعلى نفاق مزاجي الرائق.
***
السعادة الكبرى للإنسان الذي يفكر تقتضي أن يتساءل مراراً في اليوم: «مَن أنا؟» دون أن يأمل الحصول على جواب نهائي من نفسه.
***
الوجود كتاب نقرأه بلا توقف. وسرعان ما نكتشف بأنه كتب في لغة أجنبية، لا يمكن فهمها أبداً.
***
أحتجّ ضد أي قيمة، عدا الفن، النشاط الإنساني الوحيد الذي يعرف مجاناً.
***
البحث عن الذات، هو أن تنصب فخاً، حيث يقع فيه لا أحد.
***
كلا لا وجود هناك لإبداع: هناك إعادة خلق تحاكي ما لا نعرفه.
***
الشعر هو جوهرياً مزاجي: لا التحليل ينفع معه ولا التخمينات.
***
لا علاقة لي بالآخرين إلا إذا هم عرّفوني أكثر على نفسي.
***
يجب أن نعترف بالفضل لأولئك الذين لم نصادفهم أبداً في حياتنا: فالتكافل الإنساني يقوم على هذا النوع من سوء الفهم.
***
قلت في نفسي لقد حان وقت أن أعيش قصة حب جميلة. فاخترت امرأة: كانت تحدثني عن طفلها. وداعاً. اخترت أخرى: كانت تتكلم عن بيت العائلة. عذراً. المحاولة الثالثة لم تكن سارّة أيضاً: امرأة تشتكي من مكتبها، من عملها، ومن رؤسائها في العمل. ما الفائدة اذن. الرابعة والخامسة أرادتا اقتسام كل شيء معي: القلب والحساب البنكي. فهربت. التاسعة عشرة وصفت لي شجرة الأرز اللبنانية، فوق هضبة، في أوقات الغسق. منذئذ ونحن سعيدان طوال أشهر.
***
لا أبحث عن الأمجاد إلا في الأيام التي أهبط فيها الى أوحال نفسي.
***
سرعان ما تصبح اليقينيات كسلى. فالشكوك – التي تقبل بالشك داخل الشك – هي أكثر تأثيراً وفاعلية.
***
الأفكار لا هي حقيقية ولا باطلة: إنها دعوة إلى خصومة إلهية.
***
لا شيء أسمى من اللامرئي: الله هو مَن يستفيد.
***
في وسعي أن أعيش بلا قلب، بلا رئتين، بلا أحشاء: لكن لا حياة لي بلا شعر.
***
إذا كان الله في كل شيء، فهو أيضاً في أعقاب السجائر، هناك على الطاولة. فهل عليّ أن أؤلّه أعقاب السجائر؟
***
أنت كما أنت، إن كنت لا تتساءل من أنت. ولكن إن لم يحرّضك الفضول على التساؤل، فاعلم بأنك خائن نفسك.
***
المطلق شجرة تعلق أحياناً بنجمة.
***
تحتشد ذكرياتي إلى الحد الذي يجعلني لا أميّز بطولة الأشباح ولا ألوهية العاهرات.
***
أقول بدءاً لمن يمدون أيديهم إلى مصافحتي: «ذكرني باسمك من فضلك»، ثم سرعان ما أقول: «هل لك أن تذكّرني باسمي».
***
مهما حدث، عليكم بالاحتجاج.
***
الحياة ليست سوى ثوب مستعمل يمكن أن نعطيه لمتسوّل أو نعلّقه بين الحلل الرسمية، والسموكينغ، ومعاطف الفراء التي تجاوزتها الموضة. ستجد فيها العثة طعاماً لها.
***
الأبدية طرفة عين، قبل اختراع الأعين.
***
يا صغيري مارسيل، إننا لا نستعيد الزمن الضائع: بل نكتشف زمناً آخر، مجهولاً.
***
ما الذي يبحث عنه الشاعر، إن لم يكن سحر حقيقة ما، والتي لا يمكن في أي وقت من الأوقات اعتبارها حقيقة؟
***
لست من دعاة الشعر. أقول، بالمقارنة الى الاسرار التي تسحقنا، هو مثل قطرة الندى على وشك السقوط. يترجم متعة عابرة: متعة أن تكون ما لست أنت، أو ما لا ترغب بلا جدوى في أن تكونه أبداً.
***
الأبدية لا تظل على حال. إنها تتململ، تركض، ولا تقوى حتى على التشبث بنفسها.
***
الانتحار دائماً على قائمة المأكولات. لسنا مجبرين على أن نتذوقه.
***
ما من حقيقة تطول إلا وتصبح كاذبة.
***
لم أعد أسائل أمثالي من البشر. فأنا أخاطب النباتات، والحيوانات، والكواكب، والبحار. الأجوبة التي أتلقاها منها، هي أيضاً ناقصة وغبية ولا علاقة لها بقلقي. لكني لا ألومها، بل أتّهم البشر الذين هم على شاكلتي: حقيرون، أنذال، وفاشلون.
***
كل معرفة هي من النثر، وكل حيرة من الشعر.
***
هل علينا أن نستبدل الله أم نعيد ببساطة طلاءه بلون جديد؟
***
لتأكل أولاً من ثمرة الأناناس، ثم أخبرني في ما بعد إن كنتَ ترغب في اختراعها من جديد.
***
لكتابة لا تستجيب لا إلى الدماغ ولا إلى الذاكرة وإنما إلى الرّيق.
***
كل نثر كاريكاتور، وكل شعر خيانة.
***
لشجر الأوكاليبتوس رائحة محببة. شدو في النهر. وللهضبة أشكالها المتناسقة. فتاة شقراء تحثّ الخطى، شعرها تتلاعب به الريح فيما يتبعها كلب بحبور غامر: سلوقي بلا شك. «أحبك.. أحبك»، يردّد الكلب. الفتاة الشابة وبقناعة تامة، تنبح.. تنبح.. تنبح. الكون لا يتخلى أبداً وفي أي لحظة عن بهائه.
****
«ما هو جوهري» يقول الله لي «هو ألا تترك برهاناً على وجودك».
****
الروح لا تبذل أي جهد.
****
أنصت.. أنصت.. إلى صرخة عظامك الخرساء.
****
النساء هنّ أحب أنواع الحداد إلى الرجال.
****
بعد الحب، أعني بعد فعل الحب، ما الذي تريدين أن يكون بيننا؟
هناك إجابتان، كي أكون صريحاً: إما لا شيء وإما كل شيء.
لا شيء: أن أنساك تماماً.
كل شيء: أن أؤلهك.
****
انتصر أولاً ثم فكّر ثانياً.
****
في اليوم السادس همس الله لنفسه: «لقد أكثرتُ من المادة»
****
كنت في ما مضى أحب بعض يقينياتي. الآن، لا أحب شيئاً، ولا حتى غرائبي.
****
الشاعر.. وكيل مُسُوخ.
****
إنني في حاجة إلى أن أغزو الكائنات وليس إلى أن أرتبط بها.
****
- أتخيّلني بين ذراعيك.
- لكنّ ذراعيَّ لا تتخيّلان أي شيء.
****
- ورقة نعناع في شرابك من الفودكا؟
- لا، شكراً.
- كرزة، إذن؟
- لا، لا داعي.
- أعرف: قشرة ليمون أخضر؟
- هناك ما هو أفضل.
- قلْ أنت.
- ثلاث قطرات من دمك.
****
إنني أبيع أقواس قزح في البلاد التي لا تمطر.
****
ليس للشاعر سوى بديل واحد: طريق بلا مخرج، أو ممرّ ضالّ.
****
أن تموت كي تصبح آخر.
****
كل ورداتي تسمّى «عناكب»...
****
تفوق البيانو يكمن: في أن له أسناناً أكثر مني.
****
- كيف تريدني؟
- عارية تماماً، كاحلاك إلى أعلى وخنفساء على نهدك الأيمن.
****
ليس للطبيعة عدو أقبح من تعريفها.
السفير--19-08-2016 01:02 AM