ملاكٌ واحد لم يبق كافياً لدحرجة ذاك الحجر. قد تحلّ شياطين الأرض والسماء جميعها ولن يتزحزح قيد أنملة. لكن يكفي أحيانا حلمٌ مبهم أو خاطرة سريعة لتنفتح القبور على ألغازها... على تفاسيرها الكثيرة. والحلم لدى بسّام حجّار في مجموعته الشعرية الأخيرة، "تفسير الرَّخام" (ولا بد انه عنى "الرُّخام"، بضمّ الراء) الصادرة عن "المركز الثقافي العربي"، ليس إلا "الختام اليومي للحياة، تمرينٌ بسيط على الموت" بحسب ميلوراد بافيتش في "المعجم الخَزَري". هكذا أيضا تبدو الكتابة لدى الشاعر، تمرينا إضافيا على موتٍ من طبيعة رخامية، يلتقي فيه الميتولوجي بالديني بالفلسفي، لكي لا يبقى أخيرا إلا الشخصي والحميم: بابٌ يُغلق أو ضوء يُطفأ ووجوه أليفة تعبر على غفلة.
هي قصائد ثلاث: "لم يقل لي احد ما معنى الأسى" و"مزارٌ بجانب الطريق" و"تفسير الرخام"، يكتبها في لغة تبقى عند الحدود بين ارتفاع على الحسي ولصوق به، ولا تتشاوف إلا بقدر حاجتها إلى الارتكاز على مقوّمات فكرية وفلسفية تشكّل ما يشبه الرافعة لبساطة موادها. قصائد تنطلق من المواجهة مع الحجر في وصفه رمز الموت ونقيضه في الآن عينه، الشاهد لمنعته ودوامه فوق كل حياة، والمتمرّد عليه بالسهو عن انتظاره. وهي تجد لحمتها، الصريحة كما المضمرة، في التطور الذي يطرأ عليها، نبرةً وموضوعاً. وإذا انبرينا إلى تفسير بسيكولوجي ما لحركتها، من دون أن ننكر خلوّه من بعض التبسيط، سنقول أن في القصيدة الأولى معاينة للموت عن قرب، في الثانية مواجهة مع يقينات دينية، وما يتبعها من تمرّد وإنكار، وفي الثالثة لامبالاة يسميها سهواً، وسيلةٌ للالتفاف على الموت بتجاهله، ولن نبالغ إذا أضفنا: بتبنّي موقف الحجر منه. وفيها كلها لا يساوم حجار على لحظة شعرية، بل يقترب منها بحذر وتؤدة ويتركها تتفتّح من دون إرغام أو افتعال. والنتيجة: صور شعرية لا تحل كالطغيان بل تتسلل إلى الإدراك بعد مرورها، ومن دون افتضاح حيَلِها. صورٌ لا تكتسب قيمتها من لحظويتها بل من اندماجها في سياقها، إذ يمهّد الشاعر لها ويبني عليها، ما يجعل من الصعب عزلها عن هذا السياق، حيث تجد لنفسها في كل مرة تقريباً الرجع والصدى في كلمة ما أو في عبارة أو حتى في إيقاع سابق.
إذا، بين رخام الأضرحة ورخام الصروح البشرية، يبدو الموت بداية بألغازه وأسراره ذا حضور شبه فرعوني، لكن بتسلله إلى اليومي والمعيش يصبح أكثر "ابتذالاً" وواقعية والتفاتاً صوب التراب. يصير عبارة عن مخلّفات شخصية تستوطن أسى زوجٍ أو أهل أو أبناء. أما السؤال عنه فيُمسي أكثر لحظوية وارتباطاً بالاختبار في حد ذاته: "لو كنتُ ملكاً يموت/ لأدركت معنى التراب/ ورسمت/ أولا/ إنني ملك يموت// لغسلتُ وجهي/ وقلّمت أظافري/ وسرّحت شعري/ وجعلتُ جنّتي/ بجنب السرير/ كأشيائي الأخرى:// العباءة الصيفية/ الخفّان/ علبة الدواء/ الساعة والنظارة/ والريموت/ الكوب والمناديل/ وصور الأبناء/ وقارورة العطر/ وناديتُ ابنتي/ لكي تطفئ الضوء/ وتترك الباب موارباً/ لكي اسمع - إذا غفوتُ -/ جلبة البيت من حولي// لكي لا أكون/ على السرير/ ملكاً يموت/ بمفرده". وهنا كان المقطع سيحافظ على قوة وقعه لو انتهى عند "من حولي" وأسقط الجملة التفسيرية الأخيرة. لكن بغض النظر عن هذا "التفصيل"، يضعنا الشاعر أمام ما يشبه "الجردة" لأشياء الحياة اليومية يلوذ إلى أمانها وألفتها في مقابل موت نتحايل عليه ب"تفاسير كثيرة/ ساذجة/ ولكن/ ليس من بينها/ الموت".
تالياً، وإذ "أعيتنا الحيلة في أمر موتانا"، تصير القصيدة الثانية محتّمة تقريباً ومن المتعذّر تفاديها، تسجّل لمواجهة مع الإله في شكله الصنمي المتمثل في "مزار بجانب الطريق"، وتنطلق من شعور بالضآلة أمامه: "اني لا شيء/ وحديثي عابر/ مثلي/ بين عابرين// لذلك/ أتحدث عنك"، لكنها سريعاً ما تأخذ شكل الاتهام العنيف: "اله ساذج/ اله ساذج ويافع وميت// اله ساذج – ويافع/ لأنه ميت"، يقول ونكاد نسمع دوي صوته. قبل أن تُفضي المواجهة حكماً إلى صدام لا يتوانى فيه عن إجراء مقارنات من نوع: "لا تسمّى القبور إلى جانب الطريق/ ولو غير آهلة/ قبوراً/ بل مزارات"، وتنتهي إلى نكران وتبرّؤ محمّلين غضباً ليس بعيداً عن تمرّد الأبناء: "أنت لا شيء/ وحديثك عابر، مثلك/ بين عابرين/ لذلك/ أتحدث عني..."، قبل أن يضيف خاتماً كمن لا يريد للقطيعة أن تكون تامة أو للإلحاد أن يكون خالصاً: "... أنا/ العابر قليلاً/ في ظنك".
تسير القصيدة الثالثة بهدوء الاحتضار والترقّب الواهن، لكنه ترقّب يتمّ كما لو بطرف العين. ترقّبٌ ينكر ذاته ويؤثر ادعاء اللامبالاة أو السهو، لكنه في الواقع الغياب قبل الغياب، الاستسلام لغفلة الموت. "لا أبالي"، لا ينفك الشاعر يكرر، وإذاك يتحوّل الأسى سهواً ومحاولات التفسير عبثاً: "لا أبالي (...) إذ جعلتُني، / لأعوام، / متفرجاً على/ ميتات صغيرة، / ذات يوم سوف يُشفى الحجر/ مني". والحجر لديه هو صنو الموت وقرينه، يسبغ عليه صفات اقرب في وقعها إلى "أسماء حُسنى" ذات طابع قرآني: "كفيف/ رحيم/ مشفق/ محب/ ليّن/ حاضن/ مبهم/ بعيد". وفي نبرة حدائية كهذيان الساعات الأخيرة، تعود الهواجس على شكل لازمة أو كلمات تتردّد على خلفية صلوات وطقوسيات وتمتمات وتعاويذ وأخيلة ليلية تستدعي الموت لتطرده، تحلّ كلها في النص مضمرة عبر إيقاع لا ينفك يتسارع كخط بياني على شاشة جهاز يسجّل حركة الحياة في جسمٍ مريض: "جدران/ جدران عالية// أبواب/ أبواب موصدة// شرفات/ شرفات كابية// شخوص/ شخوص غفيرة/ في وهم المرايا// وأغطية/ وستائر/ وشموع/ وصلوات// أغطية وستائر وشموع وصلوات/ وأضرحة/ أضرحة كثيرة"... وهكذا دواليك قبل أن ينطفئ في النهاية تاركاً "سكينة مطبقة يرجّها زعيق السيارات المسرعة إلى/ حطامها".
"تفسير الرخام"، كتاب عزاء أم كتاب حداد؟ لا هذا ولا ذاك، انه فقط كتاب ينهل من كل ما يقع في مجال إدراكه ليروي الموت في كل رخاميته، لكن أيضا وخصوصاً في كل غفلتنا: "كمن يُطفئ النور في الحجرة ويغلق بابها بروية وراءه/ إذ يغادر، هنيهات، ريثما/ يعود،/ لما يعود،/ فيشعل النور في الحجرة ويغلق بابها وراءه،/ إذ يعود،/ لما يعود،/ ولا يفتقد شيئاً".
Sylvana.elkhoury@annahar.com.lb
النهار
الأربعاء 14 حزيران 2006