* عندما يتحدث شاعر كبير عن شاعر كبير آخر نجد أنفسنا أمام ظاهرة فريدة من نوعها: وهي ان الشعر يتحدث عن الشعر، ويحق لنا ان نطرح عندئذ هذا السؤال: أليس الشاعر الكبير هو وحده القادر على فهم الشاعر الكبير؟ ألا ينفذ الى أعماقه وجوهره عندما يتحدث عنه؟ الم يعان نفس الظروف التي تحيط بمخاض القصيدة؟
ضمن هذا المعنى نتوقف عند قراءة احد كبار شعراء فرنسا في القرن العشرين (رينيه شار) لسلفه الأكبر: آرثر رامبو. صحيح ان قراءته ذاتية ملتهبة، بل وتشبه القصيدة الشعرية أكثر مما تشبه الدراسة النقدية، ولكنها تستحق الاهتمام فعلا. لا ريب في ان النقاد المحترفين اكتشفوا جوانب أساسية من شعر رامبو، بل وأضاءوا ذلك الشعر في كافة النواحي. ومن بينهم سوزان برنار وعشرات الآخرين. فعدد الدارسين الذين اهتموا برامبو لا يكاد يحصى أو يعد. ولكن تبقى للشاعر ميزة اخرى لا يمتلكها أي ناقد مهما علا شأنه: وهي انه ينفذ الى جوهر الشعر غير عابئ بالقشور والقوالب والأشكال.
يقول رينيه شار في مقدمته لأشعار رامبو: قبل ان نقترب من رامبو نرغب في الإشارة الى ما يلي: وهي انه من جميع التسميات التي أطلقت عليه حتى الآن (رامبو الرائي، رامبو الأزعر، الخ) لن نحتفظ بأي تسمية ولن نرفض أي تسمية. بكل بساطة، هذه التسميات لا تهمنا، سواء أكانت صحيحة أم لا، متوافقة أم لا، لأن شخصا كرامبو، وبعض الآخرين من جنسه، يحتويها بالضرورة جميعها. (افتح هنا قوسا وأقول بان رينيه شار يعتبر نفسه حتما من جنس هذا البعض، أي من جنس رامبو)... الصفة الوحيدة التي نطلقها عليه هي: رامبو الشاعر. وهذا يكفي، هذا ما لا نهاية له. انه شاعر فقط، وهل هناك اكبر من هذا النعت؟
ان النعمة الحاسمة للشعر، وهي نعمة مجهولة أبديا هي: مناعته، حصانته. فمن محاكم التفتيش الى الأزمنة الحديثة لم تستطع قوى الشر ان تقضي على المتصوفة "تيريز دافيلا" أو على الكاتب بوريس باسترناك. لا توجد أي قوة في العالم قادرة على قتل الفن أو الشعر... ان نتوجه نحو رامبو كشاعر فهذا يعني عملا جنونيا لأنه يجسد في نظرنا ما كان الذهب في نظره: أي جوهر الشعر. فقصيدته إذ تسحر وتثير الشروحات والتعليقات، تكسرها في ذات الوقت وفورا، أيا تكن هذه الشروحات والتعليقات. لا يوجد أي تفسير في العالم قادر على ان يرتفع الى مستوى شعر رامبو. كل تفسير يتهاوى أمام قصيدته، ويبدو شاحبا... ينبغي ان نرى رامبو من خلال منظور الشعر فقط. فهل هذه فضيحة؟ هل هذا صعب؟ وعندئذ نجد ان حياته وأشعاره يشكلان وحدة متجانسة ومتماسكة بشكل لا مثيل له.
قول ذلك على الرغم من فرادة حياته وأشعاره أو بسببها. كل قطعة من أعماله وكل لحظة من حياته تساهمان في عملية نكاد نقول بأنها قِيدت إلى درجة الكمال على يد ابولون وبلوتون انه الإلهام الشعري، الإلهام الأكثر احتجابا والذي يتجاوزنا كقانون، ولكنه كظاهرة نبيلة يكاد يحيط بنا بشكل أليف. لقد أخطرنا بالأمر: فيما عدا الشعر، ما بين قدمنا والأرض التي تضغط عليها، ما بين نظرتنا والمساحة المقطوعة، العالم لا معنى له. ذلك ان الحياة الحقيقية، أو العملاق الذي لا يريد، لا يمكن ان يتشكل إلا على خاصرة الشعر. ولكن الانسان لا يمتلك تلك القدرة (أو لم يعد يمتلكها، أو لم يمتلكها بعد)، اقصد القدرة على امتلاك الحقيقة، إخصاب ذاته فيها، إلا من خلال ثوان خاطفة تشبه البرق، ثوان تشبه الرعشة. وفي الظلمات الحالكة التي تتلو الإلهام الشعري، وبفضل المعرفة التي تقدمها تلك الاضاءات الخاطفة، فإن الزمن ينقسم على نفسه، ويجري، ولكن لصالحنا: نصفه معشوشب، ونصفه صحراء قاحلة. انه الزمن الذي يمر بين الفراغ المرعب الذي يفرزه، وما بين الأمل المرهص الذي لا يعتمد إلا علينا، والذي هو ليس إلا المرحلة المقبلة للشعر الهائل وللرؤيا التي تبشر به.
لقد خاف رامبو مما اكتشفه أمام عينيه، مما رآه.. فالمسرحيات التي تلعب على مسرحه ترعبه وتسحره في ذات الوقت. كان يخشى ان يكون الخارق واقعيا، وبالتالي ان تكون المخاطر الناتجة عن رؤياه واقعية هي الأخرى أيضا. كان يخشى ان تتحالف فيما بينها وتتضافر لكي تقضي عليه. وعنذئد يخادع الشاعر ويداهن، ويحاول زحزحة الواقع العدواني الى فضاء خيالي، يتخذ شكل الشرق الأسطوري، حيث تضعف وتتقلص رغبته الهائلة في الموت. ولكن وا أسفاه! فالخدعة لا جدوى منها، والكابوس المرعب مبرر، والخطر المحدق حقيقي لا مرد له. فالمتلقي الذي يرغبه ويخشاه، ها هو ينبثق أمامه كقرن مزدوج غارسا نتوءيه الحادين "في روحه وجسده".
م يردف رينيه شار قائلا:
إنها لظاهرة نادرة في تاريخ الشعر الفرنسي، وغريبة الشكل في هذا النصف الثاني من القرن التاسع عشر: فالطبيعة لدى رامبو لها حضور مهيمن. ولكنها طبيعة غير راكدة، طبيعة غير محبوبة لأجل جمالها المعهود أو خصوبتها الإنتاجية. ولكنها تربط بمجرى القصيدة، بسيلانها، حيث تتدخل تكرارا كمادة، كمنبع للنور، كطاقة خلاقة، كدعامة لأعمال ملهمة أو متشائمة، كنعمة. ومن جديد تصبح الطبيعة قادرة على الفعل والتأثير. وعلى هذا النحو خلف رامبو بودلير." وفي مكان آخر يقول رينيه شار كرد على سؤال طرحه عليه صديقه الفيلسوف هيدغر: "كما قال رامبو في إحدى قصائده: منذ الآن فصاعداً لن يرافق الشعر إيقاع الممارسة، وإنما سيتقدمها، سيضيء لها الطريق.. (هذا يعني ان الأولوية أصبحت للشعر، وليس للممارسة والانخراط).
في الماضي كانوا يطلبون من الشاعر ان يصف الأعمال البطولية أو يمجد الشخصيات الاستثنائية أو يمدح هذا وذاك، أما الآن فإن الشعر أصبح يتقدم على كل شيء. أقول ذلك وأنا أحاول تفسير كلام رينيه شار لا ترجمته بشكل حرفي. لن يعود الشعر بعد اليوم مديحا ولا هجاء ولا رثاء، وإنما سيصبح شيئا آخر. فالشعر سوف يصبح المؤشر الذي يفتح أمام الممارسة الطريق أو يدلها على الطريق. الشعر هو القانون، والممارسة هي الظاهرة: انه كالبرق الذي سبق الرعد. والشاعر أصبح مسؤولا عن مصير البشرية كما يقول رامبو أيضا.. الشعر بهذا المعنى أصبح الفكر المغنى، أي الذي يُنشد فيطرب. ولكن لم تعد مهمة الشعر إطراب الناس كما كان عليه الحال في الماضي. وإنما أصبح مسؤولا عن قيادة البشرية. وهكذا يصبح الشعر منافسا للفكر أو للفلسفة ولكنه يستخدم وسائل اخرى غيرها من اجل هداية البشرية أو فتح الطريق أمامها.
بهذا المعنى فإن الشاعر والفيلسوف يلتقيان ولا يتناقضان كما توهم الناس لفترة طويلة. صحيح ان كلا منهما يسلك طريقا مختلفا، ويستخدم أدوات مختلفة، ولكن النتيجة واحدة في نهاية المطاف: توليد الإشعاع والنور، تبديد الظلمات.. الفرق الأساسي بين الشاعر والفيلسوف هو في كيفية استخدام اللغة: الأول يستخدمها بطريقة حدسية مجازية، والثاني بطريقة منطقية برهانية. ولكن النتيجة واحدة في نهاية المطاف: إضاءة الطريق أمام البشرية.
م يضيف رينيه شار قائلا: ضمن منظور رامبو وكومونة باريس فإن الشعر لن يرافق بعد اليوم إيقاع البرجوازية، لن يمشي على وقع خطواتها، لن يخدمها. وإنما سيكون أمامها، سيتقدمها، سيتقدم كل الحركة التاريخية للبشرية.. الشعر هو الرائد الطليعي والجميع خلفه. أليس الشاعر هو الرائي الذي يرى الأشياء قبل ان تحصل؟ وهل الرائي يكون في المقدمة أم في المؤخرة؟ بهذا المعنى فإن الشعر الحقيقي أي شعر رامبو وبعض الآخرين هو ذلك الذي يستبق على الحركة التاريخية ويرهص بما سيجيء. وحدهم الشعراء الصغار يلهثون وراء حركة التاريخ ولا يرون ابعد من انفهم.. الشاعر راءٍ بمعنى انه يرى ما لا يرى، يرهص بما سيحدث بعد عشرين سنة، أو ثلاثين سنة، وحتى خمسين سنة!. بهذا المعنى أيضا يلتقي الشاعر الكبير مع الفيلسوف الكبير: كلاهما راءٍ يكتنه أعماق العصور. أقول ذلك وأنا أتحدث عن شخصيات في حجم هولدرلين هيغل، أو بودلير نيتشة، أو رامبو فرويد، الخ.
يقول رينيه شار هذه العبارة الرائعة: الممارسة عمياء، ووحده الشعر يرى. واحدهما مرتبط مع الآخر عن طريق علاقة الأم بالابن. والابن يتقدم الأم... الكلام يسبق الفعل، والفعل يجيء بعد الكلام. هذا يعني ان الأولوية للشعر.. الشعر هو نشيد الرحيل، نقطة الانطلاق الأولى، بداية الطريق.. فأهلا بالشعر إذن، ولكن الشعر نادر وقليل... في كل مائة سنة يظهر شاعر كبير واحد أو اثنان أو ثلاثة على أكثر تقدير. وقل الأمر ذاته عن الفلاسفة. القرن التاسع عشر الفرنسي شهد ظهور ثلاثة شعراء كبار هم: بودلير، رامبو، لوتريامون. ويمكن ان نضيف إليهم مالارميه. ولكن ماذا نفعل بفيكتور هيغو، والفريد دوموسيه، وقييني، ولامارتين؟ عفوا نسيت الشاعر الرائع: جيرار دونيرفال. فمعذرة، وألف معذرة!.. حقا لقد حفل القرن التاسع عشر بالشعر والشعراء.. ولكن ليست كل العصور خصبة الى مثل هذا الحد، فالزمن بخيل بالشعر، والشعر قليل... ينبغي ان تموت ألف موتة لكي تكتب قصيدة واحدة لها معنى!.. لكن لنستمع الى رينيه شار يتحدث عن آرثر رامبو ولا أقول يرثيه...
ناً فعلت، إذ رحلت، آرثر رامبو!
"حسنا فعلت، إذ رحلت، آرثر رامبو! فسنوّك تستعصي على الصداقة، وعلى سوء الطوية، وعلى حماقة شعراء باريس، وكذلك على طنين النحل العقيم لعائلتك شبه المجنونة... حسنا فعلت، إذ بعثرتهم جميعا في رياح الشواطئ البعيدة، إذ رميتهم تحت سكين مقصلتهم المبكرة. حسنا فعلت إذ هجرت شارع الكسالى، ومواخير الشعر الرديء من اجل جحيم الحيوانات، من اجل تجارة المحتاجين وتحية البسطاء.
هذه هي الوثبة الرائعة للجسد والروح، هذه هي قذيفة المدفع التي تصيب هدفها وتفجره. نعم! هنا بالضبط تكمن حياة الرجل الحقيقي. فلا يمكن للمرء ان يخنق جاره الى ما لا نهاية. وإذا كانت البراكين لا تغير مكانها إلا قليلا، فإن حممها، وسيولها تعبر الفراغ الكبير للعالم وتقدم له فضائل تغنّي في جراحاته.
نا فعلت، إذ رحلت، آرثر رامبو! نحن حفنة الذين يعتقدون بلا برهان بأن السعادة معك كانت ممكنة".
ينيه شار، من مجموعة بعنوان: (هيجانات ومجاهيل).
جريدة (الرياض)