في عام 4198 أصبح ياروسلاف سيفيرت (1901 1986) أوّل أديب تشيكي يحصل علي جائزة نوبل للأدب. وآنذاك، اعتبرت الأكاديمية السويدية أنّ شعر سيفيرت (يتحلى بالعذوبة، والحسّية، وثراء الابتكار)، وخصّت بالذكر قدرة ذلك الشعر علي (تقديم الصورة المحرِّرة للروح التي لا تُقهر، وللإنسان الطليق). ورغم أنّ أخلاقيات الحرب الباردة كانت قد تراجعت كثيراً علي جبهة جائزة نوبل، ولم يعد منح هذه الجائزة لأديب من المعسكر الاشتراكي حدثاً دراماتيكياً، فإنّ قرار الأكاديمية السويدية أثار نقاشاً واسعاً في الاتجاه المضادّ إذا صحّ القول، أي حول السؤال المشروع التالي: لماذا تأخرت الأكاديمية في منح الجائزة إلي شاعر عالمي وتشيكي كبير مثل سيفيرت، وهل كانت ملابسات الحرب الباردة وراء ذلك التأخير (بدل أن تكون وراء منحه الجائزة أخيراً)؟ وفي مقدمته لمختارات شعرية هي الأوسع حتى الآن في اللغة الإنكليزية (*)، لا يتوقف جورج جيبيان عند هذا النقاش، ولكنه يذكّر بأنّ سيفيرت هو (شيخ الشعراء) التشيكيين، في بلد يجلّ أهله الشعراء ويقرأونه باحترام ونَهَم (بمعدّل يفوق 50 مرّة نسبة قراءة الشعر في الولايات المتحدة علي سبيل المثال). وهكذا فإنّ منح سيفيرت جائزة نوبل للأدب لم يكن أقلّ من تتويج غير مباشر لتقاليد شعرية عريقة كانت تترعرع في صلب الحياة اليومية، ولكوكبة من الشعراء الكبار الذين أدركوا طبيعة موقع الشاعر في المجتمع، وطبيعة وظائفه إزاء لغة تحتفي كثيراً بالصوت والإيقاع والأغنية. ولد سيفيرت في ضاحية جيجكوف القريبة من براغ، لأسرة تنتمي إلي الطبقة العاملة. شظف العيش في المحيط العمالي الصرف، والتناحر الخفي بين الأب الاشتراكي الملحد والأمّ الكاثوليكية، طوّرت في نفسه نبرة سخرية مريرة سوف تلازم أشعاره زمناً طويلاً، كما ستدفعه إلي الانتساب إلي الحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي منذ تأسيسه في عام .1921 ثمار هذا الطور تجلّت مباشرة في مجموعته الأولي (مدينة دامعة)، والتي يري النقّاد أنها (الأكثر بروليتارية) بين جميع أشعاره، رغم أنها تعرّضت لانتقادات حادّة من الجهات العقائدية التي استنكرت تفضيل سيفيرت مشاعر الحبّ علي واجبات الثورة. وكان سيفيرت يردّ بالقول إنّ هدف الثورة الأعلى هو إسباغ السعادة علي قلوب الكادحين، وليس أكثر من الحبّ قدرة علي استثارة تلك السعادة... حتى قبل انتصار الثورة! ومن المدهش أن المجموعة الأولي تلك كشفت قدرة سيفيرت علي تحقيق حالات شعورية بالغة الكثافة، عن طريق تبسيط موقف إنساني عادي، وإبرازه في شرط طبيعي مألوف للغاية. ولقد سُحر الكثير من الشعراء، ممّن يفوقون سيفيرت تجربة وسنّاً، بهذه الطاقة الفريدة علي مزج التعقيد (الإيقاعي والبلاغي) بالتبسيط (في مستوي الموضوع واللغة). وفي مطلع العشرينيات أصبح سيفيرت الرائد والمحرّض في حركة أدبية وفنّية أطلقت علي نفسها اسم (ديفييتسيل). والكلمة مشتقة من اسم زهرة برّية أو عشبة طبّية، وتعني حرفياً (القُوي التسع). وفي البيان التأسيسي قالت الحركة إن (الإبداع الإنساني يقف اليوم وجهاً لوجه أمام المهمة الكبرى في إعادة بناء العالم من جديد. والشعراء والمفكرون يسيرون كتفاً إلي كتف مع الجنود الثوريين. المهمة واحدة، والطريق إلي الغد هو ذاته. وإنّ فنون البارحة، سواء أطلقنا عليه اسم التكعيبية أو المستقبلية أو الأورفية أو التعبيرية، اعتبرت أنّ الشيء بذاته يظلّ هو الجميل، واكتفت بذلك). وبالطبع كانت حركة (ديفييتسل) تدعو إلي تجاوز أقنوم (الشيء بذاته)، وتطالب بفتح الإبداع علي الحياة الإنسانية، بل واستيحاء حيوية الأشكال من حيوية الحياة. وبمرور السنوات كان من الطبيعي أن تتجاوز اهتمامات سيفيرت النطاق العقائدي التأسيسي الذي قامت عليه الحركة، خصوصاً حين أخذ تأثيرها ينحسر تدريجياً لصالح حركة أخري هي (الشعرية). وفي غضون ذلك عكف سيفيرت علي ترجمة الشعر الروسي (ألكسندر بلوك) والفرنسي (بول فيرلين وغيوم أبولينير)، وقام برحلة أوروبية طويلة زار خلالها فيينا وجنوب إيطاليا ومرسيليا وباريس. وفي عام 1929 وقّع، مع تسعة من الأعضاء البارزين في الحزب الشيوعي، عريضة تستنكر سياسات الحزب في ميدان الثقافة، فأسفرت عن فصله من الحزب ومن حركة (ديفييتسيل) أيضاً. غير أنّ الموضوع السياسي تواصل في مجموعات سيفيرت اللاحقة، فكتب مجموعة مكرّسة لرحيل توماس غاريغو ماساريك، الفيلسوف ورجل الدولة وأوّل رئيس تشيكي، ثم أخري تصف اعتمالات المجتمع التشيكي قبيل صعود النازية، وأصدر ثلاث مجموعات أثناء الاحتلال الألماني لتشيكوسلوفاكيا (ولعلّ هذه المجموعات بالذات هي التي أكسبت سيفيرت لقب (شاعر الأمّة)). وكانت القصائد تعرب عن عشق الوطن وعشق المكان وعشق اللغة في آن معاً، وكانت بمعني ما تتغنّي بفكرة العشق في ذاتها، فأقبل الجمهور عليها بشغف، وكُرّس سيفيرت (شيخ الشعراء) التشيكيين بلا منازع. بعد التحرير واستلام الحزب الشيوعي الحكم في البلاد سنة 8419، تعرّض الشاعر لهجمات منظمة من جانب الصحافة الحزبية وأنصار مذهب الواقعية الاشتراكية، فانسحب من الحياة العامة وتفرّغ للترجمة، وكانت ترجمته ل (نشيد الإنشاد) أبرز ثمار هذه المرحلة. غير أنّ مناخات الحرية النسبية، التي أعقبت انعقاد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفييتي ونشر تقرير خروتشيف الشهير، سهّلت عودة سيفيرت إلي الأضواء وتمكّن النقّاد من إيجاد أكثر من ثغرة لإعادة الاعتبار إلي شعره. وفي هذا الطور أخذ شعره يميل إجمالاً إلي الأغنية والقصائد القصيرة والسونيتات، وتوطدت أكثر فأكثر انحيازاته المبكّرة إلي الأوزان والقوافي والألعاب اللفظية، ولكنه واصل استخدام شكل الشعر الحرّ الذي كان قد اختاره منذ مطلع الأربعينيات. وكان من الطبيعي، الآن وقد ترسخت مكانته الأدبية والسياسية وسط أجواء الحرية تلك، أن يحصد سيفيرت أرفع الجوائز الوطنية، وأن يتفرّغ أكثر للتجريب الهادئ ولمقاربة الجماليات التي كانت تلحّ عليه دائماً، وظلّت ظروف بلاده تحول بينه وبين تلمّسها في النصّ الشعري. وبعد (ربيع براغ) والاحتلال السوفييتي لتشيكوسلوفاكيا عاد سيفيرت إلي اعتكافه، دون أن ينسحب من واجباته في الدفاع عن الكتّاب المضطهدين لأسباب حزبية أو سياسية (كان، علي سبيل المثال، أحد المشاركين في صياغة (ميثاق 77) الذي أنذر بالمتغيّرات القادمة العميقة في الحياة السياسية التشيكية). وفي هذا الطور ظهرت ترجمات لأشعاره في بريطانيا والولايات المتحدة وكندا، فلفت الانتباه سريعاً، وأخذ اسمه يتردّد في المحافل الأدبية الدولية (وليس دائماً في سياق بلاغة الحرب الباردة)، حتى نال جائزة نوبل. *** هنا مختارات من قصائده المبكّرة. مدينة مالكي المصانع، والملاكمين، والمليونيرات، مدينة المخترعين والمهندسين مدينة الجنرالات، التجّار، والشعراء الوطنيين مدينة الآثام السوداء التي فاقت حدود سخط الله: حتى غضب الله. مئات المرّات هدّد المدينة بالانتقام، مطر من الكبريت، والنار، والصواعق النازلة، ومئات المرّات جنح الله إلي الشفقة. ذلك لأنه كان يتذكّر دائماً ما سبق أن وعد به: أنه كرمي لاثنَين من الرجال العادلين، لن يدمّر مدينته وينبغي الحفاظ علي قوّة الوعد الطيّب: ففي تلك الساعة عبَر الحديقةَ عاشقان وتنشّقا ضوع الزهر في شجيرات الزعرور. تذكّرْ حكمة الفلاسفة: الحياة ليست أكثر من برهة. ولكن كلما تحتّم أن ننتظر الحبيبات فإنّ الحياة تنقلب إلي أبدية. نلوّح بمنديل عند الرحيل، في كلّ يوم ينتهي شيء ما، شيء ما جميلٌ ينتهي. الحمام الزاجل يضرب الهواء، عائداً؛ بأمل أو بدون أمل، لا بدّ لنا من عودة. إذهبْ وجفّفْ دموعك وابتسمْ بعينين محتفظتَين بالألَق، ففي كلّ يوم يبدأ شيء ما، شيء ما جميلٌ يبدأ. مولودة من طنين القفير ومن رائحة الزهور، شقيقة العسل الصغرى، المستحمّة ساعاتٍ في العسل المرفوعة من حَمّام الضوع ذاك بأيدي الملائكة وفي شهر العشق ينسج النحل ثنايا أثوابها. وعندما ينهار رجل ميّت أمام أقدامها مثل لائذ إلي قطار من الظلال السوداء عندها تمشّط الشمعةُ عُرفها وعلي امتداد جسدها الشمعي تنزلق دمعة محمرّة: تعال معي، أيها المغادر العزيز، فراشك ينتظرك هاهنا. ثانيةً ترسل الأرض عُصاراتها إلي العرائش الواطئة لهذه الأرض الحجرية. وإذا نَجَت النباتات الفتية من التقليم، فإنها ستسعد بمَدّ أيديها المورقة مثل متسوّلين يأملون بقطعة نقدية مشمَّسة. أيتها القرى الساحرة التي تعطي الصيت والاسم لهذه العصارات الجذلة المنتفخة في أعناب تُحني الأغصان النحيلة. إنه شهر نيسان الآن، وقطرات الدم القرمزي مرشوقة علي الأثواب والأيدي. ويا أعناب أسبانيا، مَن ذا الذي سوف يقطفك آنَ يتوقّف القتال في هذه الأرض؟ جميلة مثل زهرة منقوشة علي جَرّة هذه الأرض التي حملتكَ، ووهبتكَ الحياة. جميلة مثل زهرة منقوشة علي جَرّة، أحلي من رغيفٍ خَبَزْتَهُ بدقيق الأرض الطازجة وتغرز فيه مديتكَ، تغرزها عميقاً. مرّات لا حصر لها انكسر قلبُكَ، وتصدّعت أمانيكَ، وكنتَ، أبداً، تعود إليها. مرّات لا حصر لها انكسر قلبكَ، وتصدّعت أمانيكَ، وإلي هذه الأرض الثرّة المطيّبة بالشمس كنتَ تعود فقيراً مثل الربيع في حفرة الحصباء. جميلة مثل زهرة منقوشة علي جَرّة ثقيلة مثل ذنوبنا التي لن تُمحي ولن تصيب الذكري بالتسوّس. وفي النهاية، حين تدنو ساعتنا الختامية في طينها المرير سوف نغفو. لديّ نافذة يدلف منها نهار ربيعي عائم مثل قارب ذي راية حمراء، سابح علي صفحة النهر، ولديّ كلب له عينان إنسيّتان ولديّ دفتر أزرق مدوّنة فيه أسماء ثلاث وثلاثين صبيّة. ... ذلك يجعلني لا أنسي صندوق تلميع الأحذية الفارغ والمزهرية الحزينة الناشفة علي حافّة النافذة والزهرة في عروتي والدموع في عينيّ. The Poetry of Jaroslav Seifert." Trans from the Czech by Ewald Osers, edited with prose translations by George Gibian Catbird Press, North Heaven .1998
|