تأخّر فيديل سبيتي بعض الشيء في نشر مجموعته الشعرية الاولى. وهو تأخّر بسيط مقارنةً بشعراء بارزين نشروا كتبهم بعد الثلاثين بقليل أو بكثير. وعندما قرر سبيتي إصدار "تفاحة نيوتن" عن "دار الجديد" اضطر الى التضحية ببعض القصائد. اذاً، تأخّر وحذف لا يُعدّان نافلين اذا قارنّاهما بتجارب أجيال سابقة أو اذا وضعناهما في سياق قرار النشر. لكنهما في النهاية أثمرا ملمحاً ونبرة خاصتين. شخصية النص لدى فيديل سبيتي تفترق عن معظم ما نشره أبناء جيله. ويمكن اختزال هذه الشخصية بالهذيان والتراكيب ومخيلة الرسوم المتحركة. في هذه القصائد التي كتبت تحت تداعيات السُكْر، يؤلّف الشاعر تهويماته في قصيدة تمتزج فيها البراءة بالسوريالية والمخيلة الطفولية بإنشاء تركيب لغوي مباغت ومتفلّت:
"كما أنتِ
وبقايا أمراض
الطفولة في وجهكِ
وأنا
وشارعي
وسذاجتي
وكلانا
والبيت
وأمهاتنا
وهكذا...".
نص كهذا يسعى الى أن يكون ملمحاً شعرياً وميزة يدمّران قواعد التعبير وعلاقات الكلمات بعضها بالبعض الآخر. وهذا كله لا يتم من خلال المحو والمونتاج فحسب، بل من خلال عكس الداخل على الخارج.
لا يكتب فيديل سبيتي قصيدة يومية ولا قصيدة قائمة على بنية لغوية وجماليات الصورة وبلاغة القول أو تقنيات السينما والتلفزيون والمشهد فقط (وإن كانت هذه الأدوات الأخيرة موجودة بنسب معينة في بعض النصوص). إنه بالعكس تماماً من هذه المسائل. قصائد "تفاحة نيوتن" لا تكتفي بنقل الخارج، بل تتعداه الى تسجيل العالم الجوّاني للشاعر حيث التمزّق والمشاعر المتضاربة والحيرة واللبس.
من هذا الاختزال ينشأ نص سبيتي معوّضاً الشعر بما كان سلبه إياه. أي الهذيان مكان اللغة والبلاغة والبنية. ويمكن القول استطراداً إن الهذيان الخلاّق يتجاوز عموماً الاستعارة. ففي حين يبدو الهذيان قفزاً فوق النحو والقواعد واللغة والعلاقات السببية، تظهر الاستعارة منضبطة وعقلانية ومدروسة ومتقنة ووفية لمنطق اللغة وعقلانيتها:
"ما هكذا تكون يا أنا
لقد خيّبت ظني".
أو كما في نهاية "ذكورة يقظة":
"وما بين أصابعي لهو
ولهوي بلاه
يا للبلاهة...!".
وكذلك يختم قصيدة "همس":
"أنا الرجل
أيتها الخاملة
أنا الأعلى والأسفل
وكلاهما".
يلهو فيديل سبيتي بالكلمات. قصيدته تطوير لدهشة الأطفال حين يواجهون الاشياء للمرة الاولى.
من هنا تبدو سوريالية بعض العبارات لديه نوعاً من تعجّب وحيرة أمام عالم يدخله ملتبساً بين الذكورة والأنوثة: "أداعب دمائي/ في غيابك.../ وأقلّم أظافري/ وأجرّب قرطاً في أذني اليمنى/ وأقلّد مشيك أمام المرآة"، أو متنكراً حين يخرج الى الناس:
"وأنا أيضا
لا أبالي
ولا أذكر شتيمة
وأنضّف كالأبله
وأتخيّلني مرتدياً معطفاً
وقبعة
كتحري الأفلام"،
أو مهلوساً بطفولة غير منجزة:
"ترسل بطريقاً يقرع باب الثلج
والأولاد يمتطون السرو
ويدلقون الأثداء
على حواف الصور"،
أو خائفاً ومتردداً:
"أيها الموت...
تراجع خطوتين
لساني معقود
برجليك"،
أو
"منتظراً عربة الكلاب
تجرّ صَدَفة".
اذاً، السوريالية هنا مجرد إعادة تشكيل بريء للعالم. وهي وظيفة لطالما ادّعاها الشعر متجاوزاً الواقع بإنشاء واقع آخر عبر الكلمات. هذه المفارقات أو الانزياحات ليست وحدها صفة "تفاحة نيوتن". فالكتاب تسجيلي أيضا، إذ يوثّق يوميات الشاعر وأحاسيسه وأمكنته سواء في البيت أم في الحانة أم في الشارع. والتسجيل هنا ليس بارداً وإنما يتضمن موقفاً ورفضاً. ويتضح الموقف والرفض من خلال الضميرين اللذين يحركان الديوان: أنا وأنتِ. في هذا المعنى، فإن نص سبيتي تعبير متطرف عن الذات يبدو فيه الشاعر طرفاً فاعلاً لا مراقباً حيادياً. هو ينخرط في قصيدته. يتورط بها. يغدو موضوعها ومسوّغها وهدفها. وفي هذا كله يعبث سبيتي، يلعب، يقول، يبوح، يهذي، يفكّك ويركّب، مؤكداً بقصد أو بغير قصد، أن الشعر فعل حرية ترفع به المخيلة الكلفة مع العالم.
الاثنين 2 كانون الثاني 2006