كسائر هذه الصباحات القارسة، تستيقظ شمسنا كما لو انها سفرجلة، دعكها الليل بفضة أقماره، تظن لمعانها أعطية الصباح لك، وما ان تخرج من الدار، حتى يتبين لك كم هي ثبنة":قد تمثل هذه القصيدة القصيرة الهاجس الأول للكتابة في "لا وصف لما أنا فيه"، المجموعة الخامسة للشاعرة الإماراتية نجوم الغانم الصادرة عن مؤسسة الدراسات العربية 2005، حيث ما تفعله نجوم هو الاشتغال على المكان والزمن والحدث كعناصر ثلاثة للتصريح عن وجود الآخر الذي يرافقها في كل لحظة مهما توارى في نسيج النص: "على المقهى الرصيفي / تحدثنا قليلاً/ راقبنا العربات وسائقيها/ المارة/ والمترجلين/ كان علينا احتساء قهوتنا سريعاً/ قبل ان تتدحرج أمواج الليل صوبنا/ وتضيعنا أبواب المدينة الغريبة". وهذا الاشتغال المهووس بالتقاط التفاصيل يقدم مكان النص كلوحة تزخر بمشاهد دقيقة وكثيرة التقطتها عدسة "فوتوغراف" محترفة: "ادركتنا السهام بنيرانها/ فاقشعرت أطيار المدينة/ وقرعت أجراس ساحة ماركو/ منادية العشاق والشحاذين الأنيقين/ انسابت أشرعتنا في امواه البندقية/ فيما ارتجت الأروقة مع فرقعات المهرجان...". والمكان ليس فضاء خارجياً محايداً بل هو هذا الاندماج بين الإرهاصات المتلمسة بدقة لخرائب الكون، وانعكاس هذه الإرهاصات على هذا الفضاء، تخبرنا نجوم ان وعينا للمكان وعي ملتبس غالباً ومرتبط في شكل مباشر بذواتنا المكتملة: "جاءت تقرأ مايكل انجلو/ من السقف حتى أخمص قدمي آدم/ رأسها ملقى فوق كتفيها/ وجسدها يلتف في دائرة بلا محور/ كانت مصلوبة في أيقونات الأروقة/ ولكنها سعيدة/ جاءت تتأمل القبة وملائكة الفردوس/ وتردد لحناً شرقياً".
ومثل انحيازها للمكان تنحـــاز نجـــوم للزمن أيضا، فزمن النص عندهــــا لا يخرج عن لحظة الكتابة مهما اقتربت ذاكرتها من الماضي. كأن هذا الماضي يصر على التشبث بحالة النص: "منذ متى؟/ لم يعد بإمكاني حتى استعادة الأزمنة/ وما عدت افهم/ لماذا علينا الانتحار في المدارات ذاتها/ ونحن نعرف ان أجسامنا تزداد هشاشة/ كلما رشقناها بالجراح/ ولماذا على الليالي/ ان تبيض في شيب الصباحات/ وتذبل سعفة المكان/ فلا يبقى لدينا ما نقتاته. ما تفعله هذه الذاكرة هو تقديم سؤال تلو آخر من دون إعطاء الفرص للإجابة التي تترك عادة للمستقبل، هذا الذي لا نلمحه إلا ما ندر في المجموعة، اذ تكثر نجوم من استخدام الأفعال الماضية التامة والناقصة وتقلل من الأفعال المضارعة بينما سين المستقبل تختفي تماماً، كأنها موشومة بكل المرارات والهزائم المتكررة، العامة والشخصية، التي التصقت بجيل الثمانينات والتسعينات الشعري وحولته جيلاً لحظوياً أو ماضوياً: "كثيرة كانت البيوت/ التي وطأتها أقدامنا/ قليلة الضحكات/ التي ظلت تحرس عودتنا/ طويلة/ أطول من صرخة في حلم كريه/ الليالي التي تركتنا ننطفئ في البكاء/ إما الأزمة التي سرقنا مفاتيحها/ ليمكننا ان نحتمي بجدرانها، أو نتحدث إليها عن دواخلنا/ فلكم كانت قصيرة". ولزمن النص عند نجوم تفاصيله التي تؤثث له، فالماضي امتداد للحاضر بفصوله وصباحاته ومساءاته وأطيافه وذاكرته وبأخاديده التي انطبعت فوق الروح والجسد: "أفتش في عتمة المخيلة/ عن آخر مرة وضعت فيها/ رأسك على كتفي/ ودعوت البحر ليقرأ أعيننا/ وجدتك قصيا/ ووجدت أطيافنا تنهض وتختفي كالغبار/ لا ملامح لأجسادنا فوق الرمل/ لسنا هناك/ ولم يعد لنا مكان هنا".
نص نجوم في هذه المجموعة متحرك وقلق ولا يستكين، فهي تنتقل في لغتها من التعبير العادي إلى الخيال بحركة افعال متلاحقة تنوب عن الصفات. فالفعل أخبار ووصف يكوّن الحدث الشعري الذي يجعل النص يقترب في شكل ما من السرد الرفيع الذي ينتهي فجأة وكأن نجوم، الشاعرة المأخوذة بالدهشة، تقف لتراقب رد فعل القارئ في نهاية كل مقطع: "أتأمل شفتيه/ اللتين لم تبادلاني السلام/ منذ رتل من الزمن/ وأحار في كل تلك العصور/ التي تقاسمنا أرغفتها وقبلاتها/ حتى الأحجار/ تعرفنا من أصواتنا/ واستغرب لماذا لم تعد/ عيناي تحتملان هذا البصيص الضعيف/ من الأضواء أو اتذكر/ إنني سهرت الأمس/ واليوم الذي قبله/ وقبله/ وقبله/ وإنني كنت أجهش في العتمة وضوء النهار/ وما من أحد على الإطلاق/ تساءل لم كل هذا الألم".
في هذا المشهد شبه المتكامل للنص تأتي الشخصيات ليبدأ الحوار. هكذا تكمل نجوم مشهدها الشعري/ السينمائي بامتياز/، والشخصية قد تكون لوحة ما، وقد تكون الحياة، وقد تكون عناصر الطبيعة، وقد تكون نجوم نفسها، ولكن في الغالب الشخصية هي الرجل، الآخر المعادل لها، والسائر معها في الخط البياني الصاعد للحظة الشعرية. تصرح نجوم انها تحبه وان ذاكرتها ممسوكة به، وتعاتب غيابه وصدوده ويؤرقها انتظارها الطويل له،من دون ان تسقط لغتها في فخ التذلل والدونية والذوبان. فضرورته لا لوقايتها، ضرورته لاكتمالها واكتمال لغتها ونصها: "لو انك جئت/ نشبك أصابعنا في هذا الصباح/ أو نخادع الشمس قبل ان تسرق منا قمصاننا/ ربما استعدنا قبلاتنا/ أرخنا بعض الأحاديث كي لا تعاتبنا الأزمنة/ ربما تداركنا جنيات الرؤى قبل ان يطفئها النهار/ لكنك لم تجيء".
هنا يكتمل السيناريو الشعري تماماً، وتكتمل لحظة النص، في كل تفاصيل عناصره، ليكون الكتاب بصفحاته المئة والسبعين، وبعناوين قصائده الكثيرة، الأساسية والفرعية، مشهداً كاملاً يبدأ بالعنوان "لا وصف لما أنا فيه" وينتهي بالنص الأخير: "الأرض تفتح فمها لخطواتنا/ وأسرارنا/ متهيئة لدفن تفاصيلنا/ متهيئة لأخذنا معها".
الحياة
16-6-2005
إقرأ إيضاً