عن دار نينوى السورية صدر مؤخرا للناقد محمد العباس “كتابة الغياب.. بطاقات مكابدة لوديع سعادة”، الذي تحدث في مقدمته للكتاب التي ننشرها جملة واحدة واصفا سعادة بأنه “تمادى في ذاتيته، تسامى، وأوشك بكلماته الهاذية أن يعانق الهواء، حتى صار كَمَنْ يحاولُ إيقافَ عابرينَ بالوَطْءِ على ظلالهم”. أو هكذا أرهقه عبث المحاولة لاستعادة “جمال الغائب” فتاب عن منادمة الذين يتشاغلون بالأشياء لئلا يرتطموا بذواتهم، مؤثراً الإقامة عند منابع الدمع، ومنابت الضلوع، ومنعطفات الدم، كما الشاعر العجوز كورنيل أولاتيتشو، الذي نقل عنه ادواردو غوليانو في كتابه “المعانقات” سخريته من الموضوعيين واحتفائه بجمالية الذاتي، فبتصوره أن “ أولئك الذين يجعلون الموضوعية ديناً لهم هم كاذبون إنهم خائفون من الألم الإنساني. لا يريدون أن يكونوا موضوعيين. هذه كذبة. يريدون أن يكونوا أشياء، لكي لا يعانوا “. أولئك خارج الحياة وقد خسروها، أما وديع سعادة فقد اكتسبها بمرارة معرفتها.
ويبدو لي أن أي قارئ يتورط في عبارته/أوجاعه سيكتشف على الفور المسافة الشاسعة بينه وبين أولئك الموضوعيين، فهو على خلافهم، أوثق ما يكون بذاته، أي في غمرة الكآبة التي لا يعالجها دواء. الكآبة التي تعني “ الأنا “ في مواجهة ذاتها إلى الأبد كما عاشها سيوران، ولذلك فهو أقرب ما يكون إلى حدة وشقاء الوعي بها فالآخرون برأيه “وحدهم يمكن اختراعهم، أما ذاتُنا فلا. هي تولد في مكانٍ بعيدٍ منا، وتعيش في مكانٍ بعيدٍ وتموت في مكان بعيد”.
وعندما يتعلق الأمر بالكتابة، ألا يعني هذا التمادي في الاغتراب ما يسمونه تحقيق الذات بوصفه اتساعاً؟! فان نكتب، يعني أن نتخفف من احترازاتنا، لنجعل من ذواتنا أمثولة، أو أن نقول أنفسنا بمعنى أكثر تجرداً، كما يقر بذلك أراغون، يعني أن ننوجد في النص كذات لغوية محمولة على متخيلٍ كتابي، لها طابع ومرغوبية الجسد الحي، حيث ينتفي وهم الحدود الفاصلة بين أقاليم الكتابة والذات والألم، فأن تتألم يعني أن تكون أنت ذاتك تماماً، بحيث تعيش حالة من عدم التطابق مع العالم.
معه حق هذا الوديع “ يجب أن يكون هناك طريقٌ آخر إلى الغابة “. والغابة، كما يُلبسها مخياله فتنة المجاز، هي كلماته أو شجرته المتيبسة في فمه، وأظنها ممره إليه، فهو سليل تلك الكائنات الذاتية التي لا تمارس رهاب التطواف حول الألم الإنساني خشية الاصطدام به، بل تتمرغ به لتعيد إنتاج نفسها به، والإنبعاث منه، إذ لم تكن كلماته، أو مجمل إنجازه النصي بالمعنى النقدي الأشمل، سوى محاولة عابثة لنحت بورتريه لغوي عن “ شخص يجلس مطمئناً على حجر “. كأنه إنسان باسكال المختصر في قصبة هشة ومفكرة في آن، أو في هذا المكمن الملتبس على وجه الخصوص تشكل إحساسه بالسمو، وعنه تولدت خلطة نصه الشعوريه المؤسسة على امتزاج المتعة بالألم.
حين تعرض الكائن وديع لحدث مركزي في حياته هو الفقد في أقصى تمثلات الغياب، أو هو الموت بمعنى أكثر إيلاماً، بما هو تجربة عمودية داخل الذات، اضطر لعبور تجربة إنهدام المعنى، وأفول المتعالي، واندفع - رغماً عنه - إلى الحافة، حيث يعيش ويكتب من هناك وفق تلازم بنيوي، أو سمو اضطراري. من أقصى نقطة في ذاته يكتبها أو يكاتبها. عندها لم يتوجب عليه الانعطاف بمجمل خبراته الحياتية وحسب، بل تغيير مواضعات تجربته الجمالية، ومعاشرة زمرة من العدميين الذين “ لهم سُطيحة في العدم، لا يستطيع الجلوس عليها غير الموتى. وياسمينة عالية أمام بيتهم، لا يمكنهم شمَّ زهرها إلا إذا صاروا هواء “.
ذلك النأي المتسامي كان هو الكفيل بعلاج تمزقات روحه، وموضعة ذاته في علاقة حية ومباشرة مع مشكلات الوجود، إذ تحولت تلك التجربة القدرية بشكل أو بآخر إلى جزء من لعبة لغوية متجاوزة لأي إمكان لغوي متعارف عليه، وهو ما تبدى بشكل لافت في تطويعه المرن للفائض من شعوره إلى لغة، وفي إدمان تساؤله الوجودي الحاد “ هل يمكن بناء بيت في غياب، وضع كرسي في عدم؟ “. ففي هذا الإحساس الهبائي يكمن اختياره لكلمات بعينها، أو خضوعه ربما لسطوتها، وفي قدرته على التعبير عن حدة فكره ومخيلته، من خلال ترسانة مفرداتية وعباراتية مغمّسة بمزاجه الاستثنائي، ومهارة صياغاته المتأتية من حسٍ قدري.
هكذا يبدو لي نصه، فهو على درجة من السمو لأنه يتقصد كتابته بحرقة أو معاناة غامضة لملامسة الفراغ، وبرغبة عبثية لمعانقة الخواء، وبروح غير هيّابة للإغفاء على تلك السُطيحة السابحة في العدم، فالكتابة برأيه “ لا تسكن في الحياة. مسكنُها في مكان آخر. على الحافة. في المتوهَّم “. وعليه فقد أثارتني هذه العبارة الباترة وما يشاكلها من شذراته الموجّعة، لاكتشاف سر تعاظم نبرته النتشوية المتمادية، والتماس بالدافع الغريزي الذي قرر بموجبه، أو تحت وطأته، أن ينطرح كذات مهددة بالإضمحلال، وينكتب دون احترازات عن محاولاته الدؤوبة لاستعادة جمالية الكائن الذائب. كما أغرتني بالتعرف على منسوب آدميته التي صعدّت الشاعر فيه ليصبح إنساناً، كما تفترض المقاربة الظاهرتية، ولكن دون إعمال منهجي لهذه الماكينة الفلسفية الهائلة..
هكذا قررت افتضاض سر تلك الوصفة البودليرية المؤلّبة، أي الكيفية التي استطاع بها تحويل كل عذاباته وانقهاراته وكل صنوف المباغتات الشعورية العنيفة إلى إلماعات فنية، ففي نهاية المطاف يفترض في الكاتب أن ينظر إلى عمله كعمل متعب وآخذ في التقدم، أو هكذا هي الكتابة برأي عبداللطيف اللعبي “ معاناة جسدية مضنية.. صراط حقيقي.. وفي الوقت نفسه بلسم وإكسير للانبعاث... الكتابة هي الإشارة للأعضاء كي تستأنف نبضها.. للجذور كي تعيد تأهيل قارة التاريخ.. للأيادي كي تستعيد وظيفتها الاستشفائية.. للعيون كي تستعيد قدرتها على الرؤية.. للكلام كي يهيكل من جديد عناصر الكيان المتناثرة، ويعيد له ذاكرته الخاصة”.
بشيء من الفطنة النقدية مدّد لي رولان بارت نص وديع سعادة جسداً لأتلذذ به، وأغواني لأقارب أساطيره الشخصية، وهكذا حرضني على مراقبة حركة الإمحاء والنسيان، المتأتية أحياناً من شعور فائض غير مقطور بذات، حتى صرت مقتنعاً ومستسلماً لفكرة جمالية مدّوخة مفادها أن الكتابة عنه يمكن أن تكون بمثابة نشاط في حيز القراءة، وعليه أعدت توزيع نصه المؤلب على جسدي ورغباتي الخاصة، إذ لا توجد كتابة أو قراءة بريئة، ولا تخلو أي منهما من سادية ومازوخية أيضاً. أو هذا ما ينطوي عليه فعل القراءة، أي التقاء كيانينا كما صممت اشتباكهما: وعيي ووعيه، انفعالي وانفعاله، خبراتي اللغوية واللالغوية قبالة خبراته.
من ذات المنطلقات الجمالية لشروط الاستقبال والتلقي، تقصدت أن تكون قراءتي أيضاً حقلا للذاتية المطلقة، لأماهيه، من خلال “ منهج رسائلي “ كفيل بتقليص المسافة أو إمحائها قدر الإمكان فيما بيننا، وذلك لإضفاء السمة الدرامية على النص المنتج من تداعيات القراءة، فالقدرة على قراءة النص أي نص بتصور نيتشة - دون تدخل تأويل ما، هو أدنى صور التجربة الداخلية تطوراً وربما أصعبها إمكاناً، وذلك هو أصل الرهان الذي حولني من قارئ مستهلك إلى منتج منادم له، يزيد من حماستي التذوقية، رغبة ذاتية في تقديمه للمتلقي كإنسان زاده الشعر إنسانية، فغدوت أقاربه ككائن مسكوب في نص معتق. وعليه صرت أتموضع في مكانه، بقراءة حلولية، لأُسمعه صوته معجباً، منادماً، معاتباً، ومشفقاً “ أنتَ.. يا من حسبَ أنَّه عبرَ كلّ الاشياء، جلستَ وقتًا أطول في مقهى الماضي “.
خلال معانقتي لوعيه، كما يفترض جورج بوليه بمنهج المقروئيات المنفتحة، لم أكن معنياً بتحديد المبدأ الشكلي لانجازه النصي، فقد تعاطيته بدينامية الرؤية الرامبوية في أقصى مرونتها الجمالية، فإن كان من شكلٍ لما ينقله الشاعر من العالم الآخر، يعطي في شعره شكلاً، وإن لم يكن من شكل، يعطي في شعره اللاشكل. ولكن بقدر ما احتكمت إلى المعيارية الكانتية في الوقوف على الإتحاد الجمالي بين شكل نصوصه ومضامينها في وحدة شعرية، كنت مهجوساً باكتشاف أكبر قدر ممكن من الشفرات، المنتجة بدورها لقدر جديد وحيوي من اللغة المنفتحة على تعدد المعاني، في قالب شعري هو بمثابة اتحاد غامض لا غنى عنه بين الكلام والفكر، لأنادمه ككائن مسلح بوعي لاهوتي إيماني عميق، يتحول مع كل شطحة لغوية إلى مفارقة خفيفة وسحر لفظي مدوخ، ليفصح عن الأصل الدرامي لمأساته، بما هو تفخيم إيماني للتناقض.
الكتابة، والكلام، والكلمات واللغة أيضا، منابع لسانية، أو مفاهيم جمالية كثيفة وضاغطة في نصه، تتولد عنها مفردات مسكوكة بوعيه الحاد ومزاجه الخاص كالغياب، والعبور، والنسيان، والعدم، والمشي، أو هذا بعض ما تفجر من ذاكرته كميراث خاص، بالإضافة إلى عبارات معجونة بطهورية القوة الالهية والبشرية للكلام عندما تنغمر روحه بغموض الإحتمالي فتؤرجح رأيه/مزاجه على عبارة رجراجة مثل “ على الأرجح “. أو عندما يلتصق ظهره بالجدار فتراوده نفسه بالفرار عبر اللغة لتئن صارخة “ عليّ أن “.
الايام
13 – 12- 2008