(فظاعة المحتوى ونصاعة الشكل)

كاظم جهاد
(العراق/باريس)

سركون بولصالمجموعة الشعريّة "عظْمة أُخرى لكلب القبيلة"، التي تصدر هذه الأيّام عن منشورات "الجمَل"، هي من أضخم أعمال الفقيد سركون بولص الشعريّة من حيث الحجم والامتداد في الزّمن والاشتغال على المعالجات الشعريّة الكبرى السّائد بعضها في سابق أشعاره. تزيد المجموعة على مئتي صفحة مطبوعة بالحرف الصغير، بلا تلاعب طباعيّ وبلا نيّة في إيهام القارئ بالضخامة أو الامتداد غير الفعليّ. قصائد يختلط فيها الذاتيّ بالموضوعيّ أو الفرديّ بالجماعيّ، ويتكافلان بما لا فكاك فيه. فالذّات الشاعرة تمّحي أمام خطاب التاريخ، والتاريخ يجد في صوت الشاعر أحد أهمّ هيآته الخطابيّة ومحلاّت تمظهره وامتحانه لذاته. والصّوت الذي يضطلع في القصيدة بضمير "الأنا" على نحوٍ معلن تارةً، ويمّحي وراء أقنعة أو تماهيات أو أمثولات دالّة طوراً، هذا الصّوت يوحي باعتلال لا شكّ أنّ الإحساس به ومكابدته قد سبقا تجربة المرض بسنوات عديدة. إنّ ثمّة دلائل على أنّهما كانا هنا منذ البداية، يشاطران في شعر سركون إحساسه المضادّ بالعافية وخروجه إلى العالَم واعتناقه تجربة العيش والحبّ والتّيه انطلاقاً من إرادة سائرة ومنفتحة، دون أن تكون، كما لدى البعض، اجتياحيّة أو غازية. عافية كانت، كما لدى رامبو وبعض كبار الشّعراء العرب والأجانب، لا تنفصل عن نقيضها التامّ المتمثّل في الوعي بهشاشة الذّات المغامِرة أمام فساد الأشياء، وهشاشة العالَم نفسه أمام قواه المناوئة التي تتولّد من صميمه ثمّ تروح تُطْبق عليه حصارها الأليم. وإذا ما أردنا أن "نُسقط" على سركون نفسه ما قاله لي ذات يوم في حوار معه منشور من أنّ "مرض السيّاب الأصليّ كان هو الشّعر"، فإنّنا لَواجدون في شعر سركون، وفي عالَمه الإدراكيّ كما يتمظهر في هذا الشعر، ما يشجّع على أن نرى فيه هو الآخر واحداً من كبار "المَرضى بالشعر"، وعلى أن ندرجه في سلسلة أولئك الفنّانين الذين كان جيل دولوز يرى فيهم "معتلّين كباراً" هم في الأوان ذاته "نطاسيّو حضارة مريضة".
يمنح سركون في قصائده الأخيرة أشكالاً وصوَراً متعدّدة لهذا الاعتلال، بوجهَيه المتكافلَين، الاعتلال الأصليّ للحسّاسيّة الشعريّة وبها، والاعتلال المكتَسب من آلام التجربة وجراح الصّيرورة وانعطاب الجسد في لحظة مظلمة من تاريخه. بهذا التعدّد، وبإصراره الفريد على دوزنة العبارة الشعريّة وإخصاب الصّوَر والتشبيهات والكنايات والطباقات وسواها من حيل بلاغيّة تعمل لديه بخفاء وحنكة في آنٍ معاً، بهذا كلّه يحوّل سركون شعريّة الألم إلى مأثرة فنيّة ويُنقذ خطابه الشعريّ من كلّ نواح هستيريّ وسوداويّة عاجزة. كان ريلكه يقول إنّه يتمنّى أن يصبح "أستاذاً في الألم"، أي معلّماً في تطويعه وقوله. وعندما قرأ صامويل بيكيت نصّ جان جينيه "أربع وعشرون ساعة في شاتيلا"، المكتوب فورَ معاينة الرّوائيّ الفرنسيّ لآثار المجزرة، وصفَ شعريّة جينيه في نصّه المذكور كالآتي: "فظاعة المحتوى ونصاعة الشكل. كما لدى كافكا". هذه الموازنة، صانعة الفنّ العظيم، بين فظاعة التجربة الموصوفة ونصاعة اللّغة الواصفة هي ما ينتظره القارئ المثاليّ، أي تاريخ الأدب، من كلّ كاتب. بلا مازوخيّة وبلا ارتعاب، لا عن خوف من الألم ولا عن هيام مرَضيّ بالمرَض نفسه، يتعهّد شاعر من طراز سركون بالرّعاية تجربة الألم والانكسار التاريخيّ والذاتيّ ولا يجد بدّاً من أن يسوق هذه الحصّة من الآلام التي "عرَضتْ" له وألفاها في جسده يوماً، مثلما ألفى في داخله "آفة" الغناء وموهبة الشّدو، أقول يسوقها إلى شكلٍ يتمظهر ويسطع في توهّجه الخاصّ، "فردوساً عائمة فوق الأنقاض" كما يعبّر عزرا باوند، أو ملاذاً حصيناً في قلب الهاوية.
بصورة مفارقة وبطوليّة بلا شكّ، يتعهّد شاعر كسركون بالعناية، إذَنْ، مرضَيه، الأصليّ والطارئ، الموروث والمكتسَب، "الطريف والمُتلَد" كما يقول طرَفة في معلّقته. يُثقّف من أجلهما صوته وعبارته. هذا التثقيف الحاذق، الذي يعرب عن عمق ثقافة وقوّة إرادة شعريّة، يتجلّى في مجموعة من "المهارات" الأسلوبيّة و"المناورات" اللّغويّة يتمكّن فعل القراءة النقديّة من تسميتها والتأشير على ما يصْلح منها لأن يكون قدوةً لممارسات شعريّة آتية. سركون نفسه ورثها من كبار شعراء الغرب والشرق وأضاف إليها من لدنْه. دائماً ينبغي أن نتذكّر أنّ سركون كان شاعراً كبيراً بقدر ما كان قارئاً كبيراً أيضاً. وأنا أتذكّر كيف خاطبَ هو ذات يوم، في أحد مقاهي باريس، صديقاً لنا كان يريد كتابة الشعر دون أن يمرّ بمحنة القراءة. قال له سركون، بذينك الحدب والتواضع اللذين كانا يغلّفان خطابه كلّما اضطرّته المناسبة إلى أن يفارق سجيّته ويقرّر أن ينصح أحداً: "إقرأ يا صديقي كلّ يوم وسترى كيف ينهمر الشّعر من كيانك ويخرج من مَنابت أظفارك".
لاجتراح شعريّة (بمعنى "فنّ شعريّ") قادرة على المواءمة بين ما يدعوه بيكيت "فظاعة المحتوى ونصاعة الشكل"، يعمد سركون في هذه المجموعة إلى تجنّب الخطاب التصريحيّ والإيداع بعمله كلّه إلى الصّوَر والتشابيه والكنايات الدالّة. وبعمله على هذه الشاكلة فهو لا يقوم بما هو أقلّ من ردّ الاعتبار إلى بلاغة شعريّة هجرها الكثير من الشعراء العرب المُحدثين، مُفقرين بذلك، في اعتقادنا، لغتهم الشعريّة ومتسبّبين بشيوع هذه القصيدة النمطيّة والضامرة التي بات يشكو منها القرّاء والنقّاد ويتصوّر البعض ويُصوِّر أنّها من نتائج قصيدة النثر أو مجمل ما أسمّيه "الشعر الحرّ غير التفعيليّ". سركون، بالعكس من هذا كلّه، وكما لا يقدر عليه سوى شعراء قلائل من الناطقين بالضادّ، جاء ليُثبت أنّ العيب ليس في الأنواع الشعريّة الممارَسة، بل في شاكلات عمل ممارسيها. وبصنيعه هذا يُرينا هو أنّ الفنّ، إذا ما أراد أن ينال عمقاً معيّناً وقوّة إيحائيّة مؤكّدة، لا مناص له من أن يجرّب نوعاً من "الكلاسيكيّة" الإبداعيّة. بهذا المعنى يمكن القول إنّ سركون من أكثر شعرائنا جدّة لأنّه أيضاً من أكثرهم "كلاسيكيّة".
صورة الأب
لكي أبين عن عمل سركون هذا على إعادة إحياء بلاغة الصّورة والخطاب الشعريّين عبرَ أمثلة ملموسة، سأستغلّ هذه الحلقة التمهيديّة لاستعراض أواليّات القول في قصيدته الوجيزة "أبي في حراسة الأيّام" (ص 10). أشير، من أجل موقعة القصيدة في تجربة الشاعر، إلى أنّ سركون كان شديد التعلّق بأبيه. فهو من مادحي آبائهم حيثما ينصرف شعراء آخرون لتكريس صورة الأمّهات (وهناك بالطّبع من يعنون بصورة الأبوين بالتزامن وبالعدل، ولعلّهم أقلّ عدداً). مراراً عديدة توهّج سركون أمامي بالكلام على مآثر والده البسيطة والمكتنزة بالمعنى. فهو، أي أبوه، كان مثلاً يخلب ألباب جيرانه بالكلام، بصورة مسحورة وساحرة، على أحلامه التي يقول إنّه كان يتلقّى فيها زيارة السيّد المسيح ويحظى ببعض نصائحه وتوصياته. بهذه الإضافة الرّوحانيّة والرؤياويّة كان والده يستعين إذَنْ ليطوّع عناءه، عناء العامل اليوميّ المجهَد الذي تصوّره القصيدة. وللفائدة أضيف أنّ المرّة الوحيدة التي خاطبني فيها سركون بشيء من الحدّة أو الغيض طيلة صداقتنا الباريسيّة حدثتْ في مطعم تونسيّ في الحيّ اللاتينيّ ذهبنا لنتغدّى فيه يوماً. كنتُ من مرتادي المطعم وأعرف أنّ نادله ثقيل السّمع وأنّه ينبغي الكلام عالياً ليسمع هو طلبات الزبائن. بحكم كونه زائراً للمكان جديداً، ما كان سركون يعرف هذا التفصيل الضروريّ. ما إن رفعتُ صوتي ليفهمني النّادل الشيخ حتى صرخَ بي سركون بشراسة كان هو، خلافاً لما أشيع عنه (ولي إلى هذا عودة) قادراً عليها تماماً: "ما لكَ تصرخ به؟ إنّه بعُمر أبيك". وما إنْ عرفَ حقيقة الموقف حتّى غاص في ذكرياته وأمسكَ عن الكلام. أدركتُ في تلك اللحظة أنّه كان يراجع تاريخه وأنّ الصّمم النسبيّ للنادل أعاده إلى ماضيه، هو صاحب أحد الأبيات الأكثر انغراساً في ذاكرة العراقيّين الشعريّة، البيت الذي يقول فيه، في خاتمة رائعته "آلام بودلير وصلتْ": "أيّها الماضي أيّها الماضي ماذا فعلتَ بحياتي؟". الحال، في هذا التدوير للعبارة البالغة الوجازة، في هذا الإطلاق للسؤال الجارح والمجروح بعدَ تكرار صيغة النداء مرّتين، أرى أنا أثر بلاغة مبرَمة. لا يهمّ أنْ تكون عفويّة أو مدروسة (ولدى شاعر كسركون هي عفويّة وفي الأوان ذاته منطلقة من ثقافة عالية: أوَ ليس الشاعر الحقّ هو مَن يحوّل معارفه المكتسبة إلى أداء غريزيّ؟). المهمّ هو أنّها لا تخطئ طريقها إلى هدفها المتمثّل في إحداث الأثر أو الرجّة. والمهمّ أيضاً هو أنّ أغلب ممارسي الشعر لا يقتدرون عليها. فليس معطى لكلّ كاتب أن يكون قادراً على العمل بوجازة فاعلة وعلى اجتراح ما يدعوه دولوز "ترنيمة".
"أبي في حراسة الأيّام"، يقول عنوان هذه القصيدة التي يراجع فيها الشاعر مسيرة أبيه أو محنته. عنوان هو نفسه، وبادئ ذي بدء، إشكاليّ. على أنّها إشكاليّة مضيئة، أي تتيح ثراءً للمعنى وتعدّدية تأويليّة. بباعث من القراءة المزدوجة التي يتيحها منطق الإضافة في "حراسة الأيّام"، لا تدري هل الأب هو "المحروس" من لدن الأيّام أم هو "حارسها" (لا شكّ أنّ القراءتين تتكافلان وتدعم إحداهما عمل الأخرى). في القراءة الأولى، يكون الأب هو كائن الطّيبوبة، المتطامن، بالرّغم من فداحة فقره وكثرة عنائه، إلى "حراسة الأيّام" له وشفاعة الزّمن أو المصير أو عُمره هو نفسه (تعدّدية معنى "الأيّام" في العربيّة)، أقول شفاعتهم له. في القراءة الثانية، يكون الأب هو مَن يمارس هذه المهمّة شبْه الملائكيّة أو القدّيسيّة، المتمثّلة في أن "يحرس" الأيّام ويوصل الزّمن إلى قراره. في جميع الأحوال، إنّه يندرج في فئة أولئك الأفراد الاستثنائيّين الذين يدعوهم رنيه شار تارةً "الصباحيّين" وطوراً "الشّفافين"، أفراد يلخّصون بحضورهم الوجه الأنقى للحياة ويزيلون الفواصل بين المرئيّ وغير المرئيّ. رنيه شار نفسه الذي يتكلّم أيضاً عن "تحيّة البسطاء" (حرفيّاً: "صباح خير البسطاء"، "بونجور البسطاء").
حتّى يصّور سركون عناء الكائن "الصباحيّ" الذي كانه أبوه، يلجأ إلى تشبيهات واستعارات أليفة وبارعة الاختيار يستدعي انتقاؤه لها ورصفه إيّاها في عبارته الشعريّة تحليلات بلاغيّة طويلة (ومن أسفٍ أنّ النقّاد العرب طالما عزفوا عن التحليل البلاغيّ، وإذا ما مارسوه سقطوا في فخاخ الخطاب الأكاديميّ أغلب الأحيان). كتبَ سركون:

"كان أبي، في حراسة الأيّام
يشرب فنجانَ شايهِ الأوّل قبلَ الفجر، يلفّ سيجارته الأولى
بظفر إبهامه المتشظّي كرأس ثومة.
تحتَ نور الفجر المتدفّق من النافذة، كان حذاؤه الضّخم
ينْعس مثلَ سُلحفاة زنجيّة"

بين العناصر الأربعة الأساسيّة ("ظفر الإبهام" و"رأس الثومة" من جهة، و"الحذاء الضخم" و"السلحفاة الزّنجيّة" من جهة ثانية)، ترتسم إحالات متبادَلة وأواصر بلاغيّة ودلاليّة ينبغي تسميتها بدقّة مهما كان من مبلغ البساطة التي يفرضها الشاعر على المقطع، بساطة هي في الحقيقة ثمرة تفكير وعناء وعمل واجتهاد. لا يكتفي الشاعر بالنّعت (ظفر الإبهام متشظّ، وهنا بيان أوّل عن آثار كدح الأب اليوميّ على جسده نفسه)، بل يردفه بالتشبيه البليغ: يشبّهه برأس ثومة، صورة آتية من عالم الأب اليوميّ ذاته، وفي هذا تعبير عن "طبيعيّة" الشيء أو قربه من المنال أو واقعيّته (لا حاجة للإغراب أو التغريب في عالَم هو نفسه شديد الغرابة)، وكذلك عن كونه مهمَلاً وغيرَ ذي بال (هل أقلّ تواضعاً وتعرّضاً للنسيان وتفكّكاً من رأس ثومة؟). بفضلِ منطق كنائيّ شديد الحضور في قصائد سركون، تفيض دلالات "رأس الثومة" هذا على صاحب الإبهام نفسه: هو مركون في ظلمات واقع يتخطّاه ويسحقه كما يكون "رأس ثومة" مركوناً في مطبخ بسيط أو في حجرة هريٍ متربة ومظلمة. من علاقة ثنائيّة بسيطة (الأب وإبهامه المتشظّي المستدعى ككناية عن انسحاقه أو اعتلاله)، يرقى بنا خطاب سركون الشعريّ إلى ثالوث بلاغيّ يشحذ فيه كلّ من "الأب" و"الإبهام" و "رأس الثومة" القوّة التعبيريّة للعنصرَين الآخرَين.
أواليّة التشبيه نفسها وقوّة العمل الكنائيّ عينه تسريان في الصورة الثانية التي يتلقّى فيها "الحذاء الضخم"، حذاء الأب، توصيفاً مزدوجاً هو أيضاً. فلا يكتفي الشاعر، كما كان سيفعل متدرّب في صنعة القصيدة، بالفعل "ينْعس"، بل يشبّه الحذاء ب "سلحفاة". ولا يكتفي بهذا أيضاً، بل ينعت السلحفاة (التي هي الحذاء) ب "الزنجيّة". ثمّة في البيت، إلى ذلك، طباق فعّال وتعارض قويّ: "تحت نور الفجر المتدفّق من النافذة" ما يزال الحذاء "ينعس"، ملتحفاً ببطئه أو تكورّه الخاصّ (السلحفاتيّ)، مفصحاً، على سبيل الكناية مرّة أخرى، عن تململ صاحب الحذاء وضآلة الرّغبة لديه في مواجهة أعباء يوم آخر سيجابه هو فيه "وحوش النهار"، وهو ما نقرأه في المقطع التالي من القصيدة.
التناص
هناك أيضاً قوّة الاستلهام أو التناصّ التي تجعل تراثاً واسعاً يعمل في النصّ. إنّ قارئاً هو على درجة من الاطّلاع الفنيّ لا يسعه إلاّ أن يتذكّر أمام هذا "الحذاء الضخم" الذي "ينْعس" لوحة فان كوخ الشهيرة التي تصوّر حذاءين فلاّحيّين مركونين في زاوية، وينطقان، على سبيل الكناية، وفي ما وراء خرس الأشياء، بعناء حاملهما الغائب والذي لا نعرف عن مصيره الخاصّ أكثر ممّا يقوله لنا حذاءاه هذان. وإذا كان القارئ على درجة من الاطّلاع الفكريّ أيضاً، فقد تعود إلى خاطره مقالة هايدغر الشهيرة التي أحال فيها حذاءي فان كوخ هذين إلى تجربة الكائن بعامّة. كما قد تنبثق في ذاكرة القارئ مقالة دريدا عن العمل نفسه، يفارق فيها قراءة هايدغر ويقرأ اللوحة من منظور مُغاير. لا يهمّ بالطبع أن يكون قارئ ما أو عدد من القرّاء غافلاً عن هذا التراكم الفنيّ والثقافيّ، فالمقطع الشعريّ لا يستند إلى هذا وحده، وتظلّ عناصره الأخرى عاملة بامتلاء. أمّا قوّة التناصّ فتبقى (كما في العادة) مبثوثة فيه بما هي وعد بقراءة مركّبة ودعوة إلى تأويل متعدّد. لكنّ قوّة التناصّ تبدو أكثر جلاءً في تشبيه سركون للحذاء الضّخم ب "سلحفاة زنجيّة". لم يقل "سوداء" ولا "كالحة"، بل اتّجه اختياره إلى "زنوجتها". هنا تلتمع إحالتان ممكنتان. تحيل الأولى إلى قول المعرّي في إحدى أشهر قصائده في الأرَق: "ليلتي هذه عروسٌ من الزّنج..."، فيضيف التراث قوّتة الشعريّة إلى رصيد الشاعر الجديد. وتزّجنا الثانية في واقع الزّنوج، هذه المجموعة الأثنيّة التي طالما التقاها سركون في معيشه الأميركيّ وتماهى ولا شكّ وشرطَها المهمَّش وحفظَ صرخات تمرّدها. التراث والواقع هما إذَن المنبعان اللذان ينهل منهما الشاعر لتفجير صورة "ملتبسة" بين الليل والفجر، ويزيدها السّياق الذي يُدخلها هو فيه، كما لاحظناه أعلاه، ديناميّة وتعارضاً وقوّة.
بعد أواليّات "الإنشاء" الشعريّ هذه يمارس المقطع قبل الأخير عمله "الإخباريّ" بمنتهى الطبيعيّة، ولا يخدشنا ما نرى فيه من مباشرة تقريريّة ما دام الشّاعر مهّد لها بمقاربة إيحائيّة وتصويريّة. تقرأ في المقطع المذكور:

"كان يدخّن، يحدّق في الجدار
ويعرف أنّ جدراناً أخرى بانتظاره عندما يترك البيت
ويُقابل وحوش النهار، وأنيابها الحادّة"

مشكلة الشعر السّهل أنّه يكتفي بالأسلوب التقريريّ أو الخبريّ الذي يميّز هذا المقطع. "الخبر" لدى سركون وبقيّة الشعراء المجوِّدين هو بالعكس جزء من كلّ. ومن تضافر "الإنشاء" و"الخبر" يستمدّ التقرير النهائيّ المعبَّر عنه بصيغة نفي مزدوَج مضاءه ويضطلع بوظيفة اختتام القصيدة:

"لا العظْمة، تلك التي تسبح في حساء أيّامه كإصبع القدَر
لا، ولا الحمامة التي عادتْ إليه بأخبار الطوفان."

يلاحظ القارئ قدراً من الاقتضاب كبيراً في هذا المقطع الختاميّ. فلا فعلَ يأتي ليوضّح دلالة النفي المزدوج هذا. لكنّ القارئ الذي يدرك أنّ الإيحاء هو إحدى وسائل الشاعر التعبيريّة، وأنّ عناصر القصيدة يضيء بعضها البعض ويفيض بعضها على البعض بمجرّد تجاورها (منطق البدليّة الشعريّة)، يفهم بلا عناء أنّ "وحوش النهار وأنيابها الحادّة" هي ما سيلاقيه الأب في رحلته اليوميّة وليس كفاف يومه (العظْمة الهيّنة السّابحة في الحساء اليوميّ في فقرها الفاضح الذي يجعلها، في استعارة هي الوحيدة في هذه القصيدة التي يسود فيها منطق التشبيه، أقول يجعلها شبيهة بإصبع القدَر الحاملة وعيداً وتهديداً). لا كفاف يومه إذَنْ، لا ولا الحمامة التي عادتْ له ذات مرّة بأخبار الطوفان، والتي ترمز إلى أفقه الرّؤياويّ وصبوات روحه ومبعث تفاؤله (سبقَ أن قلتُ إنّه أب يؤمن بأنّه كان ذات يومٍ صاحب رؤى ومشاهدات). هنا أيضاً، وبصورة أكثر وضوحاً، يعمل منطق التناصّ والتبادل الكنائيّ: عبر حكاية الطوفان، ينتصب الأب الفقير باعتباره الأب النبيّ، أبا الإنسانيّة جمعاء، ويضطلع بفداحة شرط نوح نفسه عندما خاض محنة الغرق والبحث عن اليابسة وملأه بالرّعب إمكان زوال النوع البشريّ. كلّ يوم كدحٍ وعناء وفقر وانسحاق هو كمثل تجربة طوفان قاسية يخوضها بكامل جسده ووعيه نوحٌ جديد. هكذا، وعلى وجازته، يمتلئ النصّ بالإحالات الواقعيّة والتاريخيّة والأسطوريّة والأدبيّة. يبقى أن نضيف أنّ البيتين الأخيرين يأتيان ليحلاّ لغز نفي مزدوج كان الشاعر قد وضعه بصيغة مقتضبة أو مبتورة (ومغايرة نوعاً ما) في بداية القصيدة. فهذا النصّ بيته الأوّل هو التالي: "لم تكن العظْمة، ولا الغراب". بتر متعمَّد يدفع القارئ إلى انتظار إضاءته في بقيّة مقاطع النشيد. بتر يشحذ رغبة القارئ ويتواضع معه على لغز تمهيديّ سيجد ولا شكّ حلّه. سوى أنّ ابتداء القصيدة ب "الغراب" الذي أرسله نوح للبحث عن اليابسة ولم يعدْ، واختتامها ب"الحمامة" التي تعود حاملة في منقارها غصن زيتون، إلى كونهما يحميان القصيدة من خطر التكرار، إنّما يموقعانها هي ومعيش الأب خارج حدّي التفاؤل والتشاؤم. فلا الغراب ولا الحمامة، لا نذير شؤم ولا بشير خير، لا شيء سوى معاناة مكرورة و"عاديّة" لم يعد وراءها ما يُختشى ولا ما يؤمَل. هذا ما أراه في تجاوبات هذه القصيدة، وهناك بالطبع قراءات أخرى ممكنة.
ألفتُ أخيراً الانتباه إلى إصرار سركون، إصراراً يميّز عمله الشعريّ كلّه، على استخدام "التشبيه" حيثما يعمل شعراء معاصرون كثيرون بمنطق "الاستعارة"، متوهّمين أنّها هي السبيل الوحيد لاجتراح صورة شعريّة. التشبيه متواتر الحضور في شعر الماغوط أيضاً، سوى أنّه أقلّ اكتنازاً بالمفاجآت والإحالات الدّالّة منه لدى سركون. والتشبيه لدى هذا الأخير يتجلّى في أشكال عديدة. ذلك أنّ "كاف" التشبيه و"مثْل" و"كأنّ..." وسواها يمكن أن تظهر لديه كما يمكن أن تعمل بالإضمار، وفقاً لما دعوناه منطق "التجاور" و"البدليّة". سوى أنّ الحضور الملحّ لأدوات التشبيه هذه ينطلق من إرادة في إجبار القارئ على التحديق جيّداً بالمفارقة التي يتفتّق عنها التشبيه. فكأنّ الأداة هي هنا لإلجام وعي قارئ القصيدة ومنعه من كلّ استعجال قد تسقطه فيه سهولة بعض الاستعارات الشعريّة.
في فقرة قادمة (أو فقرتين قادمتين)، سأحاول الإبانة، أوّلاً، عن ممارسة سركون لمقاومة شعريّة وثقافيّة تطبع في اعتقادي بالبطلان نعت الشاعر أدونيس له ب "المُحايد"، وكذلك نعت صديقي الشاعر سعدي يوسف له ب"غير السياسيّ". سأبين عن كينونة سياسيّة أو سياسة شعريّة تتخطّى سياسية السياسيّين وبلاغة الشّعارات ومنطق الانضواءات الحزبيّة أو المذهبيّة. وثانياً، سأسعى، مخالفاً السّائد، إلى توضيح كيف أنّ تدخّل سركون الحاسم والخطير في الشعر العربيّ لم يتمثّل في إنعاش "قصيدة النثر" (وهو لم يمارسها إلاّ لماماً)، بل في تجذير إيقاع "القصيدة الحرّة غير التفعيليّة" وشروط كتابتها. وسأكتب في هذا الاتّجاه لا لأنفي إسهامة سركون في تطوير قصيدة النثر العربيّة، بل لأثبت أنّ الاستمرار في الخلط بين الأشكال الشعريّة وإطلاق تسمية "قصيدة النثر" على كلّ نصّ شعريّ لا يأخذ بإلزامات العروض الخليليّة، حرّة كانت أو مقيّدة، هذا الخلط الذي لستُ أوّل من يشير إليه، يحرمنا من فرصة تقييم فعل سركون الشعريّ نفسه وتقديره حقّ قدره. فليكن رصد مجموعته الشعريّة الجديدة مناسبة لتجاوز سوء فهمٍ باتَ شديد الإضرار لعلاقتنا باللّغة وبالقصيدة.

السفير
26 اكتوبر 2007