يوجينيو ده أندراد

تقديم وترجمة: اسكندر حبش
(لبنان)

"قسوة صغيرة"
يوجينيو ده أندراد محزن هذا "الإيميل" الذي وصلني من ساعات قليلة. والأكثر حزنا انه تأخر عدة أيام ليحمل لي خبر موت الشاعر البرتغالي، يوجينيو ده أندراد، الذي رحل نهار الاثنين الماضي. كان لقائي الأول به العام 1996، في مدينة "بورتو" التي قطنها منذ العام 1950، وهو المولود في "بوفوا دا أتالايا" العام 1923. يومها جمعتنا قراءة شعرية، دعت إليها مؤسسة "غالبنكيان"، ضمتنا إلى العديد من الشعراء المختلفي الجنسيات. على العشاء، ثرثرنا كثيرا. كان يسأل عن الشعر العربي، عن الحياة في الجانب الآخر من المتوسط، والمتوسط الشرقي تحديدا. شربنا عددا من الكؤوس، وأسرّ لي أنه إذا كان عليّ أن أشرب فيجب دائما احتساء خمر البورتو. وإذا أردت أن أدخن فعليّ بالسيجار الهافاني، ولا شيء آخر. وحين ظهر عليّ أني لم أفهم مطلقا نصيحته، قال:" يا عزيزي، هل تعرف كيف نصنع خمر "البورتو" في هذه المدينة؟ هل تعرف كيف يُصنع السيجار الهافاني"؟ أجبته بالنفي. فشرح لي بالقول:" لا يزال أهل مدينة بورتو يطلبون من الحسناوات الصغيرات الصعود إلى الأحواض الكبيرة المحملة بالعنب، ليهرسنه بأقدامهن الجميلة، أما السيجار الهافاني فلا تزال الكوبيات يلففنه على أفخاذهن. كيف إذاً تستطيع مقاومة كل هذا؟." لم يكن بالتأكيد ما أخبرني به، قصيدة جديدة، أو نصا يحاول أن يكتبه. كان ذلك تلك الدهشة التي سحرتني، وأنا أشاهد، بعد يومين، الصبايا الجميلات، في أحد مخامر "البورتو" الذي أخذني إليه. قال "الرؤية فقط تطيل العمر، فكيف لو شربت ذلك طيلة حياتك."
هل لهذا السبب، سكن يوجينيو، أكثر من نصف قرن هذه المدينة "التي لا تستطيع مشاهدتها إلا من خلال القلب، لا بالعينين". قد يكون في هذا السبب إضفاء الكثير من المجانية، على قضية جوهرية، من قضايا الشعر البرتغالي الحديث. غالبا ما يطرح السؤال، عمّا إذا استطاع الشعر البرتغالي التخلص من آثار فرناندو بيسوا الذي فرد جناحيه على كل التجارب التي جاءت من بعده. لدرجة أن البعض يقولون "ربما الكتابة صعبة بعد بيسوا". ومع ذلك، لم يتوقف الشعراء البرتغاليون عن الكتابة، ثمة تجارب مهمة جدا، عرفها النصف الثاني من القرن العشرين. لكن اسم بيسوا غطى على كل ما عداه، وبخاصة أن عملية اكتشاف نصوصه التي تركها لا تزال مستمرة لغاية اليوم.
لو سلمنا جدلا أن بيسوا هو شاعر مدينة لشبونة، لقلنا أيضا إن يوجينيو ده أندراد هو شاعر مدينة بورتو. قد يكون لهذه التسمية الكثير من الدلالات الثقافية، وكأن يوجينيو رغب بدوره في أن يكون صاحب موقع "جغرافي" مثلما كان أيضا صاحب موقع شعري فريد. إنه من دون شك، أحد أهم الشعراء البرتغاليين ( من بين الخمسة الكبار) وأكثرهم تفردا لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وأكثرهم احتراما من قبل الجميع. صحيح انه لم يقطع كثيرا مع "التقليد" الشعري الغنائي والوجداني البرتغالي، مفضلا البقاء في فلكه، إلا انه بدون شك حاول إبداع لغته الخاصة، التي مارست تأثيرها وبقوة على جملة من الشعراء الذين أتوا من بعده. هذه اللغة، عبرت عن نفسها عبر عشرات الأعمال الشعرية والنثرية، والتي حاولت ببساطة، أن تبحث عن "كيفية الاحتفاظ بأجزاء الزمن، وتوازن النور والعاطفة" (على قول أنطونيو راموش روزا، الشاعر البرتغالي الآخر الكبير).
يوجينيو ده أندراد، أحد الأصوات الأكثر "إنسانوية" في أوروبا المعاصرة، من هنا، لا غرابة في أن يكون على هذا القدر الكبير من الحضور في الثقافة البرتغالية، التي هي ثقافة شعرية قبل أي شيء آخر. من هنا سمعنا العديد من التعليقات التي أعقبت فوز جوزيه (وليس خوسيه) ساراماغو بجائزة نوبل، إذ اعتبرت أن الثقافة البرتغالية لم تكافأ حقا، على الرغم من فرح البرتغاليين بتتويجهم العام 1998.
عدت والتقيت به في بورتو مجددا، بعد سنتين. كذلك في مدينة مارسيليا الفرنسية التي نظم فيها "المركز الدولي للشعر" تظاهرة الشعر البرتغالي، العام 2001. لقائي الأخير به، كان منذ سنة ونصف وتقريبا، في بيته المطل على نهر "الدورو"، في قلب بورتو القديمة. حين دخلت عليه، كان كأس البورتو في يده. لم أتذكر قصته، لأنني لم أنسها أبدا.
هذه القصائد هي جزء من ترجمات أعمل عليها منذ سنوات. وهي تنشر للمرة الأولى بالعربية. سبق لي أن نشرت قصائد أخرى في السفير، منذ أشهر قليلة. وهي ليست سوى جزء من تحية، لصديق كان يحاول أن يأسر "النور" في قصائده، مثلما أسرها في شخصه.

قصائد ليوجينيو ده أندراد

(1)

كيف يمكننا أن ندعه يستمر
حتى اللحظة الأخيرة
هذا الفم - هذه الشمس؟

علينا أن نحبه
بصبر وتعال
هنا حيث تغني الشعلة.

أن نحبه. حتى النهاية.
لغاية الرقصة.

من كتاب "وزن الظل"

(2)

شابة هي اليد على الورقة
أو على الأرض!
شابة وصبورة: حين تكتب
وحين، في الشمس،
تتحول إلى ملامسة.

حتى أكثر الكلمات
هشاشة
لها جذور في الشمس
مثل الصباح
كمراكب فوق اليم.

من كتاب "وزن الظل"

(3)

حدث ذلك في سبتمبر
أو ربما في أي شهر آخر
ملاءمة ذات قسوة
صغيرة:
ماذا تريد بعد؟
نفحة التلال على
الفم؟
النور شبه العاري؟
أن تجعل من الجسد
مكانا على هامش
الشتاء؟

من كتاب "وزن الظل"

(4)

أقف على النافذة لأرى شجيرات الأرز
للمرة الأخيرة، هذا الصيف؛
لا تزالين نائمة؛ يبزغ الفجر
في ضوضاء الجلاجل البعيدة،
أصبحت أقرب: دروب
الخريف البطيئة،
شالات الغيم،
السماء المشوشة عند مستوى التلال.

من كتاب "وزن الظل"

(5)

مخلص لهذه الحرارة
أحب هذا النوع من الصيف
الذي، من بعيد، يأتي ليموت
بين يديّ،
وأقسم أن لا سبب آخر
حين جعلت من الكلمة
منزلا للصمت.

من كتاب "وزن الظل"

(6)

لم نعد نرى سنابل القمح،
تأرجح التلال اللا مبالي
لا يمكن القول إنها رافقتك،

لم تحملي معك إلا هذا التصرف
الطفولي، بالقفز فوق الجدران
بأن تقربي من فمك
كمشة من الكرز الغامق اللون
بأن تطمري ابتسامتك في جيبك،

هذه الطريقة في التصفير للترغلّ
بطلب كأس الماء
أو في أن تنامي متكورة
مثلما تنام القطط فقط.

كل هذا هو أنت، ملطخة بالتوت.

من كتاب "أبيض على أبيض"

(7)

ربما كنت أجهل زهرة الماء
لكنني شممت عطرها.

بعد الشتوة الأولى
يصعد إلى الشرفة،
جسده لا يزال مبللا
يبحث عن جسدنا ويبدأ بالارتجاف:

حينئذ، كما لو أن في فمه

ثمالة من خلود
أعطيت لنا لنشربها
وكما لو أن كل موسيقى الأرض،
كل موسيقى السماء، كانت ملكنا،

حتى نهاية العالم
لأقصى طرف النهار.

من كتاب "أبيض على أبيض"

***

غناء

يحترق الجسد في الظل،
يبحث عن النبع.

أعرف الآن
أين يبدأ الحنان
أعترف
بشجرة النار.

عرفت صحراء
الكلس.

جذور الكتّان
كانت قوتي
كانت عذابي.

بيد أنني كنت أغني.

لدرجة أن الليل صعد حتى الينابيع
وأنا عدت صوب المياه.

من كتاب "ملح اللغة"

الصمت

حين تبدو العاطفة
متعبة من وظيفتها،

وحين النعاس- أكثر المراكب تأرجحا -
يتأخر زيادة

حين تنبثق عيناك
زرقاوين
وتبحثان في عينيّ عن سفر مطمئن،

عندها، أكون أحدثك بكلمات
حائرة وقاحلة،

كلمات مدهوشة بالصمت.

من كتاب "ملح اللغة"

عن المنحدرات والمراكب

لا تزال هناك حديقة أخرى: حديقة حياتي
الطفيفة، هذا صحيح، لكنها حديقة نظرتي
ربما هما عصفوران يتحابان
الواحد فوق الآخر، أو كلبان واقفان
انه القلق عينه دائما

هذا الهذيان الأبيض أو همهمة
المطر على المنحدرات والمراكب
سيصل الشتاء
على القشة التي لا تزال ساخنة، اليد
مثل نعومة نحلة صغيرة جدا

كانت نفحة الصباحات النائية على البحر
قلت وأنا أشعر بخطاها على مدار القلب
إنه الصمت، هو الصمت أخيرا
سيرتمي.

من كتاب "بخار الماء" .

ehabache@assafir.com