ترجمة وتقديم :
أحمد عبد الحسين - ناطق عزيز
شعر فروغ فرخ زاد بسيط. بساطته أول ما ينكشف منه. لكنها البساطة الموحية الملغزة التي ينبئ حضورها عمّا تتستر عليه من عمق والتباس، كأنما التدوين الشعري يتخذ هنا في هذه القصائد وظيفة الدلالة على ما لم يدوّن بعد.. فما يراد أن يقال على الحقيقة يتأخر دائماً عن الكلام. ولن يتبدّى بعد ذلك سوى الصمت، صمت ما قبل الكلام، أو القول الدال عليه:
ما هو الصمت، ما هو يا حبيبي الأوحد
ما الصمت سوى كلام لم يُتكلّم به؟
أنا أتأخر عن الكلام.
وهو شعر بساطة لأنه شعر أشياء حميمية تنبعث من أقاصي الطفولة، من تلك الأيام (أيام الانجذاب والحيرة، أيام كل ظلّ له سرّ، وكل علبة مغلقة كانت تخفي كنزاً).
الطفولة وقد قيلت شعراً، استُعيدتْ -كما أراد لها بودلير- بصورة قسرية، لا لتوصيف ذلك العالم البريء المعصوم، تمجيده أو التغنّي به، وإنما لسبب أكثر عمقاً، لغرض جعل العالم طفلاً. ومع اقتران الطفولة بالعالم وجدت الشاعرة نفسها في سكنها الحقيقي، في بيتها الأليف مع شؤونها الأليفة:
عيني تنعكس على كل الأشياء
وتشربها كحليب طازج.
من السهولة بمكان، القول إن النص الناظر إلى العالم بعيني طفلٍ إنما يحمل في مطاويه رثاءً للحاضر وأشيائه، إن لم يكن ذلك واضحاً بدلالة المقارنة الصريحة التي تعقدها الشاعرة بين العالمين (عالم الطفولة وعالم البلوغ)، فبدلالة لغة الرفض والتهتك التي تزخر بها قصائدها، وهو رفض أقرب إلى هيجان طفل غاضب يحطم ما حوله، منه إلى رفض مؤسس على منطق (ثوري) متماسك:
عجولة أنا، وغير خائفة
أبتعد عن أنظار أمي
لأمسح خطوط الباطل عن مسوداتي العتيقة.
غير أن تلك الرؤية الطفلية سرعان ما تتجاوز حدّي الرثاء والتمجيد، لتتخذ لها مسارب أبعد من الرفض والقبول ولتنشئ في الوقت ذاته أداءً شعرياً يرى إلى العالم بوصفه طفلاً أبدياً:
طفل مع ابتسامته اللانهائية
مثل دائرة تتسع على الماء.
قد تبدو فروغ فرخ زاد، تبعاً لذلك، وفية لتقليد شعري درج عليه شعراء الفارسية منذ القديم، وهو استحضار النبرة العرفانية -التصوفية في القصيدة. ذلك أن الحس العرفاني لم ينقطع بغياب أسماء الكلاسيكيين الكبار الذين أوقفوا نصوصهم لقول التصوف شعراً. بل استمر ذلك التقليد -وإن بشكل موارب- في كل أنات الشعر الفارسي، إذ نجده لدى أحمد شاملو ونيما يوشج، كما نجده بشكل أوضح عند سهراب سبهري وشاعرتنا فروغ، وصولاً إلى الجيل الشعري الجديد كما لدى أحمد رضا أحمدي، على سبيل المثال.
غير أن التصديق على هذا القول لن يمنعنا من النظر إلى تعاطي الشاعرة مع العرفان نظرة مختلفة يمليها اختلاف هذا التعاطي ذاته. فبمقايسة نصوصها مع نصوص شاعر كبير آخر هو (سهراب سبهري)، نجد أن هذا الأخير ساع إلى استخلاص شفافية عرفانية محضة وبثّها في ثنايا القول الشعري والتنويع عليه، الأمر الذي جعل من هذه الشفافية ملازمة لشعره كما في قصيدته (المسافر) أو قصيدته (صوت قدم الماء) كمثال.
أما لدى فروغ فرخ زاد فإن هذه الرؤية التصوفية قد قُيّضَ لها أن تصل مختلطة بالمادة، غير صافية، فهي محتفلة بامتزاجها مع شوائب وكدورة عناصر العالم (الماء والتراب والهواء والنار) بل هي سمّتْ ذلك صراحة في كثير من قصائدها، كقصيدة (على التراب):
أبداً لم أكن منفصلة عن الأرض
لم أتعرفْ إلى النجمة.
على التراب وقفتُ بقامتي
مثل ساق نبتة
تمتص الهواء والشمس والماء
لتحيا.
حبلى من الرغائب
حبلى من الألم
أقف على الأرض
لأمتدح النجوم.
لعل اصطلاح (تصوف مادي) هو الأنسب لتوصيف شعر فروغ، فمن خلال هذه النبرة المترعة بتسام صوفي لا يخفى، نلحظ الرغبة الجسدية كأجلى ما تكون، نرى انشغالاً لذائذياً أيروسياً في سائر نصوصها، كأنما طمحت بذلك إلى إنشاء مسافة توتر مبتناة في عمقها على تناوب هذين المبدأين: قول التهتك بلغة الكشف، أو إضمار المعرفة في جسد، جسد مترع بالدم كعنقود عنب:
جسدي محموم من ملامسة يديك
ضفيرتي تنحلّ بأنفاسك
*
شفتاك -الإحساس الدافئ بالوجود
ضعهما برفق على شفتيّ
*
كلما اقتربت شفة من شفتي
انعقدت نطفة في إحدى النجوم.
أخيراً، لا يمكن اختزال شعر فروغ فرخ زاد تحت عنوان أوحد دون الوقوع في تناقض مماثل لتناقضات شعرها. فهو شعرُ تأمل بامتياز، في الوقت الذي يستقصي أشد ذكريات الطفولة استعصاء على الحضور، وهو شعر عشق بكل ما لكلمة عشق من مداليل، شعر ميول ورغائب، شعر الروح المنقبضة والجسد المتهتك، شعر إدمان اليأس بانتظار الأمل.
وهذه المختارات المترجمة، أردنا لها أن تقرّب إلى القارئ العربي بعضاً من المشهد الشعري الفارسي المعاصر في نموذج من أكثر نماذجه أصالة وإضاءة وتأثيراً، مدفوعين برؤيتنا للخصائص المشتركة التي أنبتت عليها مسيرتا الحداثة الشعرية لدى العرب والإيرانيين معاً، وتائقين إلى ردم الهوة السحيقة القائمة بيننا والثقافة الإيرانية، تلك الهوّة التي تمّ اصطناعها قسراً، وغذّتها أوهامنا بعضنا بعضاً وجهل الواحد منا بالآخر.
إن هذه المختارات محاولة في توجيه أنظارنا إلى الشرق القريب، بعد أن أدمنت عيوننا النظر إلى جهة واحدة... بعيدة.
دمشق شباط / 2000
****
بين الظلام
ناديتك أنت،
كان السكون
والنسيم يلاعبان الستارة
في السماء الملول
نجمة تحترق
نجمة تذهب
نجمة تموت.
ناديتك أنت
ناديتك أنت
كان وجودي كله
مثل قدح حليب
بين يدي.
نظرة القمر الزرقاء
ارتطمت بالزجاج.
أغنية حزينة
تصاعدت من مدينة السلاسل
كالدخان،
وكالدخان
تتزحلق على النوافذ.
طوال الليل
ثمة بين نهدي
أحد ما يلهث يائساً
نفَسَاً نفسَاً.
أحد ما ينهض
أحد ما يريدك
أحد ما يناديك،
مرة أخرى سوف يسحب
يديه الباردتين.
طوال الليل، هناك
يتساقط الحزن
من الغصون السوداء.
أحد ما متأخر عن نفسه
أحد ما يناديك
والهواء يتساقط عليه
كالحطام.
شجرتي الصغيرة تتعشق الريح،
الريح التي لا قرار لها.
أين بيت الريح؟
أين بيت الريح؟
* العنوان بالفارسية: ميان تاريكي.
*****
الجمعة الصامتة
الجمعة المتروكة
الجمعة ـ كالأزقة العتيقة ـ حزينة
الجمعة أفكار كسلى مريضة
الجمعة تثاؤبات مؤذية ومديدة
الجمعة ـ لا انتظار
الجمعة استسلام.
البيت خال
البيت موحش
البيت بابه موصد على هجوم الفتوة
بيت الظلام وفكرة الشمس
بيت العزلة والتفاؤل والترديد.
البيت: ستارة، كتاب، صندوق، صور.
آه...، كم هو هادئ، عَبَرَ ممتلئاً بالغرور
عمري مثل ساقية غريبة
في قلب هذه الجُمَع الصامتة المتروكة
في قلب هذه البيوت الخالية الموحشة
آه، كم هو هادئ
عَبَرَ
ممتلئاً بالغرور.
(1) العنوان بالفارسية: جمعه.
******
قلبي منقبض
قلبي منقبض
أذهبُ إلى الإيوان
وبأناملي أمسح بشرة الليل المديد
مصابيح العلاقات مطفأة
مصابيح العلاقات مطفأة
لا أحد سَيُعِّرِفَني على الشمس
لا أحد سيأخذني إلى ضيافة العصافير
ضع الطيران في خاطرك
فالطائر ميت لا محالة.
(1) العنوان بالفارسية: برنده مردنى أست.
******
ـ نهار أم ليل؟
ـ لا يا صديقي، أنه الغروب الأبدي.
مع عبور طائرين كتابوتين أبيضين
أصوات بعيدة من هذا السهل الغريب
قلقة
وتائهة مثل دوران الريح.
يجب أن نقول شيئاً
يجب أن نقول شيئاً
قلبي يريد أن يقترن بالظلام
يجب أن نتكلم.
كم هو ثقيل هذا النسيان.
تفاحة تسقط من الغصن،
بذور الكتان الصفراء تتكسر
تحت مناقير الكناري التي
تحبني.
زهرة الباقلاء
أعصابها اللازوردية في سكر النسيم
دعها تتحرر من القلق الأخرس المتغير.
وهنا
في،
في رأسي...
آه،
لا شيء في رأسي سوى دورة الكريات الحمر
الغليظة،
ونظرتي، مثل حرف كاذب،
تنحني خجلاً.
ـ أنا أفكر بقمر.
ـ وأنا بحرف في قصيدة.
ـ أنا أفكر بينبوع
ـ وأنا بوهم في الأرض
ـ أنا أفكر برائحة الحنطة الوفيرة
ـ وأنا بأسطورة الخبز.
ـ أنا أفكر ببراءة اللعب،
وبذلك الزقاق الطويل
المليء بأشجار الأكاسيا.
ـ وأنا بمرارة الاستيقاظ من اللعب
وبالفجاءة في نهاية الزقاق
وبالفراغ الطويل بعد انقضاء عطر الأكاسيا
ـ بطولات؟؟
ـ آه.. لقد هرمت الخيول.
ـ حب؟؟
ـ وحيداً، من خلال نافذة صغير
يرنو إلى صحارى بلا مجنون)(2)
وإلى ممرّ
مع ذكرى مضببة
من تبختر الساق النحيلة بالخلخال.
ـ أمنيات؟؟
ـ خسرت نفسها في مؤامرة آلاف
الأبواب الظالمة.
ـ موصدة؟؟
ـ نعم...، بامتداد، مغلقة... مغلقة.
سوف تتعب .
أنا أفكر ببيت
فيه أنفاس لبلاب مرتخية،
مصابيحه مضاءة أبداً مثل ناي العين
مع راعيها،
وبمفكر كسول، بدون ضوضاء
وبطفل مع ابتسامته اللانهائية
مثل دائرة تتسع على الماء،
وبجسد مترع بالدم كعنقود عنب.
أنا أفكر بالهجرة.
وبهجمة الريح السوداء
وبالضياء المشكوك به الذي
يتجسس في الليالي من النافذة،
وبقبر صغير
صغير مثل جسد الوليد.
ـ العمل.. العمل؟؟
ـ نعم،
لكن على تلك الطاولة الكبيرة
تسكن البغضاء الخفية التي
تمضغك بهدوء.. بهدوء
مثلك مثل الخشب والدفتر
وآلاف الأشياء التافهة الأخرى،
ثم أخيراً ستغرق في فنجان شاي
كزورق في سورة الماء،
وفي أعماق الأفق لن ترى شيئاً
سوى دخان السيجارة الغليظ
وخطوط مبهمة.
ـ نجمة واحدة؟؟
ـ بل المئات.. المئات، ولكن،
كلهن مركونات في تلك الزاوية
من الليل.
ـ طائر واحد؟؟
ـ بل المئات.. المئات، ولكن
كلهن مع الغرور العابث.
يخبطن بأجنحتهن.
في الذكريات البعيدة
ـ أنا أفكر بصراخ في زقاق
ـ وأنا بفأر لا يؤذي
يعبر من الحائط، أحياناً.
يجب أن نقول شيئاً
يجب أن نتكلم
في ساعة السحر
في لحظة ترتجف
فضاؤها ـ مثل الإحساس بالبلوغ ـ
يختلط، فجأة، مع شيء غامض.
ـ أنا قلبي يريد أن أستسلم للطغيان.
ـ أنا قلبي يريد أن أمطر من هذه الغيمة.
ـ أنا قلبي يريدني أن أقول،
لا،لا،لا،لا،
ـ فلنذهب
يجب أن نقول شيئاً
ـ كأس، أم فراش، أم عزلة.
أم حلم.
ـ فلنذهب
(1) العنوان بالفارسية: در غروبي أبدي.
(2) مجنون : كذا وردت في النص، والمقصود هنا قيس، مجنون ليلى.
******
أنا أتكلم عن نهاية الليل
أتكلم عن نهاية الظلام
وعن نهاية الليل أتكلم.
إذا ما جئت إلى بيتي
أيها العطوف
فهات مصباحاً ونافذة
لأرى ازدحام الزقاق السعيد.
(1) العنوان بالفارسية: هدية
. وضعت القصيدة بعد وفاة الشاعرة على شاهدها قبرها.
****
الطائر قال: ياللعطر، ياللشمس
آه... لقد أتى الربيع
وأنا ذاهب لأبحث عن زوجتي
على شفا الإيوان
طار الطائر
قفز كالرسالة وغادر
كان الطائر صغيراً
الطائر لا يفكر
الطائر لا يقرأ الجريدة
الطائر ليس عليه ديون
الطائر لا يعرف الناس
الطائر على الهواء
يحلّق فوق إشارات الخطر الضوئية
يسأل عن ارتفاع المجهول
ويجرّب اللحظات الزرقاء بجنون
الطائر، آه، كان طائراً.. فقط.
(1) العنوان بالفارسية: برنده فقط يك برنده بود.
****
وجودي كلّه آية مظلمة
تكررك دائماً في نفسها
ستأخذك إلى سَحَر الدهشة
والعود الأبدي
أنا تأوهتك في هذه الآية: آه...
أنا، بهذه الأية، ربطتك بالشجر
والماء
والنار.
لعلّ الحياة شارع طويل تجتازه امرأة كل يوم بزنبيل
لعلّ الحياة حبل يعلّق به رجل نفسه من غصن.
لعلّ الحياة طفل يعود من المدرسة.
لعلّ الحياة
إشعال سيجارة في برهة ارتخاء متعانقين
أو مرور عابر سبيل دائخ
يرفع قبعة عن رأسه
قائلاً لعابر آخر بابتسامة فارغة:
صباح الخير.
لعلّ الحياة
تلك اللحظة المغلقة
التي تحطم نظرتي نفسها
في امتناع عينيك
وفي هذا الشعور الذي سأمزجه
بفهم القمر
وإدراك الظلام.
في غرفة بحجم عزلة
قلبي
الذي بحجم الحب
ينظر لأعذار السعادة البسيطة
لزوال جمال الزهور في المزهرية
للشتلة التي غرستها أنت في حديقة بيتنا
ولغناء الكناري
المغرد بحجم نافذة.
آه...
هذا نصيبي
هذا نصيبي
نصيبي سماء أخذت مني إسدال ستارتها
نصيبي نزول من سلّم مهجور
والوصول إلى شيء في التفسخ والغربة.
نصيبي نزهة ملوثة حزناً
في حديقة الذكريات
وفي حزن صوت محتضر
يقول لي: "أحب يديك".
أغرس يدي في الحديقة
أخضر، أعرف،أعرف،أعرف،
بأن السنونوات ستضع بيضها
وفي خُفَر أناملي المصبوغة بالحبر
أعلّق على أذنيّ قرطين
من كرزتين حمراوين توأمين،
وألصق على أظافري
أوراق زهرة داليا.
ثمة زقاق
صبيانه هناك كانوا مغرمين بي
ما زالوا بالشعر المشعث ذاته والأعناق النحيفة
والأرجل العجفاء يفكرون بابتسامات الفتاة البريئة
التي، في ليلة ما، أخذتها الريح معها.
ثمة زقاق سرقه قلبي
من حارات طفولتي
سفرُ حجم من خط الزمان
وبالحجم الذي لّقح خطَّ الزمان الجاف
حجم من صورة عارفة
ترجع من ضيافة المرآة.
وعلى هذا النحو
أحدٌ ما يموت
أحدٌ ما يبقى
ليس هنالك صياد يصطاد اللؤلؤ
من جدول صغير
يصب في حفرة
أنا أعرف ملاكاً صغيراً حزيناً
مسكنه المحيط
وقلبه يعزف بهدوء... بهدوء
وفي ناي صغير.
ملاك صغير حزين.
يموت بسبب قبلة في الليل.
ويولد، بقبلة، وقت السحر. <ظح>
(1) العنوان بالفارسية: تولدي ديكر.
****
وهذه أنا
امرأة وحيدة
على عتبة الفصل البارد،
في بدء إدراك الوجود الملوث بالأرض
ويأس السماء البسيط الحزين
وعجز تلك الأيدي الإسمنتية.
مضى الزمن
مضى الزمن ودقّت الساعة أربع مرات
دقت أربع مرات
اليوم أول شهر دي)(2)
أنا أعرف سرّ الفصول
وأفهم كلام اللحظات.
المنقذ يرقد في لحده
والتراب، التراب المضياف
علامة السكينة.
مضى الزمن ودقت الساعة أربع مرات
تأتي الريح في الزقاق
تأتي الريح في الزقاق
وأنا أفكر باقتران الزهور
وبالبراعم ذات السيقان النحيلة، فقيرة الدم
وبهذا الزمن المتعب المسلول
والرجل العابر من جنب الأشجار الرطبة
الرجل الذي حبال شرايينه الزرق
كالأفاعي الميتة، تزحف من طَرَفِيْ حلقومه
إلى الأعلى، وبصدغيه الهائجين يكرّر ذلك
اللفظَ المدمى:
ـ سلاماً
ـ سلاماً
وأنا أفكر باقتران الزهور.
على عتبة الفصل البارد.
في محفل عزاء المرايا
والحشد المعزي للتجارب باهتة اللون
وهذا الغروب اليانع بحكمة الصمت
وهذا الذي يعبر هكذا
صبوراً وقوراً
حائراً
كيف يؤمر بالوقوف؟
كيف يقال له: أنت لست حياً؟
إنه لم يكن حياً أبداً.
تأتي الريح في الزقاق
غربان العزلة، وحيدة
تدور في الحدائق الشائخة الكسلى
والسلّم... يالارتفاعه الحقير.
لقد أخذوا معهم كلَّ صفاء القلب
إلى قصر الحكايات
والآن، مرة أخرى،
مرة أخرى كيف ينهض شخص إلى الرقص
ويحلّ ضفائر طفولته في الماء الجاري،
والتفاحة التي اقتُطِفَتْ في النهاية
وشُمّتْ
ستدحرجها الأقدام.
حبيبي يا حبيبي الأوحد
كم من غمامة سوداء تنتظر يوم ضيافة الشمس
كأنها في مسير على هيئة التحليق
يومَ تجلّى ذلك الطائر
كما لو من الخطوط الخضراء للتخيّل،
هذه المستنقعات الجديدة التي تستنشق شهوةَ النسيم
كأنما الشعلة
الشعلة البنفسجية التي تلتهب في ذهن النوافذ الطاهر
لم تكن سوى صورة بريئة للمصباح.
تأتي الريح في الزقاق
هذا أول الانهدام
يومها أيضاً عندما انهدمتْ يداك، هبّت الريح.
أيتها النجوم العزيزة
أيتها النجوم الورقية العزيزة
عندما يعصف الكذبُ بالسماء،
كيف اللجوء إلى سُوَر الأنبياء الخجلين؟
نحن مثل موتى آلاف آلاف السنين
سنلتقي
وعندها ستحكم الشمس على أجسادنا بالفساد.
بردانة أنا وكأني لن أدفأ أبداً
حبيبي، يا حبيبي الأوحد كم هو عمر هذا النبيذ).
أنظرْ فهنا ما أثقل الزمن
وكيف الأسماك تمضغ لحمنا
لمَ، دائماً ، تتركني في قعر البحر؟
بردانة أنا وبي ضيق من الأقراط الصدفية
بردانة وأعرف
أن من بين كل الأوهام الحمر الوحشية للشقائق
لن يتبقّى سوى
بضع قطرات من الدم
سأهجر الخطوط
سأهجر عدّ الأرقام
ومن الأشكال الهندسية الضيقة
سألجأ لمساحة الحس الواسعة
أنا عارية، عارية، عارية،
عارية كالصمت بين كلامي عن الحب
وجروحي كلها بسبب الحب
الحب، الحب، الحب،
أنا التي أنقذتُ تلك الجزيرة من انقلاب المحيط
وانفجار الجبل
ومن فناء سرّ ذلك الوجود المتحد
الذي وُلدت الشمس من أحقر ذراته.
سلاماً أيها الليل المعصوم
سلاماً أيها الليل، يا من تستبدل عيون ذئاب
الصحراء
بحُفَر من عظام الإيمان والثقة،
وعلى ضفاف أنهارك، ثمة أرواح الصفصاف
تشمُّ أرواح الفأس الرؤوم.
أنا آتية من عالم تستوي فيه الأفكار والكلام والأصوات
عالم مثل جحر الأفاعي
عالم مليء بأصوات أقدام أناس
في لحظة تقبيلهم إيّاك
ينسجون في أذهانهم حبل إعدامك.
سلاماً أيها الليل المعصوم
بين النوافذ والرؤية
دائماً ثمة فاصلة
لِمَ لمْ أنظرْ؟
مثل الزمن الذي عبر فيه رجل من جنب الأشجار الرطبة..
لِمَ لمْ أنظر؟
كأن أمي بكت تلك الليلة
تلك الليلة التي بلغت فيها وجعي
وانعقدت النطفة
تلك الليلة غدوت عروس عناقيد الأكاسيا
تلك الليلة كانت أصفهان ملأى بإيقاع البلاط الأزرق
وهذا الذي كان نصفي عاد إلى نطفتي
وأنا أراه في المرآة
كالمرآة طاهراً ومضيئاً
ناداني
فصرت عروس عناقيد الأكاسيا.
كأن أمي بكت تلك الليلة
ياللضياء العبثي المتلصص في تلك الكوّة الموصدة
لِمَ لمْ أنظر؟
كلّ لحظات السعادة تعرف
أن يديك ستنهدمان
وأنا لمْ أنظر
إلى أن انفتحتْ نافذة الساعة
وغرّد الكناري الحزين أربع مرات
غرد أربع مرات
والتقيتُ بتلك المرأة الصغيرة
التي كانت عيناها مثل عشين خاويين
من السيمرغ)(3)
وكانت تروح هازّةً فخذيها
كأنها تقود بكارة أحلامي العظيمة إلى سرير الليل.
ترى هل سأمشط ضفائري في الهواء ثانية؟
ترى هل سأزرع البنفسج في الحدائق ثانية؟
وهل سأضع الشمعدانات في المساء وراء النافذة؟
هل سأرقص فوق الكؤوس ثانية؟
وهل سيأخذني جرس الباب ـ مرة أخرى ـ إلى
انتظار الصوت
قلت لأمي: أخيراً انتهى)
قلت: دائماً قبل أن تفكري يقع الحادث.
يجب أن نبعث التعازي إلى الصحيفة).
الإنسان الأجوف
الإنسان الأجوف ممتلئ بالثقة.
أنظرْ، كيف، عند المضغ، أسنانه تقرأ النشيد،
وعيناه، حين يحدّق تمزّقان.
أما ذلك، فهو يعبر من جنب الأشجار
صبوراً
وقوراً
حيران
في الساعة الرابعة
في اللحظة التي كانت حبال شرايينه
كالأفاعي الميتة من طرفي حلقومه إلى الأعلى،
وبصدغيه الهائجين يكرر ذلك اللفظ المدمى:
ـ سلاماً
ـ سلاماً
وأنت...
ترى هل شممتَ يوماً
الشقائق الأربع الزرقاء...؟
مضى الزمن
مضى الزمن وأرخى الليل سدوله على أغصانِ
الأكاسيا العارية،
الليل يتزحلق على زجاج النافذة،
وبلسانه البارد
يمتص إلى داخله ما تبقى من اليوم الذاهب
من أين أتيت أنا؟
من أين أتيت أنا؟
هكذا مدهونة برائحة الليل؟
لمْ يزلْ تراب ضريحه طريّاً
أعني ضريح تينك اليدين الخضراوين الفتيتين.
كم كنتَ رحيماً أيها الحبيب ـ يا حبيبي الأوحد.
كم كنتَ رحيماً عندما تكذب
كم كنتَ رحيماً عندما تغلق جفون المرايا
وتقتلع القناديل من سيقانها السلكية
وفي الظلام الظالم تأخذني إلى مراتع الحب
إلى أن يجلس ذلك البخار الدائخ من حريق العطش
على مرج النوم.
تلك النجوم الورقية
تدور على اللامنتهى
لماذا قالوا الكلام بالصوت؟
لماذا استظافوا النظر ببيت الملتقى؟
لماذا أخذوا الرغبة إلى حياء الضفائر العذرية؟
انظرْ
كيف يحيا ذلك الشخص الذي يتكلم بالكلام
ويعزف بالنظر
وبرغبة الرهبة نام مصلوباً على أعمدة الوهم
وكيف بقي على خدّه
أثر أغصان أناملك الخمس
التي تشبه الحروف الخمسة للحقيقة
ما هو الصمت، ما هو، ما هو يا حبيبي الأوحد؟
ما الصمت سوى كلام لم يُتَكلّمْ به.
أنا أتأخر عن الكلام، لكنْ لغة العصافير.
لغة الحياة، جُمَل فرح الطبيعة الجارية،
لغة العصافير، تعني: الربيع، الأوراق، الربيع.
لغة العصافير، تعني: النسيم، العطر، النسيم.
لغة العصافير، تموت في المصنع.
مَنْ هذا، هذا السائر على جادّة الأبدية
نحو لحظة التوحيد
يوقّتُ ساعة الأزلية مع منطق رياضيات التكامل والتفاضل؟
مَنْ هذا
هذا الذي لا يرى في صياح الديكة
بداية قلب اليوم
بل بداية رائحة الإفطار؟
من هذا الذي على رأس تاج الحب
يتفسخ في ثياب الزفاف؟
وأخيراً لم تشرق الشمس على القطبين اليائسيين
في زمن واحد،
أنت خلوتَ من إيقاع البلاط الأزرق
وأنا ـ لفرط امتلائي ـ على صوتي يصلّون...
الجنائز السعيدة
الجنائز الملول
الجنائز الصامتة المتأملة
الجنائز المرخيِّة، الأنيقة ، الأكولة في
محطات الأوقات المحددة،
وفي قاع الأنوار المقرَّرة الضبابية
وشهوة شراء فاكهة اللاجدوى العفنة.
آه....
كمْ من الناس في تقاطعات الطرق
تقلقهم الحوادث
وأصوات صفارات الوقوف
في اللحظـة الـتي يجب
يجب
يجب
أن يُسحق رجل تحت عجلات الزمن،
ذلك الرجل العابر من جنب الأشجار الرطبة،
من أين أتيتُ أنا؟
قلتُ لأمي: لقد انتهى).
قلت: دائماً قبل أن تفكري، يقع الحادث،
يجب أن نبعث التعازي إلى الصحيفة).
سلاماً يا غرابة العزلة.
أستودعك الغرفةَ.
لأن الغمام القاتم رسول آيات
التطهير الجديدة،
وفي استشهاد الشمعة
سرٌّ مضيء يعرف أنها آخر وأطول شعلة.
بعدك التجأنا إلى المقابر
والموت يتشمم تحت عباءة جدتي
الموت ـ هذه الشجرة العظيمة
الأحياء ـ في المبتدأ- يستغيثون بأغصانها الملولة
والأموات ـ في المنتهى ـ يتشبثون بجذورها الفسفورية.
والموت جالس على الضريح المقدس
في زواياه الأربع، وفي لحظة واحدة
أضاءت أربع شقائق زرق...
فلنؤمنْ
فلنؤمنْ بحلول الفصل البارد
فلنؤمنْ بحطام حدائق التخيّل
وبالمناجل المقلوبة العاطلة
والبذور السجينة
أنظر...ياللثلج الهاطل
لعلّ الحقيقة كانت تينك اليدين الفتيتين،
تينك اليدين الفتيتين
اللتين دُفنتا تحت هطول الثلج المديد.
في العام القادم
حين يضاجع الربيعُ السماءَ
وراء النافذة
ويغليان ملتحمين،
النوافير الخضر ـ السيقان الخفيفة
سوف تزهر يا حبيبي
يا حبيبي الأوحد.
فلنؤمن بحلول الفصل البارد.
(1) العنوان بالفارسية: إيمان بياوريم به آغار فصل سرد.
(2) ذي: الشهر العاشر في السنة الإيرانية ويقابله الكانونان من السنة الميلادية.
(3) السيمرغ: طائر أسطوري معناه بالفارسية الثلاثين طائراً، استخدمه الصوفية رمزاً دالاً على الذات الإلهية، كما في كتاب منطق الطير) لفريد الدين العطار.
****
إني رأيت حلماً: أحدهم سأتي
إني رأيت حلمَ نجمة قرمزية
أهدابي ترفّ
وأحذيتي تتراكب
لأكنْ عمياء إذا كذبتُ
أنا رأيت تلك النجمة القرمزية
عندما لم أكن نائمة
أحد ما يأتي
أحد ما يأتي
أحد أجمل
لا يشبه أحداً، ليس مثل أبي، ليس مثل أنسي)،
ليس مثل يحيى)، ليس مثل أمي،
إنه مثل الذي يجب أن يكون
وطوله، أطول من أشجار بيت البنّاء،
ووجهه
أكثر إشعاعاً من وجه صاحب الزمان
ومن شقيق سيد جواد) الذي رحل.
إنه يرتدي زيّ الحارس، لا يخاف،
ولا يخاف حتى من سيد جواد) الذي
يملك كل غرف بيتنا.
واسمة مثل الذي تناديه أمي في أول الصلاة وآخرها:
يا قاضي القضاة
يا صاحب الحاجات).
بمقدوره أن يقرأ بعين مغمضة
كل كلمات كتاب الصف الثالث الصعبة،
وبمقدوره طرح الألف من العشرين مليوناً.
بلا تخاذل،
يستطيع أن يستلف ما يحتاج من بضائع
من دكان سيد جواد
يستطيع، مرة أخرى، أن يجعل مصباح الله)
الذي كان أخضرـ كان مثل صبيحة السحر أخضرـ
يجعله يضيء على سماء مسجد مفتاحيان)(1)
آخ
كم هو الضياء جميل
كم الضياء جميل
وكم يتمنى قلبي أن يمتلك يحيى عربة
وسراجاً،
وكم يتمنى قلبي
أن أجلس على عربة يحيى
بين البطيخ والرقي
وأدور حول ساحة محمدية)(2)
آخ..
كم هو ممتع الدوران حول الساحة
كم هو ممتع النوم فوق السطح
كم هو ممتع الذهاب إلى حديقة ملي)(3)
كم هو لذيذ طعم البيبسي)
كم هو ممتعة سينما فردين)(4)
وأنا كم أحب هذه الأشياء الممتعة
وكم يتمنى قلبي أن
أشدّ ضفيرة بنت سيد جواد.
لم أنا صغيرة إلى هذا الحدّ
حيث أضيع في الشوارع؟
ولماذا أبي ليس صغيراً
ولا يضيع في الشوارع،
لم لا يفعل شيئاً لتقريب يوم مجيء هذا
الذي يأتي في منامي؟
وأهل محلة المسلخة
الذين تراب حدائقهم أيضاً ملطخ بدم
وماء أحواضهم ملطخ بدم
ورف أحذيتهم ملطخ بدم
لم لا يفعلون شيئاً
لم لا يفعلون شيئاً؟
كم هي كسولة شمس الشتاء
أنا كنست درجات عتبة البيت
وغسلت زجاج النوافذ أيضاً.
لماذا أبي
في النوم فقط
يرى الحلم؟
أنا كنست درجات عتبة البيت
وغسلت زجاج النوافذ أيضاً
أحد ما يأتي
أحد ما يأتي
أحد ما، معنا بقلبه، معنا بنفسه، معنا بصوته
لا يستطيع الإمساك بقدومه
وتكبيله وزجّه في السجن
هو الذي تطفل تحت أشجار يحيى القديمة
ويوماً أثر يوم
يكبر.... يكبر
هو الآتي من المطر، من صوت هدير المطر
من بين همس ورود الأطلس
من فوق سماء توبخانة)(5) في ليل الألعاب
النارية،
يبسط المائدة ويقسّم الخبز
ويقسم البيبسي
ويقسم حديقة ملي).
ويقسم شراب السعال
ويقسم يوم التسجيل
ويقسم غرف المستشفى
ويقسم أحذية البلاستيك
ويقسم سينما فردين).
ويقسم أشجار بنت سيد جواد
ويقسم كل ما عملته الريح
ويعطيني نصيبي
لقد رأيت حلماً...
(1) مسجد في طهران.
(2) ساحة في جنوب طهران.
(3) ملّي:متنزه كبير وسط طهران.
(4) سينما فردين: سينما في جنوب طهران.
(5) التوبخانة: ساحة في جنوب طهران، ومعناها ساحة المدفع.
****
لا أحد يفكر بالأزهار
لا أحد يفكر بالأسماك
لا أحد يريد تصديق أن الحديقة تحتضر
أن قلب الحديقة متورم تحت الشمس
وأن ذهن الحديقة ينزف، بهدوء، ذكرياتٍ خضراء
وحس الحديقة كأنه شيء مجرّد
يتفسخ في انزواء الحديقة
باحة بيتنا منعزلة
باحة بيتنا تتثاءب في انتظار هطول غيمة غريبة
حوض البيت فارغ
والنجوم الصغيرة عديمة التجربة
يتساقطن من شاهقات الأشجار على التراب
وبين النوافذ الباهتة لبيوت الأسماك
يأتي، في الليالي، صوت سعال
باحة بيتنا منعزلة.
الأب يقول: فات أواني
فات أواني
لقد حملت أوزاري
وأتممت عملي).
وفي غرفته، من الصبح حتى الغروب
هو إما يقرأ الشاهنامه)(2)
أو ناسخ التواريخ).(3)
الأب يقول للأم:
اللعنة على كل سمكة وكل طير.
ما همني، إذا مِتُّ،
أكانت الحديقةُ أمْ لمْ تكنْ
يكفيني راتب التقاعد).
الأم كل حياتها سجادة مفروشة
على عتبة رعب جهنم.
الأم تقتفي آثار أقدام خطيئة
في أعماق كل شيء،
وتظن أن الحديثة ملوثة
بسبب كفر شجرة.
الأم مذنبة بالفطرة
الأم كل يوم تقرأ الدعاء
وتعزّم على كلَّ الأزهار
وتعزّم على كلَّ الأسماك
وتعزّم على نفسها
الأم في انتظار يوم الظهور).
وحلول المغفرة.
أخي يسمي الحديقة مقبرة
أخي يسخر من شغب الحشائش
ويعدُّ جثث السمكات المتعفنة
تحت جلد الماء المريض،
أخي مدمن فلسفة
أخي يرى شفاء الحديقة في انهدامها.
إنه يسكر
يضرب بقبضته الحائط والباب
يريد أن يقول: أنا متوجع، تعب، يائس.
يأسه مثل بطاقته الشخصية وتقويمه ومنديله
وقداحته وقلمه،
يأخذه معه إلى الزقاق والسوق،
يأسه من الضآلة بحيث يضيع كلَّ ليلة
في زحام الحانة.
وأختي التي كانت صديقة الزهور
وكلمات قلبها الساذجة
عندما تضربها أمي،
تأخذ الزهور إلى محفلها العطوف الصامت
أحياناً تستضيف عائلة الأسماك
إلى الشمس والحلوى..
بيتها في الجانب الآخر من المدينة
هي داخل بيتها الاصطناعي
مع أسماكها الحمر الاصطناعية
وفي حماية حب زوجها الاصطناعي
وتحت أغصان أشجار تفاحها الاصطناعية
تغني أغاني اصطناعية
وتصنع أطفالاً طبيعيين.
كلما جاءت تزورنا
تتوسخ أذيال تنورتها من فقر الحديقة
تستحم بالكولونيا،
هي كلما جاءتنا
تكون حبلى.
باحة بيتنا منعزلة.
باحة بيتنا منعزلة.
في كل يوم يأتي من وراء الباب صوت انفجار
جميع جيراننا يزرعون في تراب حديقتهم القذائفَ
والبنادقَ بدلَ الزهور،
جيراننا يغطّون أحواضهم المبلّطة.
الأحواض، رغماً عنها،
صارتْ مخازن سرية للبارود.
وأطفال زقاقنا ملأوا حقائبهم المدرسية
قنابلَ صغيرة.
باحة بيتنا دائخة.
أخاف الزمن الذي أضاع قلبه
أخاف التصور العبثيِّ لكل هذه الأيدي
أخاف من تجسّم غرابة كل الوجوه،
أنا وحيدة
مثل تلميذة تعشق درس الهندسة بجنون
وأعتقد أن من الممكن أخذ الحديقة إلى المستشفى
أعتقد
أعتقد
أعتقد
قلب الحديقة تورم تحت الشمس
قلب الحديقة ينزف، بهدوء، ذكرياتٍ خضراء.
(1) العنوان بالفارسية: دلم براى باغجه ميسوزد).
(2) الشاهنامه: كتاب سير الملوك الفرس، ألفه الفردوسي سنة 300 هـ، يحكي فيه تأريخ وأساطير الفرس حتى دخول العرب بلاد فارس.
(3) ناسخ التواريخ: كتاب تأريخي لمؤلفه لسان الملك الميرزا محمد تقي سبهر الذي عاش في زمن الدولة القاجارية
****
ذهبت تلك الأيام
تلك الأيام الجيدة،
الأيام الممتلئة والنزيهة،
تلك السماوات المغطاة بالـبلك) (2) .
تلك الأغصان المثقلة بالكرز،
تلك البيوت المتكئة معاً على غلاف
اللبلاب الأخضر،
سطوح البالونات اللعوبة تلك،
تلك الأزقة السكرى من عطر الأكاسيا.
ذهبت تلك الأيام
حيث من بين شقوق أجفاني
يتصاعد غنائي مثلما فقاعة تغلي
مترعة بالهواء،
وحيث تنعكس عيني على كل الأشياء
وتشربها كحليب طازج،
كأنما في بؤبؤيَّ أرنب قلق وسعيد
يسافر كل صباح مع الشمس العجوز
إلى حقول مجهولة،
وفي الليالي
يغوص في غابات العتمة.
ذهبت تلك الأيام
الأيام الثلجية الآفلة
عندما من وراء الزجاج، في الغرفة الدافئة،
دائماً
أتأمل في الخارج، ثلجي الطاهرَ
كيف يتساقط مثل زغب ناعم
بهدوء
على السلم الخشبي القديم
على حبال الغسيل المرتخية
على ضفائر الصنوبرات العجائز
وأفكر بالغد...،
آه
الغد: حجم أبيض صقيل
يبدأ مع حفيف عباءة جدتي؟،
مع بزوغ ظلّها الشبحي في إطار الباب
وهو يطلق نفسه في إحساس النور البارد،
وفكرة التحليق الحائر للطيور،
في كؤوس الزجاج الملونة.
الغد...
دفء الكرسي يجلب لي النوم.
عجولة أنا وغير خائفة أبتعد عن
أنظار أمي لأمسح خطوط الباطل من
مسوداتي العتيقة.
عندما ينام الثلج.
أتجول قلقة في الحديقة،
وتحت أصّ شجرة الآس اليابسة
أدفن عصافيري الميتة.
ذهبت تلك الأيام
أيام الانجذاب والحيرة
أيام النوم والصحو،
أيامَ كل ظل له سر،
وكل علبة مغلقة تخفي كنزاً
وكل زاوية من الصندوق، في سكوت
الظهيرة، كأنها العالم،
وكل من لا يخاف من الظلمة
كان في عيني هو البطل.
ذهبت تلك الأيام
أيام العيد
انتظار الشمس والوردة،
ارتعاشات العطر في اجتماع صامت،
وعفّة النرجس الصحراوي
الذي يزور المدينة آخر صباحات
الشتاء،
أغاني البائع المتجول في الشارع
الطويل المبقع بالأخضر،
السوق وهي تطوف في روائح هائمة
ـ الرائحة القوية للقهوة والسمك ـ،
السوق تمتد تحت الأقدام
تمتزج بكل لحظات الطريق
وتدور في قعر أعماق عيون الدمى،
السوق كانت أمّاً
تذهب مسرعة إلى أحجام ملوّنة وسيالة
ثم تأتي
مع علب الهدايا في الزنابيل الملأى.
السوق كانت مطراً
ينهمر
ينهمر
ينهمر
ذهبت تلك الأيام
أيام التأمل في أسرار الجسد
أيام التعارف الحذر
مع جمال الشرايين الزرق:
ـ يد من وراء الحائط تناديني بوردة،
ـ واليد الأخرى
بقعُ حبرٍ على تلك اليد المرتبكة
المضطربة الخائفة.
والحب
يكرّر نفسه بتحية خجلى.
في الظهيرات الحارة الملوثة بالدخان
نادينا حبنا في غبار الزقاق
وعرفنا اللغة البسيطة لأزهار الـقاصد)،
نحن أخذنا قلوبنا إلى بستان الرحمات المعصومة
وأقرضنا الأشجار،
والمدفع، مع رسائل القبلات، كان يدور
في أيدينا،
وكان الحب
ذلك الحس الشبحي في الظلمة الثامنة
حاصرنا فجأة
وجذبنا في زحام الأنفاس الملتهبة الحرى
والابتسامات المسروقة.
ذهبت تلك الأيام
تلك الأيام مثلما نباتات تفسخت في الشمس،
من أشعة الشمس تفسخت
وضاعت تلك الأزقة التي
كانت سكرى من عطر الأكاسيا،
ضاعت في شوارع اللاعودة المليئة بالصخب.
والبنت التي لونت خديها يوماً
بأوراق الشمعدان،
الآن امرأة وحيدة
الآن امرأة وحيدة
(1) العنوان بالفارسية: آن روزها).
(2) البللك: نوع من الشذر الصغير الملون تزين به الثياب.
****
حتامَ عليَّ الذهاب
من ديار إلى ديار؟
لا أستطيع، لم يعد بمقدوري البحث.
كل الزمن حب وحبيب آخر.
تمنينا أن نكون هاتين السنونوتين
المسافرتين طوال عمريهما
من ربيع إلى ربيع.
آه، لقد تأخر الآن
تهدّم في ورأيتُ امتزاج قبلتك
على شفتيّ كما لو قطعة مظلمة نازحة
من غيمة ـ كنزٍ أزهقت روحها المعطرة
في عبورها
كم هو ملوث بخوف الزوال، حبي الحزين،
حياتي كلها ترتعد لأني أراك
كأني أرى، من النافذة، إلى شجرتي
الوحيدة المورقة
في المهبِّ الأصفر المحموم.
كأني أنظر إلى صورة
تنكسر) في جريان الماء الشبحي.
ليلة ويوم.
ليلة ويوم.
ليلة ويوم.
دعني أنس.
ما أنت سوى لحظة
لحظة واحدة تفتح عيني على برهوت ) المعرفة
دعني أنس.
(1) العنوان بالفارسية: كذران.
****
أنا لست نادمة
أنا أفكر بهذا الاستسلام
هذا الاستسلام المعفّر بالألم
أني قَبَّلتُ صليب قدري
على مرتفع تلال مقتلي.
في شوارع الليل الباردة
الأزواج دائماً يهجرون بعضهم مترددين
في شوارع الليل الباردة
لا صوت سوى: الوداع...الوداع...
أنا لست نادمة
كأنما قلبي يجري في تلك الجهة من الزمن
الحياة ستكرر قلبي
وزهرة القاصد التي تجري على بحيرات الريح
هي التي ستكررني.
آه، هل ترى
كيف يتمزق جلدي؟
وكيف حليب نهدي الباردين
يتجمّد في عروقي المزرقة؟
والدم كيف يبدأ نموّه الغضروفي
في معصمي الصبور؟
أنك، أنا، أنت
والذي أحبه.
وكنتَ الذي يجد فجأة في داخله مرة أخرى
اتصالاً أبكم
مع آلاف الأشياء المحملة بغرابة مجهولة
وكل شهوة الأرض الحادة
التي تمتص كل المياه في داخلها
لتحبل كل السهول
اسمعْ
إلى صوتي بعيد المدى
في ضباب التهجّد الكثيف
للقائمين في السَحَرْ
وأبصرْني في صمت المرايا
كيف ألمس بما تبقى من يدي،
مرة أخرى، العمقَ المظلمَ لكل الأحلام
وأَوشمُ قلبي كالبقع الدامية
على سعادات الوجود البريئة.
أنا لست نادمة
مني أنا، يا حبيبي، تكلّمْ مع الأنا الأخرى
التي ستجدها أنت مرة أخرى بهاتين العينين العاشقتين
في شوارع الليل الباردة.
وأذكرني في قبلتها الحزينة.
على الغضون التي تحت عينيك الرحيمتين.
(1) العنوان بالفارسية: در خيابانهاى سرد شب.
****
عندها.. بردت الشمس
وارتفعت البركة من الأرض
عندها، الأرض الخضراء يبست كالصحراء
جفّت الأسماك في البحر
والتراب لم يعد يتقبل الموتى من بعدُ،
الليل في كل النوافذ الشاحبة
مثل خيال مرتبك
كان يتراكم ويطغى،
والطرقات أطلقت نهاياتها في الظلمة.
لم يعد أحد يفكر بالحب
لم يعد أحد يفكر بالفتح،
لم يعد أحد أبداً
يفكر بأي شيء.
في كهوف العزلة ولد العبث
ومن الدم انبعثت روائح الأفيون والحشيش
النساء الحوامل وضعن أطفالاً بلا رؤوس
والمهود ـ لفرط حيائها ـ لاذت بالمقابر.
كم هي أيام مرة وسوداء
لقد قهر الخبزُ قوّة النبوة العجيبة
وها أن الأنبياء ـ جوعى ومساكين ـ
يفرون من أرض الميعاد.
حملان المسيح الضالة
لم تعد تسمع في عمق الوديان، صوتَ
الراعي هاتفاً:هَيْ... هَيْ..
كأنما الحركات، الألوان والصور
انعكست مقلوبة في عيون المرايا،
وفوق رؤوس المهرجين السفلة
وعلى سحنات العواهر الوقحة
ثمة هالة نورانية مقدسة
مثل مظلة تحترق.
مستنقعات الخمر، ببخارها المزّ السامّ
استدرجتْ حشد المثقفين الساكن إلى
أعماقها،
والجرذان المؤذية أكلت صفحات الكتب
المذهّبة في المكتبات العتيقة.
ماتت الشمس
ماتت الشمس، وغداً سيكون لها في
ذهن الأطفال معنى أبكم وضائع،
إنهم لغرابة هذا اللفظ القديم في
واجباتهم المدرسية سيرسمونها
بقعة سوداء غليظة
الناس
الجمع المتهالك من الناس
ميتو القلوب
المتكئون
المنذهلون
في ظل وطأة أجسادهم المشؤومة
يرتحلون من غربة إلى غربة،
الشهوة المؤلمة للجريمة
تتورم على أيديهم.
أحياناً
شرارة، شرارة بسيطة تجعل هذا
الحشد الساكت الفاني
يتلاشى بلمح البصر.
إنهم يهجمون بعضهم على بعض
الرجال بعضهم يقطع بالسكين حلقوم الآخر،
وعلى أسرّة من دم
يغتصبون العذارى.
إنهم غرقى وحشيتهم
إحساسهم بالإثم شلّ أرواحهم
العمياء الغبية.
وَ دائماً.
في مراسم الإعدام
عندما يضعون حبلاً في عنق المحكوم.
وتقفز عيناه المتشنجتان من محجريهما
تراهم منزوين في أعماقهم
ومن التخيل الشهواني
تصعق أعصابهم الشائخة التعبى.
ودائماً
في أطراف الساحات العامة
ترى هؤلاء المجرمين الصغار
يقفون وكلهم دهشة
من الانسكاب الأبدي لماء النوافير
ربما لم يزل وراء العيون المسحوقة
في عُمقِ الانجماد
ثمة من هو نصف ميت
على وشك موت كاذب،
وهو في سعيه المحتضر
يريد أن يؤمن بنقاء صوت الماء.
ربما
لكنْ كم هو فراغ لا نهائي هذا.
لقد ماتت الشمس
وما من أحد عرف بأن تلك الحمامة
الحزينة التي فرّت من القلوب
اسمها: الإيمان.
آه
أيها الصوت الحبيس
ترى، هل أن عظمة يأسك
من لا اتجاه في هذا الليل الضجر
سوف تفتح ثقباً إلى النور؟
آه
أيها الصوت الحبيس
يا صوت الأصوات الأخير.
(1) العنوان بالفارسية: آيه ها زميني.
****
إلى صديقها القاص الإيراني إبراهيم كلستاني
أحسّ أني خسرت عمري كله، كان عليَّ أن أعرف أقل بكثير من خبرة السبعة والعشرين عاماً، لعلّ السبب يكمن في أن حياتي لم تكن مضيئة، فالحب، وزواجي المضحك في السادسة عشرة زلزلا أركان حياتي. على الدوام لم يكن لي مرشد، لم يربّني أحد فكرياً وروحياً. كل ما لدي هو مني، وكل ما لم أحصل عليه كان بمقدوري امتلاكه لولا انحرافي وعدم معرفتي لنفسي.عراقيل الحياة منعتني من الوصول.. أريد أن أبدأ...
سيئاتي لم تكن لسوء في صميمي، لكن بسبب إحساسي اللامتناهي بعمل الخير...
****
شعر تحت جلدي بانقباض وغثيان.. أريد تمزيق كل شيء.. أريد أن أتقوقع في ذاتي ما أمكنني. أريد الانطواء في أعماق الأرض، فهناك حبي، هناك عندما تخضر البذور وتتواشج الجذور يلتقي التفسخ والانبعاث، وجود ما قبل الولادة وما بعد الولادة، كأنما جسدي شكل مؤقت سرعان ما سيزول. أريد الوصول إلى
الأصل، أرغب في تعليق قلبي على الأغصان مثل
فاكهة طازجة...
سعيت دائماً لأكون بوابة موصدة لئلا يطلع أحد على حياتي الباطنية الموحشة، لئلا يعرف أحد حياتي... سعيت إلى أن أكون آدمية.. ولكن كان في داخلي على الدوام كائن حي..
قد ندحرج إحساسنا بأقدامنا.. لكننا لا نستطيع أن نرفضه أبداً.
لا أعرف الوصول.. لكني أعتقد أن هناك هدفاً ولابدّ، هدف ينساب من وجودي كله إليه، آه.. لو أموت وأبعث ثانية لأرى الدنيا شكلاً آخر.
العالم ليس ظلماً بكليته، والناس، الناس المتعبون ينسون أنفسهم دائماً فلا يسيج أحد منهم بيته.
الإدمان على عادات الحياة المضحكة، والإذعان للمحدودية والعوائق، كلها أعمال مخالفة للطبيعة.
إن حرماناتي، وإن تكنْ قد منحتني الحزن، فهي على العكس من ذلك أيضاً أعطتني هذه الميزة:
لقد أنجتني من فخاخ التهتك المخادع في العلاقات المحتملة. فالحرمانات تقرب العلاقة إلى مركز الاضطرابات والتحولات الأصلية.
لا أريد أن أشبع، أريد الوصول إلى فضيلة الشبع.
****
سيئاتي...؟ أية سيئات لي سوى خجلي وعجز حسناتي عن الإفصاح، سوى أنين حسناتي الأسيرة في هذه الدنيا المليئة بالجدران على مد البصر، جداراً تلو جدار، التقشف بالشمس، وقحط الفرص، والخوف والاختناق والاحتقار...
أمس الأول، في الغرفة اللصيقة بغرفتي (في الفندق) انتحرت امرأة، قبيل الصبح انفجر صوت صراخ ظننته عواء كلب، خرجت لأستمع، الآخرون خرجوا أيضاً.... وأخيراً كسروا الباب.. كانت المرأة قد أصبحت رمادية، كانت قبيحة قصيرة، فقيرة، ترقد على سريرها فاقدة وعيها.
يبدو أنها قد ضُربت أولاً، وقام ضاربوها بسحبها من الطابق الرابع إلى الطابق الأول. كانت قبل انتحارها ميتة تقريباً، والآن ماتت تماماً. من حقيبتها المفتوحة وسط الغرفة ومن بين ثيابها تبرز أشياء مضحكة، وعجيبة: حمالات صدر لا عدد لها، ألبسة داخلية قذرة، جوارب ممزقة، أوراق ملونة ودمى ملفوفة بالأوراق الملونة، كتب قصصية للأطفال، أقراص مختلفة، صورة المسيح وعين اصطناعية.
لا أعرف، لقد جاء هذا الموت بلا شفقة. تمنيت أن أذهب وراءها إلى المستشفى. لكني أمام كل الناس الذين تعاملوا مع جسدها الرمادي بهذا القدر من الفظاظة، لم أتجرأ على إظهار رأفتي ومواساتي نحوها...
****
سعيدة أنا، لأن شعري صار أبيض، وجبيني تغضن، وانعقدت بين حاجبي تجعيدتان كبيرتان رسختا على بشرتي. سعادتي أني لم أعد حالمة. قريباً سأبلغ الثانية والثلاثين، صحيح أن الـ(32) عاماً هي حياتي التي تركتها خلفي وأتممتها. لكن ما يشفع لي أنني وجدت فيها نفسي.
فمي مضطرب، وقلبي منقبض. تعبت من كوني متفرجة. ما إن أعود إلى البيت وأتوحد مع نفسي أحس أني قضيت يومي كله بالتشرد والضياع بين أشياء ليست مني، أشياء زائلة...
****
في رسالة بعثتها الشاعرة
حين كانت في أحد المهرجانات السينمائية
.. حين أرجع إلى البيت.. مثل طفل يتيم..
دائماً أفكر بزهرات عباد الشمس.. كم بلغ طولها؟ اكتب لي. عندما تزهر اكتب لي بسرعة...، مستلقية أرى البحر من هنا. على البحر مراكب. ونهاية البحر مجهولة. إلى أين؟ لو استطعت أن أكون جزءاً من هذه اللانهاية، عندها أقدر أن أكون حيثما أكون...
قلبي يريد لي أن أنتهي هكذا.. أو أستمر هكذا. دائماً تأتيني قوة من الأرض وتجذبني. التحليق صعوداً أو التقدم إلى الأمام كلاهما أمران لا يعنياني. فقلبي لا يريد سوى الهبوط مع كل الأشياء التي أعشقها، أهبط مع أشيائي الحبيبة وأذوب في هيئة كلية غير قابلة للتبدل. اعتقادي أن لا طريق سوى هذا يجعلنا نفلت من الفناء، من التحول والضياع، من العدم والعبثية.
****
وفي رسالة منها بعد تكريمها الكبير في مهرجان
ـ بيزارو ـ للتأليف السينمائي.
.. بين هؤلاء الناس المختلفين، كم أنا وحيدة، أحياناً تتمزق أنفاسي حزناً... إحساس خارج دائرة الوجود وجريانه يخنقني... ليتني ولدتُ في مكان آخر، مكان قريب من مركز الحركات والارتعاشات الحية.
واأسفاه... أكان علي أن أتلف عمري وقدرتي كلها، فقط وفقط، من أجل حبي للأرض واعتناقي لذكرياتي في الحظيرة المترعة بالموت والاحتقار والعبث. هذا ما فعلته حتى الآن. أقارن ذلك التدفق الحي الذكي... أية قدرة يتقدم بها إلى الأمام ليوقظ الاشتياق إلى الإبداع والخلق.
رأسي ممتلئ ظلاماً ويأساً. وأتمنى الموت. أموت ولا أضع قدمي في مؤسسة فارابي (مؤسسة سينمائية إيرانية لا زالت موجودة)، ولا أرى مجلة (......) ذات الرسالة الساقطة، والتي لا تساوي خمسة ريالات...
****
إذا لم يصل الإنسان إلى أناه الحرة المنعزلة الطليقة من الأنوات الآسرة فلن يصل إلى شيء إذا لم تضع وجودك كله بتمامه وكماله لاختيار هذه القدرة.. فلن توفّق في إبداع حياتك....، الفن أقوى أنواع الحب.... إنه يجعل الإنسان يصل إلى تمام حضوره... فعلينا أن نستسلم له.
يا للدنيا العجيبة. أنا ليس لي شأن بأحد أصلاً.عدم تدخلي في شؤون الناس، وانهماكي بنفسي، هو بالضبط ما يجعل الناس يراقبونني بفضول...لا أعرف كيف أتعامل معهم. أنا إنسانة خجولة. لدي معضلة كبيرة في فتح حوار مع الآخرين....
خصوصاً مع من لا أعرفهم.. ما علينا.. رأيت لوحة لليوناردو دافنشي في المعرض الدولي، لم أكن رأيتها من قبل في سفرتي السابقة إلى لندن، إنها رائعة، كل شيء ذاب في الأزرق الفاتح، إنها مثل الإنسان + أول الفجر، قلبي أراد أن أركع وأصلي، هذا هو الدين. في لحظات الحب فقط، أشعر بوجود الدين في أعماقي.
****