كأنه أحدُ حوارات صمويل بِكيت أو هارولد بنتر في مسرحهما الشاقّ الشيّق، من حيث الجمع بين ما لا يمكن أن يجتمع إلا تحت خيمة العبث. أو كأنه تجلٍّ أكبرُ من تجلّيات أشاوس تيار الوعي من حيث التداعي الحرّ للأفكار والأحلام وهلاوس الجنون التي أنتجت أجمل المنجز الفنيّ والأدبيّ في هذا العالم. كولاجاتُ وقصاصاتٌ وأغنياتٌ وأناشيدُ وصرخاتٌ وهمسٌ وأرَقٌ وصورٌ ورسائلُ ونوافذُ ماسينجر وروابطُ إلكترونية عدا الكثير من المتناقضات التي لا تتلاقى إلا في كتاب يحمل توقيعَ شاعرٍ أُطلقُ عليه مطمئنةً "بطل التجريب" اسمه عبدالله ثابت.
شاعر إشكاليٌّ بامتياز. بدءًا من عناوين كتبه التي تشبه الأُحجيات: النوبات- الإرهابيّ- أل هتك- C.V. حرام الخ. إذ سيصير على القارئ، منذ البدء، أن يبذل جهدا في معالجة العتبات الأولى لإصداراته، من عناوينَ وأغلفةٍ ومفتتحات، قبل أن يتسلّم مفتاحَ الولوج. ومع هذا لا يضمنُ له ذاك المفتاحُ الولوجَ الكاملَ إلا بمقدار ما يمتلك هذا القارئُ من "فنيّة القراءة ودُربتها"، فالقراءةُ فنٌّ صعبٌ ومرانٌ طويل، لا سيما إذا ما تعلّق الأمر بشاعر تجريبيّ مثل السعوديّ عبدالله ثابت. وكذا بقدر ما يبذل قارئُه من جهد في استنهاض مجسّاتٍ حدسية واستشرافية تعينه على معاجلة النص. فالتجريبية العالية التي يجول ثابت في فضائها ليضرب خيامه تستعصي على القارئ العادي "العابر" الذي بنى مُكوّنه المعرفيّ عبر الكتب السيارة الشائعة، حتى ما اندرج منها تحت خيام الحداثة وما بعدها. إذ سيجد نفسَه قبالة كتابٍ يضمُّ بين دفتيه كلَّ ما هو خارج عن المألوف من صنوف القول الكتابيّ والشعري، مستعصٍ على التصنيف الأحاديّ النقيّ الصافي. يقول ثابت: "خارج الاتجاه/ خارج النبر/ خارج الصبغات/ خارج الطيوب والجِيَف/ خارج قهوة البدو والكراسي الفرنسية/ سأخرجُ حتى عن اللمس/ حالاً فيما سيأتي/ أشطرُ كلَّ سنيني المخذولات/ أعبرُ شارعَ الصوت/ أصبحُ غازاً" هكذا يعلن الشاعرُ أنه خارجُ كل منظومة كتابية ووجودية ومدرسية فنية مما استقرّت في وعي القراء عبر تراكمهم المعرفيّ.
في ديوان سابق عنوانه: "أل هَتْك"، عملَ الشاعرُ على تمزيق و"هتك" جُدُر الشرنقة الكونية التي نحيا داخلها، نحن بني البشر، بوصف العالم المحيط رَحِما يحملنا جميعا. هذا العمل الدءوب على تمزيق المشيمة وقطع حبل الخلاص ثم محاولة الانفلات من العالم، والتحليق صوب عالم آخر، كان إيذانا بأن روحا قد تحررت من أسر جسدٍ وعالمٍ ومنظوماتٍ وقوانينَ لتبحث لنفسها عن ميلادٍ جديد لا يشبه ميلادَها السابق بالضرورة، بل حتما يخالفه ويناوئه. هو لونٌ من التمرّد الشامل على كل ما منحتنا الحياةُ من أسوارٍ تشقّ صدرَونا محاولاتُ القفز عليها، وعلى أساورَ وجنازيرَ أدمتْ بها الحياةُ معاصمَنا وأقدامَنا. تمرّدٌ حتى على ما تظنُّ الحياةُ أنها منحتنا من حريّات. والتمرّدُ على الحرية هو أعلى درجات رفض القيد. ذاك أن مفردة "الحرية" تحمل ضمنا، بطرف خفي، معنى "القيد". هو ميلادٌ جديد إذن، يحمل براءةً مطلقة، لا تعرف معنىً للحرية إلا بقدر ما لا تعي معنىً للقيد. ذاك أن الحريةَ شيءٌ يشبه خليةَ الدم، نعيش بها دون حاجة إلى فهم هويتها أو رؤية تفاصيلها. بهذا المنطلق وحده يكتب عبدالله ثابت، وبهذا المنطق يرى العالمَ ويُنصتُ إلى وقعه. نافرا من كل قيدٍ كتابيّ دارجٍ وقارٍّ. بدءًا من اختياره عناوينَ إشكالية ملغزة، ومرورا بمضامينَ نافرةٍ عن السائد، وانتهاءً بسيموطيقا كتابية غير مألوفة.
تتجلى بامتياز هذه السيموطيقا المغايرة في كتابه الأخير "C.V. حرام" الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت، ففضلا عن تعدد الأنسقة الكتابيّة في متن الكتاب، جاء اسمُ المؤلف على الغلاف مقلوبا أسفل العنوان. ثم بورتريه منحرف 90ْ لرأس الشاعر بشعره الأبيض المميز. على أن الوجهَ قد تمَوّه وتغضّن على نحو سورياليّ صممه الفنان السعودي هشام مسعود كأنما بريشة دالي. عينٌ ظاهرة، والأخرى خبيئة وراء كتلة لهب حمراء. ولم ينس مصممُ الغلاف الفنان الأردنيّ معتز قطيّنة أن يضع علامة "ممنوع"، المعروفة في تقنية الحواسيب وفي إشارات المرور، تحت حرف الألف في مفردة "حرام" كي يمهد للقارئ أنه مقبل على أرض غير مأهولة لم يطأها إنسان، وأن كلَّ ما سوف يلي هو من المحرمات الممنوعة. تآلفت إذن كلُّ عوامل الكتاب لتكريس فكرة الاحتفاء بالـ"حرام" بوصفه الانعتاقة الكبرى للفعل الإنسانيّ الأول، والأبديّ.
أنسنةُ الأشياء الجامدة لعبةٌ شعرية يحبّها الشعراء. كأن تعطي صفاتٍ بشريةً لأشياءَ غيرِ عاقلة مثل الكرسي والرياح والوطن الخ. لكن أنسنة "القيم المجردة" هو الجديد عند ثابت. فكيف تكون للحرام سيرةٌ ذاتية؟ ثم يلعب اللعبةَ الضدَّ حينما يمنح نفسه، في حوارات الماسينجر، اسم "نيكوتين"، واضعا جواره صورة رمزية هي علامة "ممنوع الدخول" (دائرة حمراء مشطورة بخطٍّ أفقيّ أبيض)، التي وظفّها المصمم في الغلاف. ستأتي كلُّ أحاديث نيكوتين مع أصدقائه كثيفةَ الشعرية، عكس أحاديث رفقائه الذين ليسوا بالضرورة شعراء أو أدباء. يقول نيكوتين، بطل الحكايا: "روحي تتجوّفُ كبئرٍ، والعالمُ والأشياءُ في هُوّتها صيحةٌ ضعيفة." هكذا تتسعُ روحُ الشاعر، وإن خَوَتْ، حتى تبتلع العالمَ كلَّه في سحيقها، ثم يخمد الصوتُ إيذانا بانتهاء هذا العالم الذي آن له أن ينتهي من كثرة ما ارتكب من خطايا. هنا مفتاحُ مشروع عبدالله ثابت الكتابيّ والوجوديّ برأينا. هنا رفضُه ونفوره وإصراره على إفناء العالم من أجل ميلاد عالم جديد أكثر براءةً وطُهرا. وحراما أيضاً. فلربما الحرامُ في عالم فَسدَ يكون هو الفضيلةَ والطهر. "هناك طعمٌ لذيذٌ للهلاك، ولا شيءَ يمكنه أن يحرسنا منه سوى أن نتذوّقَ طعمَه ولو مرّة، فلنتناول هذا المصل.. حينها ستكونُ عواصفُ الغبار فرصةً حقيقيةً لسماع أغنيةٍ من نوع "بعد حينٍ تُبدّلُ الأرضُ دارا، والعصافيرُ تهجرُ الأوكارَ"." هكذا يكتملُ رفضُ العالمِ بكل مفرداته الراهنة. فالهلاكُ التامُ هو فرصةُ الخلاصِ الوحيدةُ، والأخيرة، ولابد أنّا ذائقوه إذا ما طمحنا إلى عالم أجمل. وكما يتناصُّ الشاعرُ مع جورج جرداق نصيًّا ومضمونيًّا، سوف يتناص "أسلوبيًّا" مع كونفيشيوس ثم أرسطو في أسلوبهما الفلسفيّ المسمى "القياس المنطقي المتتابع"، يقول: "أشعلتُ تلك الشمعةَ/ كانت شمعةً بيضاء ومفلطحة/ مفلطحةً مثل قلب/ قلبٍ مثل حرقٍ على زند سجين/ سجينٍ يائسٍ ومحكومٍ بالمؤبد/ تلك الشمعةُ غرستُها في النافذة/ لا، لا.. غرستُ النافذةَ فيها/ لكنَّ الهواءَ العابرَ أطفأها/ الهواءُ العابرُ كنفحةٍ/ نفحةٍ أطفأتِ الشمعةَ هكذا "هففففف".../ ومضت!." فنجد أن نهايةَ كل جملة، هي بدايةُ الجملة التالية، في دائرة لا تنتهي، تشي بسرمدية الأشياء في دورتها الحياتية الدائمة، والمملة حدّ القتل. يؤكد الشاعرُ على ذلك النزع الدائريّ في أنه اختار أن يبدأ كتابَه باستدراك، مما يأتي عادة في منتصف الفقرات لا بدايتها، وهنا تمرّد آخر على أجرومية اللغة، فيقول في مفتتح كتابه: "وخلقَ استدراكا، وكلما ازداد يوما إضافيا تيقن أكثر أن كلَّ شيء على هذا الكوكب امتنع عن استقباله ابتداءً، لكنه أتى أخيرا." ثم ينتهي الكتابُ بالجملة ذاتها لكن داخل نافذة ماسينجر على لسان البطل "نيكوتين". وهنا فقط، للمرة الأولى والأخيرة، سوف يحلُّ وجهُ المؤلف عبدالله ثابت محلَّ علامة "ممنوع الدخول" التي ظلّت هي الصورة الرمزية المصاحبة لنيكوتين في الماسينجر، على مدار الكتاب. في إفصاح من الشاعر لقارئه، قبل أن يسجّل sign out ويخرج، أن نيكوتين إنْ هو إلا الشاعرُ ذاته، الطامحُ إلى هلاك العالم، مثلما يُهلِكُ النيكوتينُ الإنسانَ. من أجل خلق عالمٍ جديد. إنسانٍ جديد.
الوطن
1 اكتوبر 2008