لغة القلب المفعمة بالبراءة ودقة التصويب
عملاً إثر آخر يثبّت الشاعر الأردني زياد العناني أقدامه في أرض الشعر ويرسخ تجربة لا تني تجدد نفسها منذ مجموعته الأولى «خزانة الأسف» وحتى مجموعته الأخيرة «زهو الفاعل». وخلافاً للكثيرين من مجايليه الذين فاجأوا قراءهم بإصدار أول لافت ومفاجئ ثم تحولوا بعد ذلك إلى «وجهاء» ومنظرين وناموا على حرير ما أنجزوه فإن العناني ما يزال قادراً على مباغتة قرائه والأخذ بيدهم نحو عوالم شعرية طازجة ومتخنة بالطهارة رغم غرائزيتها الظاهرة. وهو أمر لم يكن ليتيسر للشاعر لولا توقد موهبته واضطرامها من جهة ولولا إخلاصه لقضية الشعر وانقطاعه لها بكل جوارحه من جهة أخرى. فالشعر هنا ينبثق أولاً وأخيراً عن طاقة الروح الحية وعن فورانات الداخل ورهافة الإصغاء الى تفتح الحياة أو ذبولها لا عن المعادلات اللغوية الكيميائية او الرقص البهلواني على حبال البلاغة وزخارفها الخارجية.
تعيد تجربة زياد العناني بهذا المعنى الاعتبار لقصيدة النثر العربية التي ما ان مضت عقود قليلة على انطلاقتها حتى بدأت تصاب بأعراض الشيخوخة والركود والوهن وتنزلق نحو المفاهيم التي سبق لها وانقلبت عليها في فترة التأسيس، ومن بينها النمطية والاستسهال والتشابه والتكرار وغياب المعنى وهشاشة التجربة والتوليد اللغوي الذهني والابتعاد عن الحياة. على ان الموضوعية والانصاف تقتضيان الابتعاد عن التعميم والاشارة إلى ان تجربة كتجربة زياد العناني لم تكن لتتبلور في العدم او الفراغ الخالص بل هي الوريثة الطبيعية لخط في قصيدة النثر آثر أصحابه ان يجعلوا اللغة انبثاقاً عن دورة الدم واتصالاً بعصب التجربة وتراب الواقع المحسوس، وابتعاداً عن التعمية والاغراب اللفظي، وهو ما تلمح تجلياته بوجه خاص في تجربة محمد الماغوط كما في تجربتي وديع سعادة وبسام حجار حيث الشعر منتزع من الأليف والمعيش واليومي ومن العائلة والمنزل ونزوح المكان وخيبات الجسد وتصدعاته. وإذا كان العناني يتقاطع مع سعادة وحجار في تحويل الذات الى مرجع أساسي للكتابة بعيدا عن شؤون السياسة وشجونها فإنه من جهة أخرى يتقاطع مع الماغوط في ربطه الدائم بين تراجيديا الفرد وتراجيديا الجماعة وفي تورياته الهجائية المتكررة ضد سلطة الاستبداد العربي.
في مجموعة زياد العناني الأخيرة «زهو الفاعل»، صدرت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، تتبدى لنا خصائص تجربته السابقة الناضحة بالصدق والسخرية اللماحة والفكاهة السوداء والصورة المفاجئة، مضافاً إليها المزيد من الحذف والاختزال والتسديد المحكم نحو الهدف. فالشعر هنا هو فضح باللغة والصورة لفساد الواقع وتحلله وزيفه بقدر ما هو محاولة لتقويض السلطة القائمة والمهيمنة على المستويات الأخلاقية والسياسية والدينية والاجتماعية. وهو تقويض لا يمكن ان يتم عن طريق استعادة النموذج اللغوي المهيمن او النص الجاهز الذي يبدو في نظر زياد استبداداً موازياً لنظيره السياسي بل عن طريق الاحتكام الى لغة القلب المفعمة بالبراءة ودقة التصويب نحو الهدف والابتعاد عن الافتعال والبلاغة المتعسفة. ولعل كلمة زهير أبو شايب المثبتة على غلاف المجموعة الأخير تعبر خير تعبير عن احتفاء الشاعر بالحرية وخروجه على النص السلطوي، حيث يقول عن كتابة زياد بأنها «تؤسس لمذاقات برية تمجد الحرية بوصفها الأرض المقدسة الوحيدة التي تصلح فضاءً للكتابة. وهكذا ينهش الشاعر تعيُّنات السلطة المختلفة، بوصفها نقيض الحرية ونقيض الشعرية، من دون ان ينزلق الى مستوى الكتابة الاستعراضية التي توهم في الظاهر بأنها تجابه السلطة فيما هي في الحقيقة امتداد طبيعي لها».
مفاجأة القارئ
يحضر موضوع الكرسي بوصفه العمود الفقري لقصائد القسم الاول من المجموعة التي لا يعطيها الشاعر عناوين محددة بل أرقاما متتالية يشير كل منها إلى زاوية مختلفة من زوايا النظر الى الكرسي برمزيته المعبرة ووظائفه المختلفة. صحيح ان الكرسي شكل منذ زمن مادة خصبة للتناول من قبل الشعراء والمسرحيين والروائيين والفنانين التشكيليين ولكن هذا لا يمنع كل واحد من مقاربته بشكل مختلف ورؤية مغايرة تماماً كما هي الحال مع البحر او الحائط او الشجرة او الحب وغير ذلك من الموضوعات التي لا حاجة الى التذكير مرة جديدة بمقولة الجاحظ حولها. واذا كان الشاعر الكردي شيركو بيكه س قد أفرد للكرسي مجموعة كاملة معلناً من خلالها بأن جميع البشر يتسابقون للجلوس على هذا «المخلوق» الصابر على الظلم منذ زمن طويل وأن «الحرية وحدها لم تجلس عليه بعد» فإن العناني يربط الكرسي بالجريمة الأولى وبشلالات الدم التي ذرفتها البشرية منذ وجودها. «تخيلت كرسياً فسال دمي» يقول الشاعر في بداية مجموعته ثم يصعّد الموقف في المقطع الثاني معاتبا العناية الإلهية التي «لم تظهر في الوقت المناسب قبل ان تغرق الدنيا بدمنا ونموت مضطهدين في شبهة كرسي كلما رفعناه يسقط فوق رؤوسنا». وما يلاحظ في هذا السياق ان الشاعر لا يكاد يفرغ من الحديث في صيغة المتكلم المفرد حتى ينتقل الى صيغة الجمع كما لو أن الشاعر لم ينفصل تماماً عن كونه ممثل الجماعة والناطق باسمها والحامل لهمومها وتطلعاتها. لكن الأمانة تقتضي ان أشير إلى أن الأمر عند زياد لا يتصل بالادعاء أو تضخم الأنا أو احياء دور الشاعر القديم بقدر ما يتصل بترابط الأنا الفردية مع الأنا الجمعية في التراجيديا الفلسطينية والعربية المعاصرة، أو بما يمكن اعتباره جزءاً من لعنة السلالة والارتباط الوثيق بمصيرها، كما هي الحال في الكثير من قصائد محمود درويش ومحمد الماغوط وسعدي يوسف. وفي المقطع الثالث من قصائد الكرسي يخاطب العناني الحاكم العربي من دون ان يسميه قائلاً «طال جلوسك فوق إلية الكرسي بلا قلق ولا ذبابة خيل طال جلوسك ليس لأنك منا ونحن منك بل لأنك ماهر جداً في تدريب الكلاب على رسم الفريسة وهي تغرق في الدماء».
لا أعرف من أين يأتي زياد العناني بموضوعات قصائده الغريبة والطريفة وغير المنتظرة ولكن ما أعرفه أنه قادر على مفاجأة قارئه باستمرار محاذراً، الا ما ندر، الوقوع في مطب الافتعال او العادية او التنميط. واذا كنت أحرص على مجانية التعميم والاطلاق فلأنني أدرك ان هذا النوع من الشعر الذي يقارب المقطوعات القصيرة والمكثفة يصعب ان يكتب على سوية واحدة وأن يحقق النجاح ذاته في كل مقطوعة.
المرأة والشهوة
ففي حين ان القصيدة الطويلة تجد في الانشاد الملحمي او الصور المحتشدة او التلوين الصوتي والايقاعي ما يشفع لها في حالات التشتت او الوهن فإن الأمر في القصيدة القصيرة الشبيهة بالتوقيعات مختلف تماماً لأن القصيدة أشبه بالطلقة الخاطفة التي تنجح أحياناً في التسديد الى قلب الهدف وتخفق أحياناً أخرى في ذلك فتقع مرة في النثر العادي ومرة أخرى في التأليف المتعسف او تصيد الطرف والنكات. واللافت عند زياد قدرته العالية على الجمع في معظم قصائده بين المجانية العابثة وبين المعاني الدالة والمثيرة للأسئلة. وهو إذ يقــترب أحيانا من انتهاك المقدس وتجاوز الخــطوط الحمراء تجد له براءته الاستثنائية وسريرته النقية ما يخاتل به عقول المتشددين والمتصيدين في المياه العكرة للمعاني، كما هي حال قصيدته «سارق الأحذية» التي يقول فيها: «لسبب ما توضأت عند المغسلة لسبب أو لآخر ذهبت معهم وعدت قبلهم لسبب لم يكُ واضحاً عادوا الى منازلهم حفاة منهكين لسبب ربما يشبه الظلام لم تعجبني أحذية المصلين وهي تنام على الباب فسرقتها».
ليس ثمة من ادعاء ثقافي او معرفي في قصائد «زهو الفاعل» كما في شعر زياد العناني بوجه عام. لا استعراض هنا للقدرة او المهارة، ولا رغبة في تقديم أوراق اعتماد إلى أحد سوى ذات الشاعر ورغبته في سفح مكابداته ومعاتباته وسخطه على الحياة او ابتهاجه بها على الورق. لا محاولة من أي نوع لتزيين الواقع او لترميم أجزائه المتوهلة كما يفعل أطباء التجميل بل ثمة حرص على سفور الأشياء ونزع أقنعتها لتحافظ على فطرتها الأولى وبداهتها الخالصة. وهذا الأمر ينطبق على الأشكال كما على المضامين وعلى الأسلوب كما على الأفكار والمعاني. ولما كان الشاعر ينطلق من خلفية ايقاعية واضحة فإنه لا يخلّص قصائده النثرية من جنوحها المتكرر نحو الايقاع التفعيلي حيث نقرأ له قوله على البحر المتدارك «في عام الفيل ولدت هنا فانتشر الدم وانتشر الحزن وانتشرت عولمة العميان». وبالطريقة نفسها يرى الى المرأة والشهوة والحب متلمساً طريقه الى كل ذلك عبر وسائل استشعار بدائية تتضافر فيها الحواس الخمس مع الغريزة البحتة والاشتهاء الصرف ومحاكاة الحياة في دركها الأرضي: «تعرّقي ماذا علينا سأشمك لا بأس على الجسم القمحي لا بأس عليك من الندى تعرّقي من كل شقوقك الجثة وحدها لا تتعرّق بل تتفسّخ وتذوب».
السفير- 2- 10-2009