مقدمة
سعدي يوسف
في قصيدة "حيرة", في نهايتها, نقرأ:
حائرة هي كلماتي
أتكمل هذه القصيدة؟
أم تتركها لكم؟
فلأتركها لكم!
**
رحلة شيركو بيكه, المديدة, في الشعر والثقافة والحياة, ظلت رحلة اكتشاف ودهشة وصيرورة, وفي مسارها الفني, وبه, اغتنى الشعر, وتجوهر, وعاد الى البدء: ايماءً, و إشارة الى واقع آخر.
إن كان النص يومئ, فمعنى هذا, ان ثمت من سيتناول طرف الخيط, ليمضي به.. (الى أين؟).
من هنا, أراد الشاعر أن يترك لنا القصيدة.
**
هنالك نصوص تعبر الى زمنٍ لم يعبر عنه, بعدُ. إن مسؤولية التعبير ليست وقفاً على الشاعر وحده, بل ان اختفاء الشاعر هو أمرٌ مرغوبٌ فيه, كي يتبدى الزمن الآخرُ, الواقع الآخر, عجينة صلصالٍ تصوغها أنت, كما أصوغها أنا, كلٌ على هواه. ما يتبقى هو المحاولة, هو الخطوة.
هل بإمكاني أن أنتظرك, تحت الشجرة؟
لكن, علي أن أحدّث الشجرة, أولاً, كي أنقل إليك كلامها..
هكذا سوف يقف كلانا تحت الشجرة. سنكون صديقين, نتعرف
الى صديقةٍ.
شعر شيركو بيكس, هو محاولة الاندماج, و إن أغلق على نفسه باب الغرفة, بألف قفل, ودخن أربعين سيجارة.
**
ليس في الفن معادلات.
الفن انصهار.
والانصهار, يجعل من اطروحات, كالذات, و الآخر, والعلاقة, أموراً تفقد معناها, بعد أن فقدت واحديتها.
نص بيكس, ينظر اليه, كلاً, كاملاً, متكاملاً (لا أعني كل سطر كتبه شيركو) في سياق الانصهار.
**
من شرفتي الصغيرة, أكاد المس غصن سروٍ.
ومع شيركو بيكس, أتلمسُ, وبأنامله, أغصان الإسبندار والجوز والصنوبر والأرز, حيث ينتظر كلنا كلمة الكون..
سعدي يوسف
10/11/1993 عمان
**
قصة حب
عاشقان,
شرفتان متواجهتان,
يتراشقان كل ليلة,
بالشعر, الأمواج, الورود, و القبل!
كل ليلة,
يغيران مابينهما ألوان الريح,
كل ليلة,
يعرضان جسديهما لمطر العشق؛
فيبتلان حتى العظم!
لكنما هذه الليلة. ظلت إحدى الشرفتين معتمةً,
الفتاة منكفئة,
القبل بلا أجنحة
و القرنفلة تنتظر
فجأة.. اختض الليل,
تهافتت القرنفلة,
افلت الفتاة عن الشرفة..
حين عاد الفتى مسجى,
و قد نبت على صدره,
خنجر أحمر
**
حسرة
لا تحرجيني أيتها العاصفة الثلجية؛
و إلاّ سلمتك الى إحدى
قصائدي (الحلاجية) المجنونة, الغاضبة
فتحلجك, و تعيدك.
قطن نسمة وجلة على سفح الربوات!
أيها المطر لا تضايقني؛
و إلا سلمتك الى جحيم عشق غربتي؛
فيرشقك بالنيران
و يعيدك
صوف بخار ممزق على ضفاف (سيروان)*
و أنت يا الم اللاجدوى و الهجران
لا تبرحني الليلة؛
و إلا أطلقت أثرك العاصفة و المطر؛
و سلمتك لقصيدة الشمس الحمراء لروحي؛
فتعيدك
حسرة صغيرة
لطفل أشقر من بقايا (الأنفال)!!
نيسان 1992.
* سيروان: نهر كردستاني, يصب في (دجلة) جنوبي بغداد.
**
عزاء
مات مطر؛
فأقامت الأرض
له مأتما عظيماً,
في احد الحقول,
ثلاثة أيام,
وكان أكثر المعزين بكاءاً,
وأشدهم حرقةً و حزناً,
طائر بستان قرية مرحلة!
-1988-
**
صبية
-ذلك الناي(1)
يتمخض..
-ليته يلد صبيةً,
سوداء العينين
مثل وحدتي!
و ناصعة البياض
كصوت "فيروز"!
أب 1992 - اربيل
**
الآفات
حلي في همي الأعظم حلولاً,
و التحمي بأضواء أشجاني!
فستكونين أحلى؛ مادمت متلفعة بحزني الياقوتي,
و انا أتلألأ بقلادة لآليء ذنوبك البيض!
حلي في, فقد ولى زمن الضيافة,
زمن تثاؤب التأريخ,
زمن تدوين الحقيقة,
زمن لهو الرسل,
اجل ولى, ثم ولى!
لكي نغيث آخر أذكار السنابل,
آخر رسائل الحجر,
آخر تضرعات الملائكة الآثمين!
و لكي نغيث آهات و أنات الشياطين البائسة!
لقد ولى زمن الاسترخاء
و التمعن في عيون الأقمار البلهاء!
فكيف يحلق حبنا (الكتكوت),
في هذا المرفأ المخيف؟!
فانظري شرقي رأسك,
يا لها من آفة مقبلة!
آفة وليدة الكهوف,
مزدانة بالظلام و الضغينة,
ولتحلي فيَّ,
ها هو الموت يلهج: - الأوان يفوت!
و العدم يهتف: الأوان يفوت!
الفردوس و الجحيم يقولان: الأوان يفوت!
إنما الفناء لحظة, و كل اللحظات
يا ابنة الموت
يا زوجة الثلج الأسود,
يا ابنة بلاد الطاعون و المأساة!
توحدي بي, و حلي فيَّ.
أنت الإعصار و انا الشهب التحمي بي,
أنت الطمأنينة و انا الخوف توحدي معي,
حلي فيَّ, من اخمص قدمي حتى قمة رأسي,
توحدي معي:
شعرة فشعرة, عرقاً فعرقاً..
و ليمتزج الماء و النار, الحزن و الفرح, الجريمة و العقاب.
الأسود و الأبيض, الذوبان و التبرعم, و الصهيل و الهديل
اجل لتلتحم كل هذه الأشياء,
و لتلوننا بلونها!
و ليترك هذا العشق الملعون,
و هذان الجسدان المحظوران,
بعدهما صليباً مبتسماً!
هاهي ريح قاتمة فظة,
كالغضب القادم من سواحل (بارس) النارية قديماً,
ها هي تهب جارفة معها غلال القبل, المواقد و الضياء,
جارفة معها مهد الورود, و حجر مصلى (المجوس) و طاقية (زردشت)!
و لقد شهدت
في هذا الصباح ريحاً مثلها,
ريحاً ملتحيةً, شوكيةً, عبوسةً,
جحيمية, ذات صوت أجش!
فقد جاءت لتسرق المستقبل,
لتجتث شجرة - شعري - الساسانية!
آتية لتنهب
رؤوسنا, أحلامنا, أصابعنا,
أصص زهورنا, أوتار القياثر, حناجر الكلمات,
رقصات الروح, الدبكات, أقداح (الخيام),
طيور "مستورة(2)", أناشيد "بيكةس(3)",
و كل الغيوم المتمخضة,
كل ديدان القز المستقبلية,
كل بيوض المصابيح,
و ها هو الموت النوراني يجيء متموجاً,
هذا الموت: وليد المشرق,
انه مليح اللسان, يحاصرنا,
أما تذكرين يوم قلت لك:
-لماذا نقف هكذا تحت هذا المطر الأسود؟
أيتها الفتاة الملعونة,
أمام هذا التاريخ الجبان,
فلن يبرأ جسدنا من هذه الطحالب, بعد الآن!
لماذا نقف واجمين هكذا تحت هذا المطر الأسود؟
سوف لن تجدينا كل هذه المظلات العتيقة.
لكم أخشى أن تكون هذه الرقصة,
هي الرقصة الأخيرة لحبنا!
حلي في, يا ابنة الشجرة المذبوحة, و التحمي معي.
فاليوم جاءني المستقبل بعيون مخضلة,
جاءني و قال لي:
-ذلكم الموت النوراني,
يحاصر قلعة صوتي, و دمي
يتقدم فرسخاً كل يوم,
و يحفر في صدري, كل ليلة, حفرة.
أيتها الفتاة المصلوبة في ليلة قمراء.
أيتها المرأة المقفلة الجسد!
لا تبحثي في هذا المرفأ, عن المفتاح!
لا تبحثي في هذا البحر عن السفينة!
فالسفينة هي الخوف و الموت هو المرفأ الوحيد.
بينما اشهد خلل الضباب.
البداية: خوف.
النهاية: خوف.
حكايتي, بيتي, نضالي, و كتبي
كلها مغطى بالخوف و الرعب.
جذر هذا الموت الطويل,
طريق هذا الموت ينتهي في هلاك المنبع!,
الموت في الموت,
و السيف في السيف,
حيثما يقبل طوفان اسود من مشرق رأسك,
أيتها الفتاة (الساسانية) السيئة الصيت!
يا زوجة (المجوس) القتلى:
في مساء احترابات
في مساء أعمى,
في مساء قيري,
أوصدوا علينا السماء, و أغلقوا علينا الأرض,
و جلبوا القمر على رأس رمحٍ!
عند ذاك أزف حفل ولادتنا الأخرى!
و كان أنْ غرقنا في شراب الجنة و قبل الحوريات,
كانت حصتي وحدي أربعين حورية,
غير انك لم تكوني بينهن!
أيتها الفتاة الساسانية الملعونة!
اجل لم تكوني بينهن,
فقد كنت, حينئذ, في سفينة تحت الأرض,
كنت في العالم السلفي,
هنالك تبحثين عني,
و كانت هي المرة الأولى لموتي الجميل,
و كان اللقاء الأول ما بين عنقي و السيف الوفي
و النطع,
و كان أول سحر موتي,
فحلي فيَّ يا ابنة الرماد,
يا امرأة, مملكة الآفات,
هاهم يشعلون
في مشرق رأسك, شموع و بخور موتي.
هاهم يعذبون
في مشرق جسدك,
شعري وطلي و أغنياتي.
فلا أستطيع أنْ اخبئ عن هذه الآفة
عاصفة جنوني.
هوذا قدر عشق يشحذ بالسيف عنقه!
فيا أيتها الفتاة الساسانية الحسناء,
ولى زمن الضيافة,
و ثمت
موت جديد
يبتغيني!!
الهوامش:
1-يعامل الشاعر (الناي) كمؤنث..
2-مستورة: شاعرة و مؤرخة كردية عاشت في القرن الماضي.
3-بيكةس: هو الشاعر الوطني المعروف فائق بيكةس. والد الشاعر شيركو.
**
المعطف
منذ سنين
تقوقعت جيوب هذا المعطف العتيق,
منطوية على ذكريات منفوضة!
فكلما أمد يداً في جيب,
اشعر أنني المس يد صاحبه السابق,
و تلمس أصابعي أصابع ماض آخر!
فمن يعرف
إنْ بعته انا الآخر,
أية يد ستلمس يدي؟!
و أية أصابع أخرى
ستجد في تلكم الجيوب
أصابع ذكرياتي المتساقطة؟!
الكتابة
لا تكتب السماء المطر,
على الدوام.
لا يكتب المطر الأنهار,
على الدوام.
لا يكتب الماء البساتين
على الدوام.
لا يكتب البستان الورود
على الدوام.
و لا انا اكتب الشعر
الحب
تدخل روحي و لست شعاعاً
تدخل جسدي, و لست دماً.
تدخل عيني, و لست لوناً.
تدخل أذني, و لست صوتاً.
إنما..
أنت.
سر الحب!.
**
الخبر الأخير
ألا تعرفون؟
آه
لم يبق اثر
لأية حمامة
في جدارية (فائق حسن)!
فقد التهمها الجوعى
من العاطلين,
القطط,
و القصص,
آه! آه!
**
موتي
انه موتي
يجيء كل ليلة
مرة.. مرتين
زائراً يتكئ على كتف أحلامي
و موتي الآن ظل
يحسب خطواتي
كل يومٍ
و يفتشني
يبحث
عن عنواني الجديد!.
مختارات من ديوان (ساعات من قصب)