يُعد پاول تسيلان من أهم شعراء اللغة الألمانية، بعد راينر ماريا ريلكه. ترجم شعره الى عدة لغات، وتناولته بالشرح والتأويل عدة أقلام، وآخر ترجمة له الى الفرنسية قام بها جان بيار لوفيبر وصدرت لدى دار "غاليمار" ضمن سلسلة الجيب الشعرية وتضم مختارات كان جمعها تسيلان بنفسه قبل ان ينتحر عام 1970، في نهر السين عن عمر ناهز الخمسين عاما.
ولد تسيلان عام 1920 في منطقة بوكوينا (على الحدود الرومانية السوفياتية) من أبوين ألمانيين. بدأ بعد الحرب العالمية الثانية مرحلة التيه: فبعد دخوله عام 1942 احد معسكرات العمل الرومانية، استطاع عام 1945 ان يهرب من موطنه الذي يقع اليوم في روسيا ليسافر الى بوخارست، حيث عمل مترجما في دار للنشر. ومنها انتقل الى يينا حيث نشر اول مجموعة شعرية له. ثم رحل الى باريس حيث مارس نشاطه كمترجم ومدرّس للأدب الألماني في دار المعلمين العليا. وصادق طليعة الشعراء أمثال هنري ميشو، رينيه شار، أي بونفوا، اندريه دو بوشيه، وترجم بعض قصائدهم الى الألمانية. كما نشر الكثير من الترجمات عن لغات اخرى كان يتقنها، كالانكليزية والروسية والايطالية والاسبانية والبرتغالية والرومانية. لكنه رغم تأقلمه مع الجو الفرنسي ظل ذلك الغريب، فمع امتلاكه اللغة الفرنسية استمر في الكتابة بالألمانية. ترك تسع مجموعات شعرية: "رمل الجرار" (1948)، "خشخاش وذاكرة" (1952)، "من عتبة الى عتبة" (1955)، "مصبّعة اللغة" (1959)، "وردة لا احد" (1965)، "منعطف هبوب الريح" (1967)، "شمس الخيطان" (1968)، "إكراه الضياء" (1970)، "لعبة الثلج" (1971)، تضاف إليها بعض النصوص النثرية القليلة.
اتسمت قصائده القصيرة جدا على الأغلب باقتصادها الشديد في استخدام اللغة مما جعلها عسيرة على الفهم. فأسلوبه المختزل والمجازي يمحو الحد بين الكلمة والاستعارة، بين المعنى المجازي والحقيقي. وفي قول له: "القصيدة وحيدة. وحيدة وتصاحب فقط من كتبها في دربه".
في مجموعاته الأولى يكشف عن تأثره بسوريالية بول ايلوار ورينيه شار. الا انه لا يلبث ان ينطلق بصوته الخاص ذي النبرة الحادة. والبارز لديه ان شعره يعكس تناقضات وضعه التاريخي التي تجعل منه كاتبا باللغة التي دهمه الموت من خلالها ودهم ذويه الذين قضوا ضحية النازية. يقول أثناء منحه جائزة مدينة "بريم" الأدبية عام 1958: في وسط كل ما يجب ضياعه، بقي شيء واحد: اللغة. وحدها اللغة لم تضع برغم كل شيء. ففي هذه اللغة، على مدى سنين متوالية، حاولت كتابة قصائد: كي أتكلم، كي اهتدي الى وجهة ما، كي استعلم عن المكان الذي أنا فيه، وعن المكان الذي أقاد اليه، من اجل تصميم واقع لي". واللغة لدى تسيلان مرتبطة تاريخيا بتجربة الموت، بالظلمات والصمت: "الموت سيد آت من المانيا" بحسب قوله. لكن هذا الموت - وهنا يلتقي مع كافكا - ليس موضوعا بين موضوعات اخرى. انه مندس في عصب اللغة وحاضر في كل كلمة. "في أي كلمة تقولها، تحمد التدهور" كما على لسانه. لكن ما هو موضع اتهام لدى تسيلان هو سياق التعبير بالذات، والانسجام المحدد سلفا بين المعنى والواقع. فالموت عمل على تفجير الوحدة المطمئنة للإشارة. فغدت الكلمة هي الفعل، هي معنى الرؤيا. والشعر هنا، يدعي القدرة على التسمية: "لأن القصائد هي دائما على الطريق، على اتصال مع شيء ما، وتائقة الى شيء ما" يقول. ومثل هذا المفهوم للشعر إنما ينحو الى لاهوتية ما، مع الله او من دونه.
وفي ترجمة سابقة لبعض القصائد من تسيلان، نشرتها مجلة NRF في العدد 168، كانون الاول 1966، أعجبني تصدير هذه الترجمة لصاحبها ايون بيلاال بالآتي: "ليس ثمة غير الرؤية: العين تسمع. هنا الهيروغليفية، يجب ان تسمعها. هنا نفكر في الشجرة - الأسطورية؟ كلا: الملاحظة - لأحد أديار التيبت التي كانت تنتج، في غيبوبة المبشر هوك حروف الكتاب المقدس. فمن مجموعة الى مجموعة ومن ورقة الى ورقة، يحفر الشاعر الكبير پاول تسيلان إشاراته في مخمل الليالي. نحتضنها بالعين. نتأملها، مندهشين بدقة معانيها وفروقها التي تستثمر اللعب بالبادئات Préfixes وبخاصة الأصعب منها. وغالبا ما تقف الجملة معلقة عند كلمة في آخر السطر". وهكذا في انتظار السطر اللاحق يمر الصمت، وتبدو القصيدة كأنها "تخاريم" في عمق هذا الصمت الذي ولدت منه واليه تمضي.
***
كورونا
يلتهم الخريف ورقته في يدي: نحن أصدقاء.
نستخرج الزمن من قشرة الجوز ونعلمه المشي:
يعود الزمن الى القشرة.
في المرآة الأحد،
في الحلم ننام،
الفم يتكلم بلا دجل.
تنخفض عيني نحو عورة الحبيبة:
نتبادل النظرات
نتبادل غامض الكلام،
نتحابّ كما الخشخاش والذاكرة،
نرقد كما الخمر في المحار،
كما البحر في شعاع القمر المدمّى.
متعانقان نحن هناك في النافذة، ينظرون إلينا
من الشارع:
حان الوقت لنعرف!
حان الوقت كي يصمم الحجر أخيرا على الأزهار،
كي يخفق قلب للاّطمأنينة.
حان الوقت كي يحين الوقت
حان الوقت.
متأخر وعميق
بداية هذه الليلة سيئة كخطبة ذهبية.
نأكل تفاح البكم.
نقوم بعمل نتخلى عنه في طيبة خاطر الى نجمته،
نقف في خريف زيزفوننا مثل فورة رايات متأملة،
مثل ضيوف متلهفين من الجنوب.
نقسم بالمسيح الجديد على ان نقرن الغبار بالغبار،
والطيور بالحذاء الرحالة،
وقلبنا بسلّم في الماء.
نقسم للعالم أقسام الرمل المقدسة،
نقسمها في طيبة خاطر،
نقسمها في صوت عال من سطوح النوم
بلا أحلام ونلوح بشعر الزمن الأبيض...
يصرخون: هذا تجديف!
نعرف ذلك من زمن بعيد.
من زمن بعيد نعرف ذلك ولكن ماذا يهمّ!
إنكم تسحقون جيدا في طواحين الموت
طحين الوعد الأبيض،
وتقدمونه الى أخوتنا وأخواتنا -
نلوّح بشعر الزمن الأبيض.
وتذكّروننا: هذا تجديف!
نعرف ذلك جيدا،
لتقبل علينا الخطيئة.
لتقبل علينا خطيئة كل الإشارات النذيرية،
ليقبل البحر المقرقر،
وعصفة ريح النكوص العنيفة،
ونهار منتصف الليل،
ليقبل ما لم يكن قطّ.
ليقبل إنسان من القبر.
الوليمة
ليفرَّغ الليل من القناني في صقالة الإغواء العالية،
لتحرث العتبة بالأسنان، ليُزرع الغضب المفاجئ قبل الصباح:
سينمو لنا بلا شك طحلب باسق أيضا،
قبل ان يأتوا الى هنا من المطحنة
ليعثروا لدينا على قمح هادئ لعجلتهم البطيئة...
تحت السماوات السامة ثمة قش آخر بلا شك
أكثر صهبة،
والحلم أيضا مشكوك في طريقة مختلفة عما هنا،
حيث يلذ لنا اللعب بالنرد،
هنا حيث نتبادل في الكلام النسيان والعجيبة،
حيث كل شيء لا يستحق غير ساعة ثم يبصََق في لذة،
ويُطرح في صناديق مضيئة في ماء النوافذ الشره -:
وعلى طريق البشر ينفجر من اجل مجد الغيوم!
اذذاك تدثروا بالمعاطف واصعدوا معي على الطاولات:
كيف سننام بعد الا وقوفا،
في وسط الكؤوس؟
ونخب من نشرب الأحلام بعدُ،
سوى نخب العجلة البطيئة؟
ترجمة: ه. ص.
النهار
الأربعاء 10 تشرين الثاني 2004