كتب محمد بنيس مجموعة من الدراسات ذات الصلة بمنجزه الإبداعي الأول: الشعر. باستمرار اعتبرت هذه الدراسات عمدة أو عدة استراتيجية لقراءة متون الشعر العربي الحديث. فهو ينطلق في جميعها من تصورات نظرية تجعل الخطاب الشعري بدأها وعودتها؛ ومن الإنساني أفقها وغايتها. صحيح أن الكتابة هنا كانت دائما منغرسة في أرض اللغة والجغرافيا التي أينعت أزهارها وثمارها، لكنها لم تتخل يوما عن مكسب الرحيل في الثقافات والشعريات في اتجاه القصيدة المغربية والعربية؛ لإضاءتها كتجربة إنسانية رفيعة وكمعرفة مؤسسة للتحديث بانية للتاريخ. تلتقي في ذلك الأبحاث الأكاديمية مع الدراسات النظرية الرفيعة التي تخللت مراحل بحث الشاعر عن القصيدة وتهيئ ممارسته النصية منذ الثمانينات بالخصوص إلي حد الآن. أقصد منذ بيان الحداثة (1981) إلي مؤلفه الصادر حديثا "الحق في الشعر"(دار توبقال للنشر، الدار البيضاء،2006)
في هذا الكتاب يتناول محمد بنيس قضايا بها يتحدد وضع الشعر راهنا ضمن الثقافة العربية وفي العلاقة بالآخر ضمنا. يتعلق الأمر بأسئلة كان عالجها سابقا أو كان وضعها ضمن تصوره للقصيدة وللممارسة التي كان يكتبها. فلعبارة "الحق في الشعر" امتدادات في حياة الشاعر والمجتمع، في القصيدة وطريقة رؤيتها إلي العالم وإلي العلاقات التي ترسمها بينها وبينه. اقترابا أو ابتعادا. كأنه يؤكد تلك الضرورة الإنسانية للقصيدة وهي تمتد بين الجسد (اللغة) وبين الكائن مجسدا في العوالم المختلفة واقعا أو افتراضا؛ وتلك هي حريتها. تعيشها فيما يعيشه هو كشاعر ومنصت إلي الشعر من حالات الانفتاح والحوار، أوفيما يصطدم به من عوائق تمنع الحرية وتعدد القصيدة في البلاد العربية بخاصة.
يأتي كتاب الحق في الشعر في ثلاثة محاور تداخلت جهاتها وتقاربت فصولها. نظر أولها إلي الشعر في علاقته بالزمن الراهن في تسمياته المختلفة، وتقدم المحور الثاني درسا نظريا لبعض قضايا الشعر وبناء القصيدة العربية الحديثة. فيما توجه المحور الثالث إلي تلمس أمكنة التحديث الشعري التي كان لها أثرها علي الممارستين الفردية (للشاعر) والعربية. كأن الشعر ممارسةً وتناولاً عبورٌ بأزمنة وبقضايا إنسانية وثقافية؛ وببناءات معرفية ونظرية تلزمها. اقترب الكاتب منها بمساءلة نظرية متعددة الأبعاد:
1. باعتماد البعد الفلسفي عندما قارب مفهوم الشعر في ضرورته الوجودية؛ ونوعية العلاقة التي يقيمها بالإنسان ومظاهر الحياة.
2. بتبني طريق الشعرية في استثارة القضايا المعرفية المرتبطة بالشعر والمجالات التي انفتح عليها في سياق الثقافة العربية الحديثة وانفتاحها علي الآخر.
3. باختبار التأمل النظري المتعدد لقراءة مظاهر الاختلاف الشعري بين الجغرافيات التي اختارت للقصيدة مسار الإعلان عن الذات التاريخية، ولكن بالمحافظة علي قيم الانفتاح علي الآخر والحرص علي مجاورته في زمن الحداثة وقيمها.
في القسم الأول عرض محمد بنيس لأوضاع الشعر العربي الحديث وقدم حوارا نظريا ومعرفيا حول بعض القضايا التي يشترك فيها مع الشعر العالمي ضمن أطاريح خاصة بمن يري الشعر مهددا بالفقدان وبالمعني الشامل الذي تفرضه المصلحة ومقتضيات العولمة وقد سمته - أو قل نعته- للنهايات. فيه تبين ضرورة الشعر من ضرورة الحرية وخلاص الناس من مظاهر الخراب والمنفي الذي يحاصرهم في حيواتهم. فالقصيدة من المستقبل. منه تأتي وإليه تتجه محملة بوردة السر المودع في أبيات تتعبأ بحياة أعمق من الوصايا والقواعد؛ وأذهب في نفس الإنسان من باقي أنواع الكلمات والخطابات. تلك كانت دائما رغبة الشعراء الأساسيين في أن يحافظوا "للقصيدة علي مجهولها؛ حقيقةًََ تسكن ما يتعدي الكلمات" (ص. 12). بناء لأسرار تتكلم بمعانيها الحياة وتنسجها القصيدة كحقيقة لا تمضي بمرور الزمن فقط؛ بل وتتقدم في المستقبل بالأساس، رافضة القيود ومظاهر العجز والخذلان ومنكرة معني النهايات مادام أن ليس للضوء نهاية أكيدة في غير مغامرة الكشف وجهد التنوير. بهذه الرؤية الاستشرافية جاءت الدراسة النظرية الثانية في ترتيب الكتاب"القصيدة واستئناف الوعد". فيها ساءل الكاتب العلاقة التي تقيمها الممارسة الشعرية - النصية - بمجالها الثقافي وفضائها القيمي. فالتغيرات التي طرأت علي العالم وظهور الأفكار النفعية وتسابق المعني وتركه خالصا لعمل الإعلام جعل القصيدة والشاعر منذورين لمقاومة المفاهيم الكلية وللمجالات الشمولية التي تبحث عن أي طريقة لجعل الشعر قابلا لمستلزمات العولمة، منقادا للمصير الذي تختاره هذه الأخيرة للغات وللثقافات ولباقي مظاهرها التعبيرية ولممارستها الإبداعية في هذا الزمن.
ولعل هذا هو الذي يدفع الشاعر محمد بنيس إلي اعتبار القصيدة فعل مقاومة ما دامت تنادي بالقيم الإنسانية وتدافع عن حق الإنسان في أن يكون مؤمنا بمستقبله وبالمشترك الأبقي بينه وبين الآخر في اختلافه. فالعين التي تري الاختلاف وتحتضن الآخر هي العين التي تقود الكتابة إلي مرتكزات الذات وربما إلي جزيرة الاغتراب أيضا. ولكن واثقة من هبة الشعر وقوة تأثيره في المصير الفردي والجماعي؛ كيفما كانت التوصيفات الملحقة به. فالقصيدة لا تنتمي للشعر إلا إذا كانت مقاومة للزمن وللعولمة تحديدا بما هي تجسيد عملي وإعلامي للمصالح غير الإنسانية. تنشئ زمنها "بما هو زمن للمقاومة الذي يتحدد في استئناف الوعد تاركا وراءه مجالس الندب ومقامات التشكي" (ص. 22). تحتضن الآتي وتستضيف الآخر باعتبارهما سند الاختلاف والطريق إلي الكتابة أو الطريق إلي الاغتراب. لا بأس. ألم يكن الغموض الذي قُذِفَت به القصيدة - منذ أبي تمام - دالا علي أزمةٍ احتاج الشاعر فيها دائما إلي الرد علي تلك الخطابات الباحثة عن الشرعية والإبداع، حتي "أصبحت كل قصيدة عربية تسعي إلي حوار مثيلاتها في اللغات الأخري أو تتطلع إلي "إبداع قيمها الشخصية.. غريبة" (ص. 35) هي ذاتها.
وإذا كان القسم الأول للكتاب اختار التأمل النظري وإعادة رسم الحدود المعرفية في زمن الإبدالات الأكيدة في منعطف الألفيتين، فإن الثاني توجه إلي قضايا الشعرية العربية معلنا عن بعض الأطاريح ومستعيدا لبعضها الآخر بحثا عما تحمله الشعريات العالمية المختلفة من مشترك إنساني وما تتجاوب فيه الشعرية العربية معها بخاصة. فيه وقف محمد بنيس عند مجموعة من المداخل الفنية والجمالية للقصيدة العربية في ضوء انتمائها للأزمنة التي مرت بها والعلاقات التي نسجتها ثقافاتُها مع الآخر. كما بين بالخصوص أن الزمن الشعري الحديث بالنسبة للقصيدة العربية متعدد في ضوء العلاقات التي أقامها الشعراء مع محيطهم وضمن المجالات التي مستها ممارساتهم وهي تتردد بين الذات والآخر في اللغة والجنس الشعري كما في اختلاف الأسئلة والدوال التي ركبوا بها رؤاهم. بطبيعة الحال لم يعش شعر العربية في القرن العشرين اللحظة التاريخية نفسها بين المشرق والمغرب؛ ولا هو عبر بكل المضايق التي خبرها الشاعر محمد بنيس. فتاريخ البحث عن القصيدة وحداثتها في التقليدية وفي قصيدة النثر علي حد سواء (رغم اختلاف التسميات) مختلف من حيث الجغرافيات التي توجه إليها الشعراء العرب في المشرق وفي المغرب. وهو مرتبط بالعمل علي اللغة العربية بطرق متباينة وبالاعتماد علي عناصر نصية وثقافية مختلفة.
إلي بعض هذا أشار ثالث أقسام الكتاب "مع القصيدة" حيث استعاد مجموعة من القضايا ذات الصلة بتصور الشاعر للقصيدة، انطلاقا من وضعها علي رأس سلم القيم والضرورات الحياتية المعاصرة؛ أو النظر إلي الشعر في ضوء قدرته علي استعادة جمرة السر الأبقي للإنسان، ولكن أيضا - بالأساس في اعتباره تلك الممارسة القابلة للاختلاف ولاحتضان المشترك في اللغة والتكلم وفعل الخيال. فالقصيدة تجسيد لارتباط الشعري بالتاريخي؛ ولقدرة الذات علي استيعاب وتجاوز تمثلات التاريخ الثقافي وميراثه؛ وتجسيدها للواقع الاجتماعي في ارتباطاته البادئة مع الاستعمال المشترك للغة. من هنا جاءت هذه القصيدة العربية الحديثة ماحية للحدود بين الأجناس. مخترقة الأعراف من أجل أن تجسد "ذواتا متفردة، تعبرها الكثافة القصوي للنفَس، كثافة قادمة من المجهول وفي اللامعلوم تقيم، تلازمها صدمة المفاجئ" (ص. 186). واستطاعت في انفتاحها علي الجوار المتوسطي وعلي الآخر الأروبي والإنساني عن طريق الترجمة التعرف علي طريق الحداثة وركوب مغامراتها. في اللانهائي والغريب تارة، وفي ضراوة العمل علي القصيدة تارة أخري.
ينتمي كتاب محمد بنيس إلي اختيار متعدد يجعل القصيدة والخطاب حولها معرفة نوعية تحتاجها .. لما تتتصل به من أسئلة الزمن والإنسان. فتصور الشعر يقوم علي مجموعة من المبادئ النظرية التي يمكن الإشارة إلي بعضها في كون الشعر:
1. ممارسة فردية في مقام اللغة الفردية والجماعية والجسد الشخصي (في امتداداته الطبيعي والمجتمعي) وتاريخ علاقتهما.
2. تفاعلا بين تعدد عناصره البانية بما يجعل تصوره (الشعر) محكوما باختلاف العلاقات التي تنشأ بين الذات ومجالها وتاريخها؛ وبين التاريخ الثقافي والمعرفي الحاضر أو بين ما تستقيه القصيدة من ماضيها.
3. هو نتاج الإرث الثقافي والشعري بالنسبة للعرب حيث يوجه تصورهم للممارسة وللقصيدة وفي الوقت نفسه يمارس تحييدا أو تجاهلا حول بعض العلاقات المتعددة الأطراف التي نشات بين الشعر العربي والشعريات المختلفة الأخري في القديم كالشعر الفارسي والتركي.
4. لا ينفصل الشعري في بنائه عن الفلسفي. فالبحث عن القصيدة يتشكل في جذع تلك الممارسة التي ارتضت السؤال والقلق الوجودي وهي تتأمل عناصر المعرفة بالإنسان وفعله. فلم ينفصل سؤال القصيدة عند الشعراء الأساسيين عن قضايا الراهن والبحث عن سر الكائن وحدود علاقته بالآخر.. وما يترسم من خلال ذلك من مصير.
5. نقدا للهوية المطلقة. فتشكل خطاب شعري جديد يفترض عينا نقدية متحررة من صنمية النموذج ومن الحاجة إلي إرضاء الذوق السائد.
عبر معالجته لقضايا الشعر من خلال هذه الأسئلة أكد محمد بنيس بالملموس قولة بول فاليري أن كل شاعر حقيقي هو بالضرورة ناقد بارع. فالعمل علي القصيدة لا يضاهيه غير الاشتغال النظري بالممارسة لجدلنة كلماتها وجعلها منتشية في بهاء الفكر وإضاءاته لتلك الشقوق والتفاوتات. إن التردد بين قوة الكلمة ومتاهة الوجود - بالحوار الشعري بين النظرية والنص ينتهي بالشاعر إلي أن يجد الطريق إلي ملامسة قضايا الكتابة ومعني انتمائها للذات واللغة والتاريخ.. ويهيئ له سبيل الاقتراب إلي حدس الكتابة وجذع اللانهائي فيها. أي يمكنه من تثبيت الوهم الذي تنشئه الممارسة الأدبية وردةً في جَرَدِ الصحراء في مقابل الواقع وموحِشِهِ.
القدس العربي- 17/05/2007