قد لا تكون أعمال ريلكه (1875 ـ 1926) التي كتبها بالفرنسية في السنوات الأربع الأخيرة من حياته، موازية في القيمة لأعماله الألمانية. تلك الأعمال التي سيقول عنها الروائي روبرت موزيل بانها رفعت الألمانية إلي ذروة من الكمال لم تعرفها منذ هولدرلين. صحيح أن الشاعر بدأ بقصائد عاطفية مباشرة كما في كتابه الأول احتفالاً بنفسي وكتابه حياة وأغنيات ، لكنه بعد سفرة إلي روسيا بين العامين 1899 و1900، مع لو أندرياس سالومه (التي أغرم بها فرويد ونيتشه)، بدأ يكتب قصائد ستكرّسه في المشهد الشعري الأوروبي لا الألماني فحسب كما في كتاب الساعات الذي نُشر عام 1905. مرحلة أخري حياتية وثقافية وشعرية ستكون في انتظاره بعد سفره إلي باريس مع زوجته النحاتة كلارا مينستهوف لإعداد دراسة عن النحات الشهير رودان الذي كانت زوجة الشاعر تلميذة لديه. وقد عمل ريلكه سكرتيراً خاصاً لرودان طوال خمس سنوات كتب فيها كتاب الصور و قصائد جديدة . وفي عام 1910 وضع دفاتر لوريدس مالت بريغه وبعد سنتين حياة ماريا . توقف الشاعر عن الكتابة بعد عام 1912 إثر البدء بكتابه مراثي دوينو الذي عاد واستكمله عام 1922 ليكتب مباشرة علي أثره وخلال أيام معدودة سونيتات إلي أورفيوس (55 سونيتة). وهذان الكتابان صنعا له مكانته العالمية. كل هذا كان بلغة الشاعر الأم، أي الألمانية، هو المولود في براغ أيام الإمبراطورية النمساوية- المجرية. في هذا العام وكنوع من تزجية للوقت أو كنوع من ساعات هامشية بتعبير الشاعر نفسه كتب ريلكه عدداً من الكتب بالفرنسية مباشرة منها بساتين ، الرباعيات الفاليزية ، الأوراد ، النوافذ ، ضرائب حنان إلي فرنسا ، تمارين وبديهيات و قصائد وإهداءات التي ترجمها الشاعر العراقي كاظم جهاد إلي العربية كاملة في كتاب صدر عن دار الجمل بعنوان راينر ماريا ريلكه- الأشعار الفرنسية الكاملة مع مقدمة نقدية تُعدُّ مفاتيح لقراءة هذا النتاج وتوضيحات حول الترجمة فضلاً عن تأريخ أدبي للشاعر. وهو كتاب يُضاف إلي الأعمال القيّمة التي قام جهاد بنقلها إلي العربية منها الأعمال الشعرية الكاملة لرامبو و الكوميديا الإلهية لدانتي وبعض أعمال دريدا وجيل دولوز وجان جينيه وخوان غويتيسولو وفيليب جاكوتيه.
هل حقاً كانت أشعار ريلكه الفرنسية ساعات هامشية ؟ قبل الإجابة عن هذا السؤال قد يكون من المفيد الإشارة إلي أن الشاعر حاول منذ بداياته الكتابة بهذه اللغة، لكنها ظلت محاولات غير جادة أو فاعلة. كما أنه حاول الكتابة بالروسية التي أحبها وبالإيطالية لكن ذلك ظلَّ محاولات أيضاً. لكن الفرنسية كانت بالنسبة إلي ريلكه منذ عام 1922 مسألة أخري. لقد عاش في باريس وصادق- علي عزلته في قلعة موزو السويسرية- أصدقاء كثيرين فرنسيين بينهم شخصيات مهمة في الأدب والمسرح أو من المجتمع المخملي كما يُقال. وقد تكون ترجمته للشعراء الفرنسيين فيرلين، مالارميه، فاليري وأنّا دونواي تمريناً علي الكتابة بهذه اللغة لاحقاً. وربما كانت جذور أمه من منطقة الإلزاس الفرنسية والتي لم يكن علي وفاق معها، نوعاً من مصالحة مع هذه الأم. لقد تقرّب ريلكه إلي النساء الراقيات والثريات في حياته، أي من طبقة الأم المختلفة عن طبقة الأب العسكري المريض الذي انتهي مديراً لمحطة في براغ قبل الانفصال عن زوجته. ثم إن ريلكه نفسه عاش حياته متنقلاً بين اللغات وبين الأمكنة معاً: من مسقط الرأس براغ إلي ميونيخ إلي برلين إلي باريس وسويسرا، ناهيك بإقامات مؤقتة ورحلات شملت إيطاليا وروسيا وشمال أفريقيا. وكذلك كانت حاله في خياراته المهنية حين دخل الجيش ثم تركه ليدرس التجارة والفن وتاريخ الأدب. وعليه، لا يسعي هذا التقديم إلا إلي رسم شبكة خلفية حياتية وأدبية ومهنية وربما نفسية للشاعر في سبيل قراءة نتاجه الشعري باللغة الفرنسية أو علي الأقل في سبيل إيجاد دوافع للكتابة بلغة أخري عرّضته لانتقادات القوميين المحافظين.
يصدر ريلكه في قصائده الفرنسية تجاه الشعر صدروه نفسه في قصائده الألمانية. إنه الشعر نفسه الذي يقيم بين الحسي والتجريدي، بين العاطفة والفكرة، بين الحياة والموت، منتقلاً من المرئي إلي الخفي.
يحلُّ ريلكه في الأشياء وفي الطبيعة محولاً إياها إلي ثيمات ورموز ودلالات فكرية أو فلسفية أو نفسية. بمعني إضافي، إنه يحوّل العالم المستقل عن الذات (وهذا افتراض في تقديري، إذ ان وجود العالم لا يمكن فصله عن الذات) إلي ذات أخري خاصة وشخصية.
يجعله عالماً محسوساً. من هنا تبدو رومانسية ريلكه ومعه ربما الرومانسية الألمانية عموماً مفارقة للرومانسية الإنكليزية. كلتاهما تري إلي الطبيعة من هذه الثغرة التي تُدعي الأنا، لكن في حين بدت رومانسية الإنكليز سطحية (من سطح) فإن الرومانسية الألمانية بمخالطتها الشعر بالفلسفة والإحساس بالفكر، عمّقت الطبيعة والذات معاً. صحيح أن ثمة فارقاً بين قصائد ريلكه الفرنسية وتلك الألمانية في الكثافة والتوتر والعمق الفلسفي والأداء الشعري... كأن الشاعر يجرّب في قصائده المغتربة هذه، بنبرة بارعة وخفيضة، غناءً كان في لغته الأم هادراً وأخّاذاً، تمّحي فيه البراعة أمام النبوغ بحسب كاظم جهاد، لكنَّ الصحيح أيضاً أن ريلكه ظلَّ في هذه القصائد، وتحديداً في المجموعات الخمس الأولي محافظاً علي هذا الصوت العميق جاعلاً من الوردة رمزاً للسرية والعزلة والانفتاح والتعدد والحياة والموت، أي واضعاً فيها جزءاً كبيراً من صورته الحياتية وتصوّراته الفكرية. كذلك شأن النافورة التي تتحوّل إلي رمز للنرجسية في تلقيها الماء من نفسها وإلي نفسها. والأمر نفسه بالنسبة إلي النافذة التي تغدو رمزاً لجدل الداخل والخارج، أي للعلاقة بين الذات والعالم. يحافظ ريلكه في شعره الفرنسي علي هذا البعد الميتافيزيقي أو إذا شئت لنسمّه نوعاً من الصوفية المسيحية هو الذي آثر الاعتزال مقتصراً في علاقاته علي نخبة متعددة وإن بينها أثرياء وثريات. وربما كانت بعض الأمثلة الشعرية توضح رموز ريلكه المذكورة وطبيعة شعره في هذه اللغة: لا أريد درساً آخر سوي درسكِ أنتِ/ يا نافورة تعاود السقوط في ذاتها من جديد،/ درس المياه المجازَف بها والتي بها تليق/ عودة سماوية كهذه إلي الحياة الأرضية/ لا لشيء أن يخدمني أمثولة/ بقدر همسكِ المتعدد/ أنتِ، يا عموداً خفيفاً في المعبد/ الذي، بفعل طبيعته، يتهدّم (ص 69)، أو ألستِ أنتِ هندستنا،/ أيتها النافذة، يا شكلاً شديد البساطة/ يا من بلا جهد تؤطرين/ حياتنا الشاسعة/ .... أنتِ يا من تفصلين وتجتذبين،/ متغيرة كالبحر، مرآةٌ يتمرأي فيها فجأة محيّانا، ممتزجاً بما نري عبرها (ص 109)، أو يا وردة، يا شيئاً مكتملاً بامتياز/ يحتوي بلا انتهاء نفسه،/ وبلا انتهاء ينتشر، يا رأساً/ لجسد من فرط رقته غائب (ص 167)، أو طرق لا تفضي إلي أي مكان/ بين حقلين،/ كأنما بحذق،/ عن غايتها حُرفت،/ طرق لا يكون/ غالباً في مواجهتها شيء آخر/ سوي الفضاء الخالص/ والموسم ، (ص 155) أو بعد هنيهات سيلعب آخرون/ لعبة الجيران علي قارعة الطريق/ تحت هذه الأشجار الجميلة التي نعيرها لبعضنا البعض (ص 119)، أو هذه الأرض اللاهبة، حيث ينوح/ في جوار الينابيع نسيانُ الأموات (ص 89) وغيرها من القصائد التي تتخذ الحسد والشيخوخة والعزلة والكذب والقبر والموت والأزهار والمرآة وعشرات الأشياء والأفكار موضوعات يقارب بها الشاعر فلسفته الوجودية علي ما رأي هايدغر. كل هذا يتم بلغة ليست لغته أو بـ صوت كأنه صوتي بتعبير الشاعر في القصيدة الأولي من مجموعة بساتين محدثاً شكاً في عبارة رامبو ما من ازدواج لغوي شعري كما ورد في المقدمة.
في هذا الكتاب استطاع كاظم جهاد نقل ريلكه إلي العربية بترجمة تجمع ما بين رهافة الشاعر ومتانة اللغوي وحذق المفكر، أي انه أحلَّ نفسه مكان ريلكه الذي تتداخل في شعره هذه المستويات جميعاً. لهذا بدت الترجمة عربية وليس نقلاً حرفياً أو آلياً. إنها ترجمة تُحدث في العبارة العربية رجّات تحاكي رجّات الأصل من دون الإخلال بأدائيات الجملة العربية ونواميسها، ما يجعل من لغةٍ لغة ويمدّها بالمقروئية . وقد اعتمد المترجم لإنجاز لغة الكتاب عناصر منها المداورة التي تكون أحياناً هي الصانعة للمعني والمحدثة للرجّة الشعرية ، وكذلك الجملة الالتفافية أو المتعرجة عن قصد، ما ندعوه بالجملة- الجارور، جملة تعاف النمو الخطي والأداء الواحدي إدراكاً من واضعها لكون المعني لا يهب نفسه إلا بالدوران حول ذاته والارتداد علي أعقابه والتوتر توتراً منعشاً والانعطاف انعطافاً حيوياً والرقص رقصاً نشوانياً . لهذا السبب اعتمد جهاد إجراءات معروفة لدي العرب القدامي مما يدعوه البلاغيون العرب بإبطاء المعني وتعليقه أو إرجائه . وعليه، عرف المترجم كيف يؤجّل الضربات الشعرية إلي نهاية الجمل أو المقاطع أو القصائد، عبر التقديم والتأخير أو التنويع في أنواع الجمل الفعلية والاسمية أو تضمين عبارات اعتراضية أو جعل مسافة بين المبتدأ والخبر وبين الفعل وفاعله وما إلي ذلك من أساليب ساهمت في منح جملة ريلكه في العربية حراكاً وحيوية. أساليب لنقل إنها شكلت رسماً بيانياً يعلو ويهبط ويتعرّج ويلتف ويدور ويتقدم ويؤوب، ما جعل القصيدة نشطة علي خلاف العديد من الترجمات الراكدة.
وقد تلمّستُ هذا الشيء باللغة المترجم إليها بسبب عدم معرفتي بالفرنسية. وعليه، أعتقد أنها ترجمة لا تخون الأصل (مع التسليم بشيوع تعريف الترجمة بالخيانة) عبر التعريب بقدر ما تحاول نقله بشعرية عالية تتوافق مع العملية التي يصنع بها ريلكه جملته، آخذاً في الاعتبار أنني كقارئ أمام ترجمة أعمال شعرية كاملة بالفرنسية يُضاف إليها الأعمال الكاملة بالألمانية التي سيصدرها كاظم جهاد قريباً وليس أمام ترجمة مجموعة شعرية واحدة. هذا فرق يمكن التكهن من خلاله بمعرفة المترجم بنتاج الشاعر مجتمعاً.
القدس العربي
21/06/2007