ماذا يحدث حين يقرر الروائي كتابة الشعر؟ هل ينقل معه أنساقه السردية، وشخصياته المتخيلة، وضرورات الزمان والمكان والبيئة إلى متن القصيدة؟ أم أنّ هذه العناصر تختفي، أو تتبدّل، في أحسن الأحوال، لتصبح مفاهيم مجردة، غائمة، لا يمكن القبض عليها في النص الشعري؟ وهل السردية، التي ينهض عليها العمل الروائي، قابلة للتحوير والتدوير، في النص الشعري، من دون إحداث خلل بنيوي في جوهر الخطاب الشعري ذاته؟ وكيف يمكن لروائية معروفة مثل غادة السمان، التي اعتادت الرؤيا الملحمية، البانورامية، في علاقتها مع العالم، أن تروض مخيلتها، في كتابة الجملة الشعرية، المقتضبة، المكثفة، الخالية من عنصر التشويق السردي (narrative suspense)، والمعتمدة بالضرورة على أدوات بلاغية صرف كالرمز والتورية والكناية وغيرها؟
هذه هي بعض الأسئلة التي يطرحها "الحبيب الافتراضي"، كتاب غادة السمان الشعري، الصادر عن "منشورات غادة السمان" في بيروت، والذي لا يخرج، في هاجسه المركزي عن دائرة الحنين الميتافيزيقي إلى فكرة البراءة الأولى، المتمثلة بالحب العذري، بصفتها آلية دفاع عاطفية ضدّ "واقع" يغيّبُ الجسدَ، ويجنح يوماً وراء يوم إلى اللاواقعية، بفضل التقدم العلمي والتكنولوجي، وزحف ما نصطلح على تسميته اليوم بالواقع الافتراضي، وهيمنة الصورة الإلكترونية على مشاعرنا وقلوبنا. ولكن متى يكون الواقع واقعياً؟ إن الواقع الذي يقدّمه الفنّ، سواء أكان الكترونياً أو لغوياً، خلوٌ من الحقيقة، بالمعنى الإجرائي، وما الصورة الإلكترونية، بأبعادها الثلاثية، سوى واقع ما فوق واقعي يخاطب الحواس الخمس، رغم تأسسّ هذا الواقع على فكرة اللامعقول. ولكن أليس اللامعقول ذاته مركب جوهري في بنية ما نسميه الواقع؟ أليست اللغة ذاتها جزءاً من هذا اللامعقول الذي نوجد به ومن خلاله، وننشئ هويات افتراضية في الكتابة؟ يمكن القول إن الواقع الذي تمثله الاستعارة الأدبية، مثلاً، ليس أكثر واقعيةً من الواقع الذي تمثّله العلامةُ الإلكترونية أو الافتراضية، إذ يقوم كلاهما على علاقة اختلاف وتأجيل، تضحّي دوماً بحقيقة 7-7-الشيء7-7- وتبقي على "الأثر" فحسب.
والحب، الذي ترثيه غادة السمان أو تحتفل به، لا يخرج عن هذه الدائرة، فمشاعر الوجد والشوق والفراق والخيانة والفرح والحزن وغيرها، لا يمكن لها أن تنوجد بمعزل عن "الكتابة"، أو "الكلام" أو لنقل "اللغة" بإطلاق، فالحب ليس أكثر واقعيةً على الورق منه على صفحة الإنترنت. حتى الحب الصوفي، الساعي إلى التوحّد مع المطلق، من خلال الصمت، مؤسس على وهم الاستعارة، أو الصورة الفنية، أو البعد الثالث الذي تقدمه لنا حيل اللغة وعلاقتها الاختلافية، سواء تعلق الأمر بحدث خارجي كالحرب، أو بحدث داخلي كالحب. في قصيدة (الفصيح الافتراضي)، المتكئة على جملتين خاطفتين، كأنما للتعبير عن رغبة بالصمت وليس الفصاحة، تعبّر غادة السمان عن مأزق العلاقة بين الذات والواقع، منطلقة من فهم سقراطي لوظيفة الكلام، الأقرب في مخيلتها إلى الصّمت، من حيث أن الكتابة تمثل افتراقاً عن الكلام، وبالتالي تظل مسكونة بالاختلاف، على عكس الكلام ذاته الذي يظلّ متوحّداً، يتماهى مع الجسد أو المعنى، قبل الخطاب وبعده. من هنا كانت اللغة، حسب السمان، بمثابة "سوء تفاهم"، أو لغو نسفحه جزافاً على بياض الورق: "اللغة أداة سوء تفاهم/ وحده الصمت لغة العشاق". ص (85) لكنّ السمّان هنا، تلغي خطابها ذاته، القائم، بطبيعة الحال، على اللغة، وما عجزها عن الهروب إلى الصّمت إلا بمثابة عجز عن الانتماء إلى واقع واقعي، أو جسد حي، فكان لا مناص من اللجوء إلى واقع افتراضي أو جسد افتراضي تسمّيه الشاعرة "الحبيب الافتراضي". وتفكك السمان هذا الشعور بالعجز في قصيدة (الحب بعد الفراق الافتراضي)، مستعيرة أسطورة أورفيوس الذي ينظر إلى حبيبته يوريدس، متمرّداً على إرادة الآلهة، فتمزّقه الوحوش إرباً، أي تقتله كجسد وتحوّله إلى علامة موسيقية، دائمة الغناء أو النواح: "سأظل أطاردكَ في دهاليز الزّمن والأبجدية/ وإذا استدرتَ صوبي سأختفي/. وكما لم يحقّ لأورفيوس أن يستدير صوب الحبيبة في نهر العودة من الجحيم/ أعرف أنه لا يحقّ لي أن ألامسكَ، وإلا فقدتكَ". ص (64) لا يحق للعاشق إذن، أن يلمس العاشق، وبالتالي لا يملك كلاهما سوى المطاردة، والبحث عن جسدٍ عصي على المكوث أو الإشباع. من هنا العلاقة المتأصلة بين الحب والموت، والذي تذكره الشاعرة في أكثر من قصيدة، لأن الحبيب حقيقي بقدر ما هو افتراضي، أو غائب. إذ لا يمكن عزل الحب عن إمكانية فقدانه، فإمكان تحقّقه مرتبط دوماً برحيل الأنا العاشقة، أي انسحاب الكائن كجسد، وبقائه صوتاً ينوحُ في شكل علامات لغوية أو الكترونية. هذا ما يعبر عنه رولان بارث أيضاً في كتابه الشهير "خطاب العاشق ـ شذرات" حين يصف بطل غوته، فيرتر، بالعاشق الذاهب حتماً إلى الانتحار، إذ إن ما يشكّل جوهر صوته كعاشق، وفي الصميم، إنما هو ما يجلده دوماً بذكرى احتمال موته، وكأنه لا يمكن أن يكون في عشقه سوى ذكرى. هذا الكائن السرابي، الذي يشكل صورة العاشق في خطاب العشق، إنما هو كائن موت بامتياز، أي الكائن الغائب أو الحبيب الافتراضي. وهو يسكن اللغة كشبح، أو كصوت، أو كنواح أورفي. هذا ما تعبر عنه الشاعرة في قصيدة (الشبح الافتراضي) مقدمةً تناصّاً شعرياً مع إحدى قصائد الشاعرة الأميركية إمِلي ديكنسون في حوار هذه الأخيرة مع حوذي الموت في قصيدتها (لأنني لم أستطع التوقّفَ للموت)، حيث تقول: "كلّ ليلة، أتسلق سراً عربة الموتى/ وأختبئ من سائقها/ لأبحث عن أحبائي الموتى ? كلّ ليلة أتسلل إلى المقبرة/ وأحاور أشباحهم بحنين من دون أن ألاحظ/ أنني بدأتُ أتحول بدوري إلى شبحٍ أيضاً/ يقودُ عربة موتاه". ص (82) إنّ الواقع الذي يمثّله الحب، إذن، شبحي أو حلمي، وبالتالي يمكن وصفه بالافتراضي، وهو "حدثٌ لا يحدث7-7- البتة، ذلك أن شرط حدوثه، يكمن في تلك الصور التي تمثّله، أو تزيحه عن مركزه، أو تؤجّل وقوعه. في قصيدة "الأشباح الالكترونية الافتراضية" تقول الشاعرة بكل وضوح أن "كلّ حب علاقةٌ مع الافتراضي/، غرامي بكَ صلةٌ مع الأشباح". ص (154) من هنا اللمسة الحلمية أو السريالية (الافتراضية) في خطاب عشقها الذي يكنّي عنه رولان بارث بفكرة الصوت المرتحل. فالشعور بالخسارة يرافق كل تمثيل للعشق، ومرد ذلك، كما أشرنا، الارتباط الوثيق بين الحب والموت، يتبدّى في شعر الغزل أو خطاب العشق في شكل رثاء ذاتي، وهذا ما تشير إليه الشاعرة في تقديمها للديوان حيث تستعير قول رونسار بأنّ "الحب والموت ما هما سوى أمر واحد" أو اقتباسها قول سيوران بأنّ "ثمة راهب وجزار يتشاجران داخل كلّ رغبة". ص (7)
لا تخرج غادة السمان عن هذا المسار التراجيدي في نعي الحب أو الاحتفال به، فهي تطرح تلك الأسئلة المؤرقة عن علاقة الواقع بالفن أو الكتابة بالحياة، وتكتب عشقها بلغتين: قديمة تتكئ على استعارات الوجد والفيض والتوحّد والصفاء حيث "بكَ تتّقد روحي وذاكرتي" ص (24) وجديدة تستنهض همسات الأسلاك المكهربة وذبذبات الشاشة الإلكترونية حيث "معكَ أعيش الحب العذري الالكتروني/ حيث أجنحة الحنين أسلاكٌ مكهربة". ص (154) ولأنها تعي الجوهر الشبحي للعلاقة العشقية، فإنها تدعو عاشقها للقاء افتراضي بين دفتي كتاب: "لا تخف، وصادق شبحي بين دفتي كتابي". ص (144) وبين هذا وذاك، تنقل الشاعرة حال انكسار الروح وخفوت زمن فروسي قديم، مغرق في الرومانسية، حيث لا تجد مهرباً من رؤية العالم بعينين افتراضيتين: "أقفُ فوق المنصة الرجراجة الزلزالية تحت بقعة ضوء/ وعلى عيني نظّارات دنيا الحقيقة الافتراضية". ص (9) ولكن هل ثمة من حقيقة افتراضية حقاً؟ أليس في الأمر تناقضاً؟ هل الحبيب الافتراضي أقل واقعيةً من الحبيب الأرضي؟ وهل الحب ممكن إلاّ في الغياب؟ إن عالم السمان العشقي قائم على الافتراض، فالقلب افتراضي، والشوق افتراضي، وكذا هي الذاكرة والنسيان والفرح والحزن والمستحيل. بل إنها هي ذاتها امرأة افتراضية: "أنا المرأة الافتراضية في أوطان افتراضية/ بتاريخ افتراضي/ تخوض حروباً افتراضية بجيوش افتراضية/..." ص (21). هنا يتماهى واقع الحب مع وهم الحب، وكأن الكتابة عن الحب هي كتابة عن وهمِ الوهم، حيث يصير الافتراضي وحده الحقيقي: "وحده الحبّ الافتراضي/ يستطيع أن يكون سعيداً بأوهامه الحقيقية". ص (100)
في كتابها عن العشق الافتراضي، يقدّم الواقعُ الافتراضي نفسه باستمرار كحالِ غياب، وخاصة غياب الجسد. كأن الحب العذري في تراثنا الشعري ما كان ليكون قائماً لولا غياب الحواس الخمس. في العشق الافتراضي نهرب دوماً إلى الأمام، إلى واقع متخيّل يظل الجسد فيه موثوقاً إلى كرسي الوهم، أمام شاشة بيضاء هي حبنا العذري، يشهد ذوبان الذات في الذات، في غياب كامل للآخر، الجسد. كأن الغياب هو سبب زمانية الحب، وسبب ديمومته أيضاً. الحب وهم في الصمت، حقيقة في الكلام، وهو حضور في الغياب، سواء جربناه تحت ضوء القمر، أو على شاشة تغمرنا بنورها الإلكتروني. في قصيدة (الوردة الافتراضية) تذبلُ الوردةُ ـ الهدية، وتموت في آنيتها، في حين يبقى مجازُ الوردة نضراً، حياً، في اللغة: "اكتب لي/ فالورود كلها التي أهديتها لي ذبلت وماتت في آنيتها الكريستالية/ ووحدها الوردةُ في قصيدتكَ لي ظلت نضرةً". ص (75) الوردة، كحقيقة، تذبل وتموت، وما يبقى هو عطرها، تماماً كالجسد الذي يشيخ وينهار، لكنه يبقى علامةً لغوية في نصّ أو نوتةً موسيقية في أغنية، وفي كلا الحالين، ينسحب الواقع الحقيقي من صلابته وحسّيته، مستسلماً لصدى الكتابة: كتابة الأثر.
لعل السمّان، في نصوصها الشعرية، تختار "الأثر" أو الصدى، مكان إقامة لها، متكئةً، أغلب الظن، على تلقائية تقليدية، مستوحاة من أبجدية نزار قباني وعفويته الفنية. وهي لا تنجو من عثرات السقوط في فخّ النثر الروائي، بل يصطدم القارئ مراراً بعقلانية شارحة لا تستقيم كثيراً مع روح الشعر ومكر بلاغته. لكننا، مع ذلك، ننجذب إلى "مضمون" نصّها الشعري، بسلاسته ووضوحه، وجدة موضوعه، ونحترم الجهد المبذول في المحافظة على مبدأ الصدق الفني، وترجمة التجربة الوجدانية، بيسر وسهولة، بعيداً من جماليات التوتر الشعري، وتقنياته المركبة.
المستقبل - الاحد 18 شباط 2007