أربعة أصوات شعرية من الهندوراس

ترجمة: اسكندر حبش

عنوان الرواية الأولى لغارسيا ماركيز يقول الجغرافيون إن الهندوراس بلد جبلي، مليء بالصنوبر والبحر. بلد مفتوح، في الوقت عينه، على محيطين: الأطلنطي والباسيفيكي، كما يجاور نيكاراغوا والسلفادور وغواتيمالا. أما المؤرخون، فيقولون إنها بلاد استقلت عام 1839، وقد عرف تاريخها العديد من «الأبطال» أبرزهم فرانشيسكو مورازان، الذي يعد «بوليفار أميركا الوسطى». أما أدباؤها، فيرون أن ذلك كله انعكس في «شعر» الهندوراس، على الرغم من «أن غالبية هذا الأدب يقع تحت سمة التشاؤم والقدرية»، مثلما يقول روبرتو سوسا، أحد كبار شعرائها في النصف الأول من القرن العشرين.

ومع ذلك، نجد أن شعر الهندوراس، شعر غني، متنوع، يضم بين طياته هذه الوجدانية العميقة التي تتجاور فيها، المشكلات الاجتماعية ـ الفردية منها والجماعية ـ الخلاسية (الهندية والبيضاء والسوداء)، التي تنحو إلى كتابة الذاكرة والحب والنضال والوحدة والحلم والموت والإيمان...
هنا محاولة لترجمة بعض الأصوات الشعرية من هندوراس التي تحمل إلينا بعضاً من هذه التيمات المتشعبة، لتأخذنا عميقاً إلى قلب الصوت الإنساني، الذي لا يعرف من يعبر عنه بشكل أفضل سوى الشعر. أما الشعراء المختارون فهم: خوسيه غونزاليس (مواليد عام 1953)، رافاييل ريفيرا (مواليد عام 1956)، خورخي لويس أوفييدو (مواليد عام 1957)، ماريا يوجينيا راموس (مواليد عام 1959).

خوسيه غونزاليس
أوراق في العاصفة ([)
أوراق وأوراق تسقط من ذاكرتك
أوراق مرعبة من قريتك
تجرّح قلبك العجوز المتمترس
وهذه الرغبة في العودة
الرغبة المعتمة في العودة
وفي إيقاظك مع القمر والكدمات التي في ظهرك
في التلفظ بالشتائم والهمسات على الشرفات
في الساعة الأهدأ
وأنت الذي يركض خلف قطار أصفر مصاب بضيق في التنفس
مع غبار العصور في فمك
وسيارة بدون سقف
ملأى بالحبيبات وأثواب الموسلين
ربما حانت الساعة
لتثرثر مع البغالين
لتتعلق بين ساقيّ الجد النباتيتين
لتستعيد أنفاسك
حتى أنفاس التلغراف
والجداجد التي تعزف التانغو خلف ظهرك

أين تتكلم الجدّة الشيطانية؟
لم تكن كاثوليكية حقاً
لدرجة أنها نامت مع كل رجال الصحراء
وكيف تحيا بطريقة مختلفة
هنا
حيث الرمل وحده هو مستقبل؟
لثمانية قرون عاشت
وهي تراكم عرق المني
ثمانية قرون بدون أن يأتي
الحب ليقتحم نظرتها
طبيعيّ كان إذاً
هروبها مع عوليس ـ بحّار الرمال الفظ ـ
كما كان طبيعياً أيضاً
غضبي أمام الاغتصاب:
ندمت
على خطواتها الصغيرة كالنعامة، على أغنية العصفورة المندهشة
هذا ما كان عليه العصر
حيث المهربون يلتقطون الطاعون
وحيث الصحراء تشتعل
مثل أرض محروقة
ومذ ذاك نعيش هنا
ـ كقافلة عبثية ـ
حيث نتبادل القبل والسراب على الرمل
رافاييل ريفيرا
إبن زيدون
آه! لو كنا
ذراعين لبحر واحد
(كليمنتينا سواريس)
أيها الشاعر، يا قريبي
يا ذراع البحر، أيها السمندل،
قدني إلى سرير التنين
كي ارتاح معك.

أيها الشاعر، يا قريبي
أنت سمكة سماوية، نشيد،
سنبلة ناعمة، يا قمحاً حنوناً
ملاكاً عارياً فوق العشب الأعمى.

ولاّدة
أيتها الشاعرة، يا قريبتي
أنت مملكة الحليب والعسل
عصفورة تقف فوق الفن
جنة الطفولة التي لا تتوقف.

أيتها الشاعرة، يا قريبتي
أنت عصفورة سكّر، يكللك البياض
بحيرة شوفان وقرفة
ملاكٌ عارٍ على العشب الأعمى.
خورخي لويس أوفييدو
خمس سنوات
حين كنت عالياً كثلاث تفاحات
كان والدي مثل عملاق طيب
ووالدتي كعذراء حقيقية
والمدرّس كمثال لا يمكن معرفته
والشرطي.. آه! نعم، أذكر ذلك:
ما من شرطة يومها في قريتي.

سيمياء
فم فاغر
باتجاه أحشاء الأرض
خمسة آلاف عامل
في عنق الزجاجة
رافعة سوداء تبصق أحجاراً
عشرة آلاف امرأة
يرتدين الظلال
أربعة آلاف طفل
يتقمصون دور المهندسين
وفقط
أربعة رجال سمينين، دسمين
يجتازون العالم كل يوم تقريباً.
ماريا يوجينيا راموس
غياب
أحدهم رحل
تاركاً وراءه كل دفاتره
المفتوحة على الصفحة الواحدة والعشرين
فوق الطاولة
هناك القهوة واللوبياء
الساخنة
السرير غير المرتب،
الكلب
ينتظر قوته،
موعد غرامي
ممدد على النافذة كي يجف
وفي فراغ الخزانة
عطر الأحلام.

بورتريه
في هذه البلاد
يعيش عجوز في الثمانين من عمره،
مريضاً، أصم تقريباً،
مليئاً بالطقوس والعاهات

يدفع عربة أطفال
ليذهب إلى غرفة الطعام،
يتشاجر مع زوجته وحفيداته،
يذهب إلى الباحة ليعود.

في غرفة مكتبه
يحلم ببلد أفضل،
ببلد حقيقي، أصح،
يحنّ، يستنكر،
وفي ثورة انتظاره
يرمي بصفحات مشتعلة
في وجه أعداء الوطن.