منذ السبعينات يواصل شوقي بزيع المراكمة فوق قصيدته. مراكمة اتخذت تنويعات في الجملة الشعرية ونبرة الصوت والموضوعات وإن ظلت مخلصة للتفعيلة من جهة وللحب والرثاء والفقدان وامتداح الشهوة من جهة أخري مع بعض القصائد الملتزمة بقضية. لكنَّ مجموعته الصادرة أخيراً عن دار الآداب بعنوان صراخ الأشجار تتخذ منحي جديداً من حيث الطرح.
ربما يكون ديوان صراخ الأشجار فريداً في الشعر العربي من جهة تخصصه بموضوع الأشجار. بهذا المعني يشكل الكتاب إلي فرادة موضوعه وحدة عضوية متكاملة ومناخاً واحداً بعكس معظم نتاج الشاعر. نحن هنا أمام ديوان وليس مجموعة شعرية إذا كانت هذه المفردة تحيل علي جمع قصائد متفرقة في كتاب واحد. وقد بدا الشاعر في تآلف لغة القصائد في الكتاب كأنه كتبه مرة واحدة رغم تضمّنه ثماني عشرة قصيدة، تختصُّ كلُّ واحدة منها بنوع من الشجر تقريباً مع التعريج في بعضها علي أكثر من شجرة أو نبتة. يُستثني من ذلك قصيدتا طريق الحنية و جبال البطم اللتان تتحدثان عن قريتين جنوبيتين استمدتا اسميهما من نوع من الشجر، وكذلك قصيدتا أشجار لغياب تاء و صوت فوق بحيرة الذكري اللتان تتحول فيهما المرأة والرجل إلي أشجار أيضاً. إذاً، من هذا المناخ يمكن الدخول إلي صراخ الأشجار الذي يعلن نفسه بوضوح كموضوع في وقت باتت فيه القصيدة موضوع نفسها. نحن أمام بنية ظاهرة في الموضوع وفي لغة الكتاب المتآلفة، ما يشكل مناخاً منسجماً واحداً وكلياً.
ليست أشجار الديوان التي بين أيدينا موضوعات أرشيفية. ذلك أن جمع عدد من الأشجار في كتاب واحد وُضع لهذه الغاية قد يحيل علي الفهرسة والإحصاء. لكن المقاربة التي تمّت بها كتابة القصائد تنفي هذا الفعل. إنها أشجار مختبَرة بالعيش ومكتشفة بالمعاينة. هي أشجار مستمدة من الذاكرة القصية للشاعر حيث قريته الجنوبية زبقين ذات الطبيعة الريفية. بهذا المعني لا تعدو الأشجار مجرّد كونها كائنات منفصلة بذاتها. إنها امتداد للحياة التي كانت لكاتبها. جزء حقيقي من تكوين شخصية الشاعر ومن مسرح عيشه معاً. هكذا تغدو هذه الأشجار معادلاً للطفولة والذكري والمرأة ومجنون الضيعة. إنها المكان أيضاً. يكتب شوقي بزيع عن الشجرة كما يكتب آخرون عن بيت أو شارع، عن قرية أو مدينة، عن علاقة عاطفية أو خيبة. الأشجار جزء من وعي الشاعر في هذه الدنيا. استكمال خارجي لجسده الذي صاغته - في ما صاغته من أشياء وحوداث- أشجار الطفولة حين كان الجسد طرياً بما فيه الكفاية ليأخذ أشكال الخارج، أشكال الظواهر: ذلك أنني منذ البداية/ لم أصخْ يوماً/ لغير تنفس الأوراق في صدري/ وللنعناع وهو يعوم كالسفن الصغيرة/ فوق سطح طفولتي النائي أو السنديان الذي هو عكاز الطفولة/ والثغاء الأولي لماعز الماضي أو حسين عقيل مجنون القرية حين لم تعثر علي سبب/ يميّزه/ عن الأشجار . وعليه، لا تعود الأشجار في الديوان مادة حيادية وإنما عالم كامل يحيل دائماً علي حياة ماضية. الأشجار بوصفها ماضياً تتحوّل لدي الشاعر إلي مرثيات. إنها شواهد علي الزمن المنقضي وعلي الحياة التي لم تعد موجودة إلا في البال. من هذا الباب، باب الرثاء الذي برع فيه الشاعر في مديح الخسارات والفقدان والهجر، يعود شوقي بزيع ليلتقي بقصيدته التي صنع لها طوال ثلاثين سنة ملامح تدلُّ عليها.
كما ورد ليست أشجار بزيع مادة متخيلة بل معاشة. هي أشجار شخصية بمعني دقيق. لكنها في شخصانيتها هذه تستمدُّ جانباً أسطورياً من المخيلة الشعبية حيناً ومن الميثولوجية الدينية، التوراتية تحديداً، حيناً آخر. هكذا يبدو السنديان بصلابته رمز القوة، والرمّان بتكوره ولونه رمز الجمال الأنثوي، والتين بتشقق أكوازه رمز الشهوة، والزيتون بزهده وتواضعه واخضراره الدائم رمز السلام والطهارة والصبر، والصبّار بقدرته علي التحمّل رمز المكابدة والرقة والوحشية. مع ذلك لم تخرج هذه المخيلة الجاهزة القصائدَ من جدتها وتصويرها الشجر من قرب عبر اكتشافات خاصة وملاحظات فردية برؤية حميمة وملتصقة. وقد يكون التصوير الداخلي للأشجار في الكتاب من غير الاكتفاء بالتصوير الخارجي ما يدلُّ علي هذه العلاقة الخاصة بين الشاعر وأشجاره. ذلك أنه يؤول معاني الأشجار، راسماً علاقة جوانية بينه وبينها، لا تتأتي إلا لمن اختبرها في الواقع. وهو إذ فعل ذلك، فعبر تداخل تام بين الموضوع والذات، أي بين الطبيعة والأنا.
ربما كان شوقي بزيع في اتخاذه الأشجار موضوعاً للكتابة الشعرية، انحاز للمتروك والهامشي من الحياة. لقد تخلي علي الأقل عن موضوعات تبدو كبيرة في الشعر ومنها الحب علي سبيل المثال، مضيفاً إلي كتابات الطبيعة زهرة وإلي قصائده شجرة.
القدس العربي
28/05/2007