عديدة هي الكتب التي صدرت مؤخرا عن الشاعر الفرنسي رينيه شار. وذلك بسب، أولا، الذكرى المئوية الأولى لميلاده التي احتفل بها الجميع العام 2007 (ولد شار العام 1907) كما أن العام 2008 صادف الذكرى العشرين لرحيله (رحل العام 1988)، هذا إلى العديد من الاحتفالات التي أقيمت لتلك المناسبتين، إذ أن رينيه شار استطاع أن يتخطى «العديد من الحواجز» ليصبح أحد الشعراء الأساسيين في القرن العشرين. من دون أدنى شك، لا يمكننا أن نقرأ شعر هذا القرن من دون الالتفات إلى هذا «المقاوم» الذي حفر لنفسه مكانة عميقة، مكانة جعلت الجميع يحتفلون بها وهو بعد على قيد الحياة ـ (على الرغم من وجود البعض الذين هاجموه، إذ أعتبروا أن «هرمسيته» ليست سوى هرمسية مجانية) ـ على الأقل كان من قلة قليلة صدرت أعمالها في سلسلة «لابلياد» وهو بعد على قيد الحياة، من مثل سان جون بيرس وناتالي ساروت وغيرهما.
من هذه الكتب الصادرة في نهاية العام 2008 كتاب «Poemes en archipel " عن منشورات فوليو، وهو عبارة عن مختارات من نصوصه قام به بعض أصدقائه كما أرملته، وقراءتها تؤكد لنا هذه المكانة الخاصة، التي ربما ساهمت اليوم في أن نجد أن عدد «المعجبين برينيه شار يتخطى بكثير عدد «المبغضين» الذين يجدون شعره عقيما (وبخاصة في الجانب الهرمسي منه). في أيّ حال، ثمة جانب «عملاق» عند رينيه شار، إذ أن شعره يمزج ـ تماما كما حياته ـ هذه القوة غير المحدودة (من يعرف سيرته لا بد أن يتذكر نوبات الغضب الشهيرة التي كانت تصيبه) كما هذه الرهافة التي يتحدث عنها جميع من عرفوه. بهذا المعنى لا تستطيع حياته كشاعر وكإنسان أن تبقى على هامش الزمن وعلى هامش تحركاته. من هنا نفهم انتسابه ذات يوم إلى المغامرة السوريالية، ما بين عامي 1929 و1934، لينشر يومها مع أراغون وبول ايلوار كتاب (Ralentir Travaux ). بيد أن هذا الشخص (شار)، الذي وصفه سان جون بيرس بأنه «وحده بدون معلم»، كان شخصا هائما بالحرية ليقبل بتناقضات هذه الحركة لفترة طويلة، فغادرها غير آسف، على الرغم من أنه احتفظ منها ببعض الآثار التي بقيت واضحة في شعره، على الأقل في طريقته في كيفية تشكيل لغته وتشكلها.
الحرية أيضا كانت بالنسبة إلى رينيه شار معركة دائمة، مشاركته الكبيرة والنشطة زمن المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال النازي ـ حيث كان اسمه الحركي «الكابتن ألكسندر ـ في منطقة «الفوكلوز»، حيث ولد وحيث قضى الفترة الأطول من حياته في «ليل سور سورغ». هل يشكل هذا الأمر تفصيلا في حياته؟ لا يبدو الأمر كذلك، إذ كان يرفض أن ينشر أي شيء خلال الحرب (اختار الأمر طواعية)، بيد أنه كان يسجل ملاحظاته على دفتر حيث سجل عليه «أفكارا» ومشاريع قصائد، ومن ذلك كله توصل إلى كتابة «أوراق هيبنوس» الذي صدر في ما بعد. أوراقه هذه متجذرة عميقا في هذه الحقبة القلقة، وهي أيضا تأتي على شكل «حكايات وخبريات» ـ إذا جاز التعبير ـ هي الحكايا التي كان قد عاشها في فترة «الخباء» خلال الحرب العالمية الثانية. لكن سرعان ما تحولت هذه المقاطع الشعرية إلى محور بل لنقل إلى القطب الشعري الكبير عند رينيه شار. لقد ظهرت وكأنها تشكل خاصيته المميزة عبر هذه الطريقة الكتابية التي وسمتها: لمعان مدهش، كثافة كبيرة، هيرمسية لا تستبعد العظمة. «إن الوضوح هو الجرح الأقرب إلى الشمس»، كان شار قد كتب على سبيل المثال في ملاحظاته الأشهر. كلّ عمل رينيه شار هو هكذا أي نجده متقاطعا بهذا العمق الواصل إلى أقصى أطرافه، أو بالأحرى لنقل التعمق المبحر. فبعيدا عن شعراء اليومي والتفاصيل، نجد أن شار هو شاعر الاستعارات الملتبسة والغامضة، شاعر اللغة «المعتمة» (بالمعنى الجميل للكلمة)، المتحررة، المتعاظمة. من هنا مزجه الطوعي ما بين المجرد والمحسوس، المرتكزة في النهاية على مراجع حياته، على مرجعيته المعيوشة، على مرجعية منطقته، على أرضه: «حين ينهك الحذاء العشب، افسحوا أمامه خطوات الطريق».
قراءة رينيه شار، يعني أن نكتشف السعادة، المجانية أحيانا، أن نكتشف الكلمات ذات الجمال الواعي بعظمته. بمعنى آخر أن نُتخم بهذه الأبيات الغريبة، التي تسمح لنا أيضا أن نغور في هذا الدوار اللانهائي، في هذه الأدوار السحيقة للتأمل كما في أن نتذوق هذه اللذة البسيطة للغة: «رماد البرد موجود في البرد الذي يغني الرفض».... ففي هذا النثر الشعري أيضا، تتكثف لغة رينيه شار، تتمحور حول ذاتها الداخلية، تحطم العادات الهادئة. هي لغة بين الغضب والغموض (فيما لو استعرنا عنوان أحد كتبه الرئيسة): «كنا بالضبط في هذا الاستثناء الذي وحده يعرف كيف يطرح السمة التعاقبية لغموض العيش»، مثلما يكتب على سبيل المثال في ديوانه «وحدهم يبقون».
أوراق هيبنوس
عبر صعوبته، عبر روعته، أصبح رينيه شار ـ رويدا رويدا ـ الشاعر الذي من المفيد أن نذكره من دون أن نفهمه، وحتى من دون أن نقرأه. أو على العكس من ذلك، هو ذاك الذي نحنطه في هرمسيته من دون أن ننتبه إلى سهولته اللغوية التي تصل إلى حدود الهذر بمعنى من المعاني، والتي تصل أحيانا إلى السهولة المطلقة. من دون أن ننسى أيضا أن الشاعر تم تقليده كثيرا من قبل عديدين في فرنسا لكنهم لم يكونوا يملكون لا قدرته ولا لمعاناته المدهشة. إذ على الرغم من أننا حتى لو لم نفهم هذا البيت أو ذاك فكيف نستطيع أن لا نعجب بانبثاق من مثل هذه الجملة: «حين تكون ثملا بالحزن فليس لديك سوى حزن الكريستال» (من أوراق هيبنوس).
هذا «الكريستال» هو الذي نراه في كتاب المختارات هذا الصادر حديثا، إذ وكما يكتب باسكال كلافيل في المقدمة إنه كتاب يسمح لنا، وبدون خوف، أن نتبع أثر هذا الشاعر المتطلب والمدهش في العمق. شاعر، وفي إحدى صيغه الواسمة، كان يظهر وفي الوقت عينه متواضعا وواعيا لعظمته. تماما كما قال في «أوراق هيبنوس»: «كيف تسمعونني؟ أتكلم من بعيد».