كاظم جهاد
(العراق/فرنسا)

relkaمن بين المطبوعات الكثيرة التي عطّل العدوان الإسرائيليّ الأخير على لبنان ظهورها كتابان للصديق كاظم جهاد كان من المقرّر أن يصدرا في منشورات دار "الجمل" في مطلع هذا الصيف. أوّلهما مجموعة شعريّة جديدة له تقع في ثلاثة أقسام وتحمل العنوان الشامل "معمار البراءة". والثاني يضمّ ترجمته للأشعار الفرنسيّة الكاملة للشاعر النمساويّ راينر ماريا ريلكه تقع في أربعمائة صفحة ونيّف، كان هو قد بدأها منذ ما يزيد على عشر سنوات ونشر صفحات منها في بعض المجلاّت العربيّة. وما إن وضعت الحرب أوزارها حتّى استعادت المطابع اللبنانية عملها، وقد اكتمل طبع الكتابَين ومن المنتظر أن يتواجدا في المكتبات في الأيّام القليلة القادمة. هنا مقطع من تقديم كاظم جهاد لترجمته لريلكه، يليه نصّ مقدّمة الشاعر السويسريّ فيليپ جاكوتيه للإنتاج الشعريّ الفرنسيّ لريلكه، بها أيضاً يمهّد جهاد لهذا العمل.

من مقدّمة المترجم
هذه التّرجمة للديوان الفرنسيّ للشاعر النّمساويّ راينر ماريا ريلكه Rainer Maria Rilkeجاهزة منذ أواسط العقد التّسعينيّ من القرن المنصرم. نشرتُ صفحات عديدة منها في المجلّة العُمانيّة "نزوى"، في عدها الثّاني عشر، الصّادر في تشرين الأوّل/أكتوبر 1997، وصفحاتٍ أُخرى في أعداد متفرّقة من جريدة "القدس العربيّ" الصّادرة في لندن، في العام نفسه. ولم أنشرها كاملةً لحدّ الآن، لأنّني كنت أعتبر أنّها ينبغي أن تحتلّ مكانها الطّبيعيّ في خاتمة المجلّد الضخم، الذي أهيّؤه منذ سنوات، والذي صرفتْني عنه مشاغل عديدة ومصاعب جمّة، ولكنّني أعود إليه باستمرارٍ باعتباره المركز الأعمق والأكثر اضطراماً لرغبتي في ترجمة الشّعر. في هذا المجلّد أجمع ترجماتي لأشعار ريلكه الكبرى المكتوبة بلغته الأمّ (الألمانيّة)، وكنتُ قد نشرتُ منها هي أيضاً صفحاتٍ عديدةً في المجلاّت الأدبيّة العربيّة، وأدخلتُ عليها في الآونة الأخيرة تنقيحات معتبرة. لكنّ بطئي الاضطراريّ في إنهاء هذا المشروع (الذي قد يرى النّور في العام القادم) جعل العديد من الأصدقاء والقرّاء يطالبونني بإلحاحٍ شديد التأثير بإصدار ترجمتي لأشعار ريلكه الفرنسيّة بلا تأخير، لما استعذبوه فيها من عوالم ومعالجات شعريّة. وإنّما نزولاً عند رغبتهم أتقدّم بهذه التّرجمة بعدما أعدتُ النّظر فيها، مؤكِّداً، من جديد، على المكانة الخاصّة التي تتمتّع بها هذه القصائد ضمن آثار ريلكه الواسعة، مكانة يمكن نعتها بالهامشيّة والأساسيّة في آنٍ معاً، بمعنى تتكفّل مقدّمتا هذا العمل بإيضاحه بصورة أعتقد أنّها وافية.

تقديم فيليپ جاكوتيه
إنّ السّؤال الذي يخترق خاطر ريلكه في قصر دْوِينو Duino، في كانون الثاّني/يناير 1912، والذي يدشّن المرثيّة الأولى من "مراثي دْوِينو" هو التالي:
"مَنْ إذا ما صرختُ سيَسمعني
في مراتب الملائكة...؟"
هذا السّؤال المعبّر عن قلق الانقطاع بين السّماء والأرض، قلق الغناء الذي لا صدى له، قلق المَناحة الهائمة والصّرخة التّائهة، كان ريلكه قد عرفَ على الفور أنّه، أي السّؤال، مقيم في قلب عمله، وأنّه حولَه سيتمحوَر وينتظم لا شعره فحسب بل حياته نفسها. من هنا الأهميّة الني محضَها بادئ ذي بدء لمشروع "مراثي دْوِينو"، الذي لم يفعل هو في 1912 سوى أن بدأ به ووضعَ تصميمه الأوّليّ. والحال، ما إن تداعت وثبة تلك البداية حتّى بدا له صوته وهو يختنق. كما لو لم يعد قادراً لا فحسبُ على الغناء والاحتفال بالأشياء كما كان يودّ، بل حتّى على الشّكوى والتساؤل، لا بل حتّى على التلعثم: وذلك، وكما كان يعتقد عن حقٍّ، لافتقاره إلى علاقة تبادليّة مع العالَم، أي مع الخارج، وإلى حبّ. وإنّ الحرب، التي تمنح، ببالغ الفظاظة والقسوة، صورة ملموسة لانتهاء التبادل أو لاعتكاره، قد أفلحتْ في اقتياد هذا الشّاعر، المطبوع على الغزارة، إلى الصّمت المطلق. حتّى جاء السّلام العائد وشيء من التّوازن المستعاد ليتُيحا، أخيراً، في شباط/فبراير 1922، في حماية جدران برج موزو Muzot، وبعد انتظارٍ دام عشر سنوات، الاكتمال الظّافر لـ "مراثي دْوينو"، التي جاءت لتُثريها إضافة غير مأمولة تتمثّل في "سونيتات إلى أورفيوس".
في أسوأ لحظات التأزّم الدّاخليّ، وحتّى في التشّتت الظّاهريّ النّاجم عن كثرة الأسفار، عرفَ ريلكه، طيلةَ الأعوام الممتدّة من 1912 إلى 1922، كيف يبقى "متمركزاً" على الدّوام، وذلك بفضل هذه الإرادة الرّاسخة في إكمال سلسلة "المراثي"، أي، في حقيقة الأمر، في الإجابة، بشاكلة أو بأخرى، على السّؤال شبه اليائس الذي يشكّل منبعها. وما إن اكتمل العمل، ومع أنّه كان قد عثر في موزو على مرفأ للرسوّ وعلى ما يشبه وطناً، فهو قد ألفى نفسه، وبصورة مُفارِقة، كمثْل المحروم من كلّ مركز. كان ولا شكّ مسترخياً، سعيداً وفخوراً قبل كلّ شيء آخر، وشاعراً بالتخفّف، ولكن، وفي الأوان نفسه، أكثر عوَماناً، وأكثر تجرُّداً من السّلاح. وعندما سيأتي المرض، فسيَشعر هو بالذّهول المُطبق وانعدام الحيلة.
وإلاّ فإنّنا عاجزون عن أن نهب تفسيراً آخر لكونه استطاع أن يكرّس كلّ هذا الوقت وكلّ هذه الجهود لترجمة ڤاليري Valéry (شاعر هو، علاوةً على ذلك، غير قريب شعريّاً من ريلكه)، ولكونه وجدَ هذا القدر من المتعة في محاولة الكلام بلغة أخرى غير هذه التي كان هو نفسه قد أوصَلها، على حدّ تعبير موزيل Musil، إلى مثْل هذه الدّرجة من الكمال.
أمّا وقد قلنا هذا، فلا أكثر طبيعيّة من أن يكون ريلكه، وقد قرّر، في تلك اللحظة الأكثر استرخاءً وشروداً في حياته، أن يتخلّى، على سبيل اللّعب، عن لغته الأمّ، أقول لا أكثر طبيعيّة من أن يكون قامَ بذلك لصالح الفرنسيّة. لا فحسبُ كانَ قد أقرّ منذ زمنٍ طويلٍ بالدَّين العميق الذي يدين هو به لفرنسا منذ أُولى إقاماته في باريس اعتباراً من 1902، بل كانت الحرب [العالميّة الأولى] قد أحالت العالم الجرمانيّ، وعلى نحو محسوس، أكثر غربةً عنه ممّا كان عليه بالأمس. ومنذ استقراره في موزو، وإقامته في بلد ناطق بالفرنسيّة، اتّجه انتباهه أكثر من أيّ وقت مضى إلى فرنسا، في الوقت نفسه الذي كانت فيه هذه الأخيرة، بفضل ترجمة [كتابه النثريّ الأساسيّ] "دفاتر مالت لوريدس بريغه" على يد موريس بيتز Maurice Betz، وبفضل [جهود] أندريه جيد وپول ڤاليري وإدمون جالو وآخرين، قد بدأت تكتشفه وتكرّمه، ممّا أثار بالطّبع فرحه بالبالغ.

* *

يبدو أنّ ألمانيا قد شهدتْ، بعد ظهور "بساتين" Vergers [مجموعة ريلكه الأولى المكتوبة بالفرنسيّة] إلى النّور، "تحرّكات مختلفة"، يسِمها قدر من الإلحاح، خصوصاً من لدن النّاقد إدوارد كورّودي Edouard Korrodi من مدينة زوريخ، تطالب ريلكه بتفسير المغزى والأسباب الكامنة وراء وضع هذا العمل الذي يصفه [هو نفسه] بـ "الهامشيّ". كتبَ له ريلكه خصوصاً: "إذا نجمَ عن هذا أنّ منتخبات (قام بها أصدقائي) من أشعاري الفرنسيّة موعودة بصدور قريب، فلأنّ سلسلة من الظّروف دفعتني إلى هذا الوفاق وإلى هذه المخاطرة. وفي أوّلها الرّغبة في أن أتقدّم لكانتون الڤاليه بشهادة عرفانٍ تتجاوز المجال الشخصيّ المحدود عن كلّ ما تلقّيته (من هذا البلد وأناسه). أضف إليها رغبتي في الارتباط، بصورة أكثر وضوحاً للعيان، وبصفتي تلميذاً متواضعاً وَمديناً عديم التّواضع، أقول الارتباط بفرنسا وبباريس اللاّ تُضاهى، فهما تشكّلان في تطوّري وذكرياتي عالَماً كاملاً. وفي خلفيّة هذا كلّه تقوم فكرة مفادها أنّه ربّما لن يتهيّأ لشعري أبداً ما تمّ تحقيقه منذ فترة بنجاحٍ لنثر كتابي "دفاتر مالت لوريدس بريغه": هذا النقل الأمين حقّاً والشّرعيّ، الذي قام به موريس بيتز (منشورات إميل-بول، Paris, rue de l’Abbaye 14). فلعلّ المعرفة التي تُنال عن عملي عبر هذه التّرجمة يمكن في خاتمة الحساب أن تجد في أبياتي الفرنسيّة (حتّى إذا لم يجد فيها الآخرون أكثر من "شيء طريف") تكملة أفضل من هذه التي يأتي بها أيّ مجهود يُبذل لإعطاء البنية الألمانيّة لقصائدي النّاضجة صيغة فرنسيّة تقريبيّة وغير عالية التّشخيص". (بصدد هذه النّقطة الأخيرة، ومهما تكن الصّعوبة في ترجمة قصائد ريلكه، التي لا بدّ أن يكون أحسّ به كلّ من حاول القيام بذلك، لا أحسب أنّه كان على حقّ). أمّا وقد قلنا هذا كلّه، فينبغي أن نحاول قراءة هذا العمل الهامشيّ انطلاقاً من نظرة عادلة، فلا نبالغ أهميّته، ولا نخفض من قدْره.

* *

"هذا المساءَ يدفعُ قلبي إلى الغناء ملائكةً تتذكّر صوتٌ، كأنّه صوتي، بوفرةٍ من الصّمتِ مَغويّ، يُحلّق ويقرّر ألاّ يعود أبداً؛ في حُنوِّهِ وفي جَراءته بِمَ هُوَ ذاهبٌ لِيَتَّحدَ؟"

هذه هي القصيدة الأولى من "بساتين" Vergers، كتبَها في الأوّل من شباط/فبراير 1924. وهي تعبّر، في ضرب من الفرح المندهش والمترع بالعرفان، عن كون الشّعر يعاود الانطلاق وعن أنّ الصّمت قد انْكسَر. عن أنّ النّفَس والحياة يعودان، لريلكه كما لشعراء آخرين كثيرين، لأنّ الواحد قد كفّ عن الانحباس في ذاته. صحيح أنّه ليس أكثر من صوتٍ "كأنّه صوتي"، وأنّه راجفٌ نوعاً ما، قليل التّطامن وواهن، وقد يكون مسرفاً في رقّته. إلاّ أنّ السّؤال الذي يثيره هو إذْ يعلو على هذه الشّاكلة ويسمع نفْسَه وهو يصّاعد ثانيةً "كيلا يعود"، أي "مجازِفاً بنفسه"، هو التالي: أليس هو الصّدى الواهي، والشرعيّ، لذلك الصّوت الأفخم والأكثر توتّراً بما لا يُقاس، الذي به دُشِّنت، قبل اثنتي عشرة سنة من ذلك، أُولى "مراثي دْوينو" المستشهَد بها أعلاه: "مَن إذا ما صرختُ سيسمعني..."؟ مرّةً أخرى، وحتّى في لحظة الشّروع بكتابة مجموعة قصائد هي أكثر تواضعاً وكذلك، في الظّاهر على الأقلّ، أكثر مجّانيّة، يطرح السّؤال نفسه: هذا الصّوت المتعالي كالدّخان، أتراه سيتبدّد في فضاء فارغ، أم قد تتوفّر، بين السّماء والأرض، إجابة ما، أو عودة؟
ما إن نواصل اجتياز "بساتين"، حتّى يتهيّأ لدينا الانطباع بأنّنا إنّما نفاجئ ريلكه في عمله السّريّ كشاعر: فما إن يتوفّر له النّبر حتّى يعاود الشّاعر النّظر إلى الأشياء حوله، ويستقبلها من جديد في بُعدها الأشمل و"تبادلاتها غير الملموحة". وفي أوّلها أقرب الأشياء، أشياء الحجرة التي يقف هو فيها: القنديل، وطاولة الطّعام، ويداه نفسهما (ومتعة العثور على المفردة paume: الرّاحة -راحة اليد-، فيما لا تملك الألمانيّة سوى تعبير مبتذل وشرحيّ: "باطن اليد"). في صمت القلب، هذا الصّمت المؤاتي، تبدو الأشياء كما لو كانت تتجلّى على حين غرّة، والحال إنّ المرء كان قد كفّ عن رؤيتها منذ زمن بعيد. أشياء لم تعدْ معزولة وصفيقة وفارغة وخرساء، بل مردودة إلى مكانها في شبكة أمواجٍ تتّسع حتّى لَتبلغ أنأى الكواكب، وهذا كلّه دون أن تفقد من تواضعها وهشاشتها.
عندما يكون المرء استعادَ على هذه الشّاكلة حُجرته، لا كمثْل قبرٍ أو معتقل، بل باعتبارها ملاذاً أو سكَناً، ففي مقدوره الخروج أيضاً إلى تلك الحُجرة الأخرى الأوسع والأكثر تنافذاً أو مَساميّة، عنيتُ البستان (هذا الشيء الذي يقول ريلكه إنّه بفعل اسمه الجميل وحده تعرّض هو لغواية الكتابة بالفرنسيّة). في مقدوره أيضاً أن يواصل، بفرحٍ أكثر فضائيّة، إعادة اكتشاف الشّبكة الكبيرة وشبْه غير المرئيّة التي تنسج الـ Weltinnenraum أي الفضاء المتواصل بين الخارج والدّاخل، الذي طالما تمثّل حلم ريلكه العميق في ولوجه، والذي دعاه هو في محلّ آخر بـ "الفضاء الملائكيّ".
وعليه، فإنّ هذا الصّوت الذي "كأنّه صوتي"، صوت شاعرٍ يقوم، لمرّة واحدة فحسب، باللّعب به، أي بالصّوت، أكثر ممّا بالعمل من خلاله، لا يخرج عن فضائه الشعريّ الخاصّ أبداً. وعندما لا يكتفي ريلكه بالتنزّه ببساطة في حجرته، وفي بستانه، وعلى مسالك كانتون "الڤاليه" هذا، الذي يناسبه لكونه "معلّقاً في منتصف الطّريق/ بين السّماوات والأرض"، وعندما يعمد إلى تعميق تأمّلاته، فإنّما يمارس ذلك على الأشياء نفسها التي طالما آثرَها هو لعثوره فيها على ما يشبه عُقَد هذا الفضاء: في أشعاره السّابقة، هي الشّجرة والنّافورة (التي تعاود الظّهور هنا مرّة أو اثنتين)، والآنَ هي راحة اليد، البالغة الشّبة بمهدٍ للكواكب التي لا تغادر راحة اليد دون أن تخلّف فيها آثارها، والمرآة، والوردة، والنافذة، أشياء لم تعد لتشكّل، في نظره آنئذٍ، مجرّد أشياء، بل هي محلّ علاقات معيّنة: الوردة التي يتبختر حولَها الفضاء "كمثْل طاووس"، الوردة التي هي محلّ "التناقض المحض": "قدّيسة عارية"، "موسيقى الأعين"، "خطوات عطِرة" وخصوصاً "نرجس محقَّق الأمنية"؛ والنافذة، التي، بإطارها، وفي ردّ بعيدٍ على مالارمه، تُقوّض "جميع الصُّدَف" وتنتصب كمرآةٍ أنصَع، ما دام انعكاس مَن يتمرأى فيها يمتزج بالعالَم المرئيّ خللَها. وهل ينبغي أنّ نشخصّ أنّ كلا الشّيئين، الوردة والنافذة، شأنهما شأن النّافورة والشّجرة، يشكّلان أنموذجين للقصائد، أي (هل من حاجة للتذكير بذلك؟) أنموذجين للوجود المليء؟ كذلك هو أيضاً، في محلّ آخر، قبر الطّفل هذا المُقارَب كمثْل "فاصل موسيقيّ" "نُنشد أغنية الصّيف" حوله...

* *

وعليه، فإنّ صوت هذه القصائد الفرنسيّة هو دائماً، وحتّى النّهاية، صوت ريلكه. لكنْ كيف تجد يا ترى "ترجمتها" هذه الـ "كأنّ" [أو "تقريباً" هذه]، هذا الانزياح بين الصّوت الأصليّ والصّوت "المُعار"؟
إنّها، وينبغي ألاّ نتستّر على ذلك، وكما هو حاصل في رسائل ريلكه المكتوبة بالفرنسيّة، غالباً ما تجد "ترجمتها" في تشديد للحذلقة، التي تظلّ تشكّل لدى ريلكه ثمَن إرهاف الحساسية. إنّه، [إذ يقف هكذا]، لاهياً وخفيفاً، كمثْل مَن يحمل قناعاً إلى حدّ ما، الآن وقد صار يلعب بلغة غير لغته، لا يفلت دوماً من المجازفة البديهيّة المتمثّلة، عند هذا المستوى الأقلّ رصانة [ممّا في بقيّة أشعاره]، أقول المتمثّلة في انقلاب الحذق إلى براعة، والرّهافة إلى تكلّف، والرّشاقة إلى شيء عاديّ. لكنّ المرح وعدم المبالاة يمكنهما أيضاً أن يصنعا من المجانيّة نعمة حقيقيّة، وبالمعنى الأرفع للمفردة، وأن يهبا ريلكه أخيراً، في هذه المهلة الوجيزة السّابقة للدّاء الذي سيختطفه، القدرة على "قول البسيط" مثلما انتهى به الأمر إلى تمنّيه، وعلى الاحتفال بالـ "هنا" بلا أبّهة زائدة، وبلا انخطاف، وكذلك على أن يُطلق عبرَ الفرنسيّة (كمثْل أخ بعيد لڤرلين Verlaine أو لسوبرڤييلSupervielle ) لحنَ النّاي هذا بين الأرض القاسية والسّماء التي ملؤها الصّحو:

"طرُقٌ لا تُفْضي إلى أيّ مكان بينَ حَقلين، كأنَّما، بِحِذْقٍ، عنْ غايَتها حُرِفَتْ، طُرُقٌ لا يكون غالباً أَمامَها شيءٌ آخَر سوى الفضاءِ الخالص والمَوسم."