("لا تبحث عن معنى لعله يلقاك" لشربل داغر)
"لا تبحث عن معنى لعله يلقاك"، بهذه الدعوة الناهية المشفوعة بوعد ملتبس يبادر شربل داغر قارئه في العنوان الذي اختاره للمجموعة الشعرية الصادرة لدى "دار شرقيات". كان يجدر به ربما الاكتفاء بالجزء الاول من العبارة: "لا تبحث عن معنى"! ذلك ان الوعد بلقيا ممكنة لمعنى ما، يلغي امكان انعدامه. وقد يكون في انعدامه شكل من اشكال حضوره الاكثر قوة. لكن لا تخدعنّنا هذه ال"لعله" بنبرتها الاحتمالية، فهي ليست الا الطعم لاستدراجنا الى الانصياع لرغبته. الا ان العبارة تحمل كذلك بعداً آخر يفترض في القارئ التزام موقع المتلقّي السلبي، في حين تشي نبرتها التوجيهية بنزوع الشاعر الى لعب دور المخرج، وتخفي رغبة ضمنية لديه بتحريك عناصر اللعبة الشعرية كافة، والقارئ في شكل خاص حتى لو انطوى استدعاؤه له على نية تحييده.
في المقدمة، يترسّخ هذا المنطق اكثر، اذ يدلّ الشاعر على السبل التي يجدر سلوكها لمقاربة نصه، قاطعاً الطريق منذ البداية على إمكان مقاربة مختلفة. يبدأ اولاً بتحديد قارئه قائلاً: "اكتب في ما يخصني لقارئ لا وجه له (...) اكتب فحسب، على ان من اتوجه اليه (...) لا يقف امامي، وانما امام أفق المعنى". واذ يعتبر انه يبحث في القصيدة عن مساعٍ اخرى ممكنة للكلام غير "الشكوى واللوعة والصراخ وخصوصاً الانشاد"، يضيف: "اسعى الى الانطلاق من العالم دوماً، من محسوسه، من معايناتي فيه، لا من اي مكان آخر. لا تعنيني الفكرة نفسها إن لم تتعيّن في "مشهدية" (كما قال احد النقاد عن شعري). اغرف دوماً من هذا العالم اليومي، المحسوس، من مشاهده وصوره وحكاياته وشخوصه... انا بهذا المعنى، لست شاعراً تجريدياً ابداً". قبل ان يختم: "ها انا سألت، ها انا اجبت". وهو كذلك فعلاً. وبعد مقدمة من هذا النوع، يصير من الصعب ان نستعيد "براءةً" ما ازاء النص، وتصير القراءة محكومة سلفاً بالمنطق الذي فرضه الكاتب وعملية الالتفاف عليه امراً ليس باليسير.
لا تطغى تقنية او نبرة واحدة على الكتاب، فمن الشعر الممسرح الى القصيدة - اللقطة، من الحكمية الى التهكّم الخبيث، يتنقّل الشاعر ساكباً جملته في "مشهدية" (كما ينقل عن ناقد قالها في شعره، وننقل نحن بدورنا عن الاثنين) تكاد تكون الوعاء والمحتوى معاً. أكانت مشهدية مباشرة من خلال مسرحة النص الشعري كما في القصيدتين الاولى والاخيرة، أو غير مباشرة كما في معظم القصائد الاخرى. في "جثة شهية" التي تفتتح الكتاب، يضيء على الثابت والعابر، على الممكن والملتبس والمفتوح على مختلف الاحتمالات، حيث الحياة ادوار مسندة باعتباطية عبثية وحيث "المؤدي يكون بحكم ما يتكلّم"، والمخرج كما الممثل كما الديكور وحتى الخشبة نفسها تنصاع للدور المحدد لها والذي لا تخرج عنه الا لأن النص يفترض هذا الخروج: "لا صلة لي بما يجري/ لكني خائف"، يقول احد "المتكلّمين"، كأن الخوف هنا لا يستدعيه الا الانخراط اللاارادي في الحركة التي تُنتج الحدث وليس العكس: "لعبتنا خافية، وجمهورنا لاهٍ عنا، فيما يؤدي معنا ما لا يدركه في مجرى حركته". وفي معظم القصائد ثمة دوماً "اشياء لها اشكال ولها وجهات غير معلومة"، جثة، رسالة، وصية او سواها، تستدعي بدايات اصطلاحية ونهايات على شكل اطراف لبدايات اخرى.
الا ان هذه الافكار المفتوحة على تعدد الاحتمالات، لا تستثني تلك المستعادة او المستهلكة: "جئت اشهد لضلوع القتيل في الجريمة/ فالقتيل شريك"، او: "في الرغبة (...) من القوة ما يزيل جبالاً من مواضعها". او تلك المباشرة: "نظرات ابي ترعاني مهما بعدت/ تسلمت منه اثمن ما في العائلة: وصية جدي له/ وصية الآمال المستحقة". من دون ان يلغي هذا لقطات محمّلة ثقلاً فكرياً وفلسفياً ولو بقيت مشتتة ولم تنجح في تشكيل كلٍّ متماسك: "ما يجري هو ما يجري الآن. لا غير/ ما يجري الآن لن يجري بعد. ابداً". هذا الانغراس في اللحظة بحيث تبدو كأنها معزولة عما حولها، مكانياً وزمانياً، نلمسه في اكثر من مكان فنقرأ: "حيث يقفون/ وحده ينبئ بما يقولون/ بما عليه يكونون".
في العودة الى المقدمة، يقول داغر في وصف القصيدة انها "تحيق بلقطة مادية او انسانية من دون ان تُعنى بتجميدها وانما ببلوغ حيوية فيها او باستثارتها"، لكنها حيوية لا ينجح دوماً في استدعائها او "استثارتها"، اذا اردنا استخدام تعبيره، بحيث يبدو الكثير من القصائد هامداً، منقبضاً، مركّباً، وسأتجرأ وأضيف: مفتعلاً، حيث التخطيط الشعري (أأسمّيه "حَرْبقة" شعرية؟) في اوجه، ما يشي بوعي ذهني للعملية الشعرية يغيِّب عنها كل حدْس ويكاد يحصرها في شقها الصناعي اللغوي وحده. كأني بالناقد والاكاديمي حاضر دوماً بين الشاعر ونصه، بينه وبين وقارئه، وكأني بالخطة الشعرية سابقة للحظة الشعرية ومتقدمة عليها بحيث ان "ما يبقى لا يكفي/ وان اكتفت القصيدة به"، على ما يقول داغر نفسه.
Sylvana.elkhoury@annahar.com.lb
النهار
الاثنين 5 حزيران 2006