هذه، حتى إشعار طويل علي الأرجح، أفضل انطولوجيا باللغة الإنكليزية عن المشهد المعاصر لشعر المرأة العربية، وهي استطراداً واحدة من أفضل الأنطولوجيات التي تعكس الخصائص الأعرض لتيّارات وأساليب وموضوعات الشعر العربي بصفة إجمالية أيضاً. وفي وسعنا أن نصدّق نتالي حنظل، محرّرة هذا المجلّد الثمين والشاعرة الفلسطينية الأصل والأمريكية الجنسية، حين تروي في المقدّمة الأولي صعوبات العمل البحثي الذي توجّب أن تقوم به من أجل استكمال مشهد بانورامي ما أمكن، وكيف اضطرت ــ من أجل الاتصال بالشاعرات علي سبيل المثال ــ إلي القيام بما يشبه المطاردة من بلد إلي بلد، ومن قنصلية إلي أخري، ومن مهرجان شعري هنا إلي مكتبة أو دار نشر هناك.
الصعوبات الأخرى، كما في وسع المرء أن يتخيّل بسهولة، كانت تدور حول معايير اختيار القصائد علي نحو أمين يمثّل صاحبة الشعر في الحدود الدنيا المقبولة من جهة، كما يقدّم للقارئ الغربي نماذج شعرية تعكس ما يعتمل في الشعر العربي المعاصر من خصائص فنّية وموضوعاتية من جهة ثانية. أمّا مشكلات العثور علي مترجمات ومترجمين، والاتفاق معهنّ ومعهم، ومراجعة النصوص المترجمة علي حدة، ثمّ مراجعة الانطولوجيا كاملة بهدف إسباغ تجانس عامّ علي بُنيتها اللغوية، فإنها من نوع المشكلات التي تجمع بين العمل التقني الصرف وضرورات اتخاذ قرارات ذات شأن خطير حول خيارات ترجمة ثقافة النصّ وخصائصه الحضارية وليس لغته وحدها.
وبالطبع ثمة الكثير الذي يُقال في امتداح الترجمة، وثمة أيضاً ما يُقال في نقدها، وليس هنا المقام المناسب للقيّام بأيّ من هذَين الإستحقاقين. غير أنّ الإنصاف يقتضي القول، مراراً وتكراراً، إنّ المهمة لم تكن يسيرة في الأساس، وهذه السلاسة اللغوية الخاصة التي تتبدّي في إنكليزية القصائد المترجمة علي اختلاف المترجمات والمترجمين ليست تحصيل حاصل في الواقع، وبصرف النظر عن براعة المترجمة أو المترجم، بل هي بعض مظاهر الجهد التحريري الشاقّ الذي بذلته حنظل في المراجعات الختامية للترجمة.
وشعر النساء العربيات: أنطولوجيا معاصرة
(1) مجلّد يضمّ أكثر من 200 قصيدة، بين قصيرة ومتوسطة وطويلة، لـ 83 شاعرة عربية، أو عربية الأصل ولكنها تكتب بالإنكليزية أو الفرنسية أو الأسبانية أو السويدية. وباستثناء السودان وعُمان، لأسباب لا تشير إليها حنظل صراحة ولعلّها تدور حول عدم توفّر نصّ شعري نسائي متقدّم في هذين البلدين، فإنّ الانطولوجيا تشمل جميع البلدان العربية.
من المغرب وفاء العمراني وزهرة المنصوري، ومن الجزائر حبيبة محمدي، ومن تونس فضيلة الشابي وآمال موسي وأمينة سعيد ونجاة العدواني، ومن ليبيا فاطمة محمود، ومن مصر أندريه شديد وصفاء فتحي وهدي حسين وبولين كلدس وفاطمة قنديل وإيمان مرسال، ومن اليمن هدي أبلان، ومن الإمارات العربية المتحدة نجوم الغانم وظبية خميس وميسون صقر القاسمي، ومن قطر زكية مال الله، ومن الكويت سعدية مفرح وسعاد الصباح، ومن السعودية فوزية أبو خالد وثريا العريض.
في المشرق العربي تحتلّ فلسطين حصّة الأسد: ليلي علوش، س. ف. عطا الله، سهام داود، سهير حماد، نتالي حنظل، دنيا الأمل إسماعيل، أنماري جاسر، سلمي الخضراء الجيوسي، نداء خوري، ليزا سهير مجج، راوية مرة، نايومي شهاب ناي، ميكائيلا راين، ناديا هزبون رايمر، دوريس صافي، ليلي صالح، منية سمارة، مي صايغ، غادة الشافعي، ديما شهابي، سمية السوسي، فدوي طوقان، ولورين زارو ـ زوزونيس.
لبنان، بدوره، يشغل موقعاً واسعاً في الأنطولوجيا: ألماظ أبي نادر، إيتل عدنان، تيريز عواد، كلير شبيلي، ندي الحاج، ديما هلال، عناية جابر، جوانا قاضي، فينوس خوري غاتا، د. هـ.
ملحم، برندا موسّي، هدي النعماني، أديل ني جام، سكينة شابن، ناديا تويني، أميرة الزين، وصباح الخراط زوين. العراق، من جانبه يبدو مظلوماً بعض الشيء، وإن كانت الأسماء التي اختارتها حنظل هي المتواجدة في الساحة عملياً: لميعة عباس عمارة، أمل الجبوري، نازك الملائكة، دنيا ميخائيل، وميّ مظفر. من سورية نقرأ عائشة أرناؤوط، مني فياض، مهجة قحف، مرام المصري، هالا محمد، سلوي النعيمي، سنيّة صالح، غادة السمان، لينا الطيبي. والأردن، أخيراً، تمثله زليخة أبو ريشة، ليلي حلبي، ثريا ملحس، ومني السعودي.
ولا بدّ من الإشارة إلي أنّ طغيان الأسماء من فلسطين ولبنان (40 من أصل 83) عائد إلي أنّ الغالبية الساحقة من الشاعرات يكتبن بالإنكليزية أو الفرنسية. وقد يبدو هذا الأمر مشروعاً من حيث المبدأ، خصوصاً وأنّ الأنطولوجيا لا تقتصر علي الشعر المكتوب باللغة العربية وحدها. غير أنّ المرء كان سيسامح حنظل لو أنها أغفلت بعض الأسماء الفلسطينية واللبنانية الأمريكية بصفة خاصة، ليس لأنها لا تستحقّ التمثيل في الأنطولوجيا، بل لأنّه تتوفّر في اللغة الإنكليزية أنطولوجيات أخري مكرّسة تماماً للشعر الأمريكي ـ العربي (2) ، وكان في وسع المحرّرة أن تضحّي ببعض الشاعرات هنا وهناك، في سبيل منح المساحة للمزيد من الشاعرات العربيات اللواتي يكتبن باللغة العربية.
والحال أنّ حنظل تعترف بشيء قريب من هذا التقصير حين تعتذر عن عدم إدراج الشاعرة الإماراتية خلود المعلا والشاعرة السعودية أشجان الهندي، بسبب ضيق الوقت وضرورة إصدار الأنطولوجيا كما تقول، ولكن أيضاً بسبب ضيق المساحة كما نرجّح. وعلي سبيل المثال، ثمة نقصان فادح في أيّة أنطولوجيا تسعى إلي تمثيل الشعر النسائي السوري المعاصر، ولكنها تغفل شعر دعد حداد. كذلك كان المزيد من البحث، الأكثر صبراً ومشقّة بالطبع، سوف يقود المحرّرة إلي شاعرة معقولة واحدة ــ في أقلّ تقدير ــ من السودان وعُمان، بحيث يكتمل المشهد الجغرافي وراء هذا المشهد الشعري المعقد والمتنوّع والخصب حقاً.
وعن هذا المشهد تكتب نتالي حنظل مقدّمة ممتازة مطوّلة، تمتد علي 62 صفحة، وتبرهن علي أنّ المحرّرة بذلت جهداً شاقاً لكي تلمّ بتفاصيل ما تنوي القيام به. وهي تقول في السطور الأولي من: إنّ المشهد الأدبي للشاعرات العربيات، خصوصاً في النصف الثاني من القرن العشرين، ينطوي علي الوفرة والتنوّع والتعارض، كما ينمّ عن غني في الأصوات والمخيّلة، ويعكس التطورات الهامة التي حدثت في العالم العربي، ثقافياً واجتماعياً وسياسياً وفنياً. والكاتبات العربيات أسهمن في، وعبّرن عن أنفسهنّ من خلال، جميع أجناس الكتابة تقريباً: النظرية النسوية، الأدب والنقد الاجتماعي ـ الثقافي، المسرح، الأدب القصصي وغير القصصي، الشعر، وما إلي ذلك.
كذلك تتوقف حنظل عند الدور الخاصّ الذي تلعبه في الوجدان العربي الكلمة بصفة عامة، والشعر بصفة خاصة، وهي تعود إلي نماذج النساء وليلي العامرية ورابعة العدوية وليلي الأخيلية وولادة بنت المستكفي. ثم تقدّم لمحة تاريخية عن الكاتبات العربيات وشروط الكتابة النسوية في العالم العربي، وتشير إلي أدوار نساء من أمثال زينب فواز وميّ زيادة وملك حفني ناصف وعائشة التيمورية وهدي شعراوي، وأدوار طائفة واسعة من المجلات الأدبية التي احتضنت الإبداع النسائي العربي، من مجلة الفتح التي تأسست في الإسكندرية سنة 1892 إلي مجلات حديثة ومعاصرة مثل نور و الكاتبة و هاجر ، مروراً بـ حواء و الحسناء .
وتنتقل حنظل إلي إطراء دور النساء العربيات في حركة التحديث الشعري، فتتوقف عند نازك الملائكة بصفة خاصة، ثمّ فدوي طوقان وملك عبد العزيز وسلمي الخضراء الجيوسي، وتستعرض بعدئذ المشهد الشعري النسائي في مصر، والمشرق (لبنان، سورية، فلسطين، الأردن، العراق)، والخليج العربي، وشمال أفريقيا، وصولاً إلي الشعر العربي ـ الأمريكي والعربي ـ الكندي. وثمة في آراء حنظل عن الشاعرات العربيات الكثير من الذكاء والمنهجية والإحاطة، والقليل من الإدّعاء التنظيري، ولا أثر البتة لتلك الحماقات الإستشراقية التي لا يقع فيها الغربيون وحدهم، بل أيضاً بعض العرب المغتربين حين يتنطحون لإنجاز مشاريع مماثلة.
وفي ختام مقـدّمتها تقــول حنــظل: لقد ناضــلت الشــاعرات العــربيات من أجل الحرية، ومن أجل عالم عــربي مستنـــير، ومن أجل الإعتـــراف الكـــوني، والسلام، والمساواة.
والشاعـرات العربيات شجّعن رؤية المستقبل بـــدل الماضي، دون الإنفكــاك عن الغني في مظاهر الماضي الأدبية. لقد توجهن صوب التراث العالمي، وتفاعلن مع الغرب ــ الولايات المتحدة، وأوروبا، والعالم بأسره. روحهنّ قوّة تغيير في عالم عربي غير مستقرّ. وتجريبهنّ في الشعر كان سبيلاً للتعبير عن الواقع، وكان استكشافاً للذات، وتساؤلاً عن علاقتهنّ بالعوالم الداخلية والخارجية، وأداة ناقلة للثورة والإرتقاء، حتى حين يكون ذلك التجريب سبيلاً للاشتغال اللغوي والشعري علي فنّهنّ الشعري.
وهكذا، وبسبب من الثراء الكبير في النماذج الشعرية التي تقدّمها هذه الأنطولوجيا، نستطيع تصديق الحماس الفائق الذي تبديه جوي هارجو، الشاعرة الأمريكية وأفضل ممثلات أدب الهنود الحمر في الولايات المتحدة، حين تقول: لا أستطيع وضع هذه الأنطولوجيا جانباً، وبودّي لو حملتها معي أينما ذهبت، بوصفها النصّ الذي يذكّر بالدور الحاسم الذي يلعبه الشعر في معركة بقاء الروح. إنّ الشاعرات العربيات هنّ صانعات واحد من أصفي أشعار عالمنا هذا . كذلك نصدّق حماس شاعرة أمريكية مرموقة أخري، أدريان ريش، حين تقول: أفق وطموح هذه المجموعة مرموق وضروري في آن (...) هذه قصائد عن الثورة والتطوّر، نابعة من تقليد شعري قديم وغنيّ في اللغة العربية، وهي، بالتالي، قصائد توسّع مساحة الشعر بذاته.
الشاعرة الأفرو ـ أمريكية جون جوردان تذهب أبعد حين تقول: إنجاز مدهش هائل! هذه الأنطولوجيا، التي تبدأ بمقالة نتالي حنظل الموسّعة والمفصّلة، تهدّم التنميطات التقليدية وتتيح للعالم بأسره أن يري ويسمع التعقيد والتوق الجبّارين في هذا الذي تقوله الشاعرات علي نحو لا يُنسي. نحن هنا نلتقي مع، ونعجب من، 83 شاعرة عربية... من الرؤيوية الكبيرة إيتل عدنان إلي اللبنانية الأمريكية الشابة ديما هلال. هذا اجتماع عالمي مدهش لشاعرات عربيات يكتبن منذ الربع الأوّل للقرن العشرين وحتى الآن.
وتبقي إشارة أخيرة إلي أنّ المحررة نتالي حنظل شاعرة حاضرة بقوّة في المشهد الشعري العربي ـ الأمريكي في الولايات المتحدة، وقد أصدرت مؤخراً مجموعتها الشعرية الأولي ذات العنوان المحيّر The Never Field، وهي تقضي وقتها بين بوسطن ونيويورك ولندن حيث تنهي أطروحة دكتوراه حول النظرية ما بعد الكولونيالية في جامعة لندن.
* ناقد من سورية يقيم في باريس
المصدر: القدس العربي
إقرأ أيضاُ