يسعى الشاعر سامر أبو هواش، في ديوانه الجديد «تخيط ثوباً لتذكر» (دار الغاوون، 2010)، إلى تظهير النداء الداخلي للقصيدة، ومقاربتها كفعالية بلاغية ونفسية تنهضُ على التذكّر وليس التنبّؤ، لأنّها لا تنطلقُ من رؤيا ميتافيزيقة للعالم، بل من شغف جمالي بأشياء الأمس وروائحه وإيقاعاته، والعودة إلى ماضٍ شخصي لا تزال أصداؤه تُسمع في حياة متكلّم مثقل بالنوستالجيا، يستحضر صور غائبين ثلاثة، سُمّيت قصائد الديوان بأسمائِهم، متكئاً على مرثية تأمّلية، متناغمة ومتداخلة، تعيدُ رسم ملامحهم، انطلاقاً من قوّة الشغف ذاتها التي توقظ الذكرى وتجعل الغائب حاضراً، حتى في أوج تلاشيه.
في هذا الاستحضار الهادئ والشفيف لأطياف الغائبين، وبخاصة للثلاثي اسماعيل وعادل وعائشة، يعيدنا هوّاش إلى ما ننساه وليس ما نتذكّره، لأن النسيان أقوى أثراً، وأشد مضاءً، يتغلغل في نسيج المدوّنة اللّغوية في شكل نداء باطني أو موسيقى صامتة، تشهد انقلاب الذاكرة على نفسها، واستعادة ماضٍ انزاح من مكانه، وبات نهباً للغةِ الذاكرة، أو ذاكرة اللغة، التي تصور مشهداً متبدّلاً باستمرار، مختلفاً عن نفسِه، منقلباً على حقائقه القديمة: «بلاطات الحيّ القديمة/ تتبعثر في موضعها/ كأن يداً/ آخر الليل/ تعيدُ ترتيبها» (ص 16). في هذا الانقلاب المفاجئ في هيئة المكان، والخلل الذي يصيب الصورة المستعادة، يجد هواش ثيمته المركزية، حيث تتماهى فعالية التذكر مع آلية استرجاع الحلم، فالنسخةُ الأخيرة التي نتذكرها، أو نتوّهم استحضارها، عبر الرموز والاستعارات، تظل دائماً غريبة، ونائية، لا تنطبق البتة مع الأصل. من هنا يصبح صراع الذاكرة مع اللغة، أو الأصل مع الصورة، نقطة انطلاق حقيقية للقصائد، المعنونة بأسماء أشخاص رحلوا، ولم يبق منهم سوى صورهم المحفوظة في الأدراج، يصفها هواش بالهشّة والهوائية، لأنها قابلة للكسر، ربّما بسبب قوة الغياب التي تشعّ من داخلها: «الصور في الأدراج/ يبست/ حتى يمكن كسرها بنظرة» (ص 34)
من هنا لا تستحوذ المخيلةُ الشعريةُ وحدها على مسرح الزّمن المستعاد، في قصيدة الشاعر، بل تسعفها الذاكرة أيضاً في ذلك، فهي تسترجع تفاصيل السيرة المتخيلة أو المستعادة، من طريق تصوير لُمَعٍ طيفية من دفتر مذكرات منسي، يكتفي المتكلّم الحالم بتقليب صفحاته، كمن يسترجع مشاهد متداخلة من حلم عابر، ويدوّن، من خلاله، ما لا يمكن أن يُدوّن. فالمدون يظلّ صدى للحادثة المستعادة، في حياة هؤلاء الغائبين، العصية على التدوين، يفتتحها اسماعيل المتلاشي في فضاء الحكاية، كصدى بعيد أو كغيمة تصير شخصاً: «الغيومُ تعاود شغل حيّزكَ/ على الكنبة/ ودخان سجائرك/ الملتف خواتم/ في أعلى الغرف». (ص 60). نلحظ هنا أن الوجود الحسّي للشخص يختفي ويتلاشى، ليحلّ مكانه ضباب الشخص، أو رجع صداه. هذا التذكّرُ للصدى في النصّ لا يدوّن ما حدث بالفعل، بل ما فشل المتكلم أصلاً في سرده. يبدأ السرد دائماً من خسارة أو فجوة لا تُردم، وتظل ماثلة للعيان، حاضرةً في الذاكرة، تضغط عاطفياً على اللحظة، وتحيل القصيدة إلى مواجهة مفتوحة مع الغياب، واستنطاق مستمرّ للبعيد الآفل. كمثل هذا الشخص الذي اختفى، وتحاول الذاكرة استرجاعه كرجع بعيد: «صداه يرنّ على المسمار/ وفي الشقوق المهملة» (ص 70). وفي هذا المعنى، تصبح القصيدةُ محاولةً لرأب صدوع الذاكرة، ورتق تلك الثقوب السوداء، في النص والحياة معاً، والتي غالباً ما نصحو على نسيانها، لتتحوّل الكتابة إلى آلية حلمية بحتة، تتداخل فيها الأزمنة، وتتصدع الأمكنة، وتتوارى الشخصيات في دهاليز نصّ يتذكّرُ أو ذاكرة تصيرُ نصاً. هنا تتحقق معادلة الشاعر الإنكليزي كولريدج، الذي يرى القصيدة نتاج فعالية مركّبة من التخييل والتذكّر، يسعى الشاعر من خلالها إلى لملمة أشلاء المشهد الشعري، وإعادة تركيب أجزائه ضمن قالب فني، يستوفي شروط الكتابة الإبداعية.
وهواش ينجح في دمج هاتين الفعاليتين، بدءاً من اختيار عنوان المجموعة، حيث الأمّ، عائشة، تبذل حياتها وهي تخيط ثوباً لتذكر، ما يعيدنا إلى أسطورة بينلوب المنتظرة، التي ظلّت عشرين سنةً، منكبّةً، تخيط كفناً وهمياً لزوجها الغائب، أوديسيوس أو عوليس. بينلوب تحيكُ انتظارَها - ثوبَها، من خيطان الذّاكرة، وتعتقل صورة الغائب، أو تؤبّدها في لوحة حسية نفسية من اختراع مخيلتها وذاكرتها معاً: «أحياناً/ تخيط ثوباً لتذكر». ص (51) لكن عائشة تتفوق على بينلوب في انتظارها، وتضاعف العشرين سنةً إلى أربعين، تبذلها مقيمة في صورة معكوسة، تقلب الحياة ذاتها رأساً على عقب: «منذ أربعين سنة/ تقيم في صورة مخدوشة بالأبيض والأسود/ وُضعت بالمقلوب/ على سطح الخزانة/ هناك تستمرّ حياتها» (ص 44). هذا الانصهار بين التخييل والتذكّر يمثل ركناً أساسياً في هاجس هواش الشعري، بخاصة أن ذاكرة المتكلم لا تشدّنا إلى الماضي فحسب، بل ترنو دائماً إلى مستقبل تنتظر قدومه. وبينلوب - عائشة، التي تحتضنها استعارة العنوان، لا تتذكّر فقط الغائب، عادل أو عوليس، بل تتوقّع قدومه في أية لحظة، وتبني صورته وتهدمها كالكفن الذي لا تكتملُ خيوطه أبداً، لأنه أكثر ارتباطاً بالحبّ منه بالموت. في هذا التذكّر العشقي لا شيء يبقى على حاله، فالأسماء والوجوه والضحكات «تتقشّر أيضاً عن الجدران/ كما الحروف/ عن البطاقات القديمة» (ص 19). ويشيعُ هجرٌ كامل، يبدّل ملامح المشهد، الذي لا يُرى إلّا من خلال عدسة الذاكرة، مهتزاً راجفاً، وقابلاً للتلاشي: «سنة بعد سنة/ تشيخ الأمكنة/ وتختفي الملامح عن الأضرحة». (ص 62). ومنطق الشاعر هنا يقول إن الأشياء تقيم في التبدّل والحركة، أو في «بياض كامل يوحّد الأرض كعماء»، إذ حتّى الضريح، رمز السكون الأعمى، لا ينجو من عصفِ الزّمن العابر.
ويبرز فرق نوعي بين المتذكّر والسارد، في قصيدة هواش، فالأول لا يُعنى بالحبكة أو منطق تسلسلها، بل بأصدائها وعثراتها، مستسلماً للهذيان أو التداعي الحر، بينما يسعى السارد دائماً إلى تفعيل الحدث وربط السبب بالنتيجة، وتأكيد قانون السببية (causality) الذي يحكم منطق الحركة السردية في الحكاية. لكن السارد في ديوان هواش متذكّرٌ مدمنٌ على النسيان، يهرب دائماً من منطق السببية، ويحاول استعادة ما ضاع من روح الحكاية الأصلية، خلال السرد وبعده، كما في هذا المقطع الذي يختتمُ الديوان: «بيدين من رخام قديم/ عادل/ كل ليلة يسردُ للنوافذ المقفلة، حكاية/ حكاياته الضائعة/ ويحلمُ بالغيوم». (ص 78). وعادل، بطل الديوان، لا يسردُ حكايةً ضائعةً إلّا للتدليل على فداحة الخسارة، وهو يلجأ للحلم، كتعويض حتمي للفقدان، وهذا يتجسّد في وعيه أو لاوعيه في شكل غيمٍ سريع الزوال.
وديوان هواش وقفة تأمّلية، رثائية، مع تلك الغيوم العابرة التي يحلم بها الشخص الغائب، والتي ينتهي إليها مصير شخوصه. ويمكن اعتبار الديوان بمثابة قصيدة واحدة، مع تنويعات على الاسم، تحيكُ ذكرى حكاية عائلية أبطالها أخ غائب وأب غائب وأم غائبة، يتبادلون الأدوار في عقل المتكلم الذي يحمل أثراً شخصياً من كلّ منهم. هذا المتكلم لا يرثُ شيئاً سوى ذاكرة جريحة، تستعيد أصداء حكاية بعيدة، ضائعة، يحاول أن ينقذها من براثن النسيان كما يفعل بطل مارسيل بروست في بحثه عن الزمن الضائع. إنّ ما تسعيدُهُ القصيدةُ هنا ليس ماضياً موضوعاً في صندوق أسود، بل الماضي وقد تحوّل إلى لحظات حارة، وجدانية، مبثوثة في نسيج الحاضر ذاته، تطارد الشاعر المفتون بالذكرى، في حلّه وترحاله. هنا يُحرَمُ المتكلّم من هبةِ السرد، ويستسلم للنداء الداخلي للقصيدة، في عملية خياطة مستمرة لجماليات اللغة الشعرية، التي تتكئ على التخييل والتذكّر معاً، وتعيدُ تشكيل صورة الماضي، وفقاً لبلاغةٍ رثائية دامعة، تومئ أكثر مما تسمّي، وتحملُ وعداً بعودة الغائب من ضياعه الأزلي في بحر الحكاية.
الحياة
الأحد, 28 مارس 2010