فريد أبوسعدة
(مصر)

فريد أبوسعدةإلى أين يمضى
هذا الأسمر الفارع
قالت الوعول :
   ذاهب إلى ترجمة الليل
   ذاهب ليكون قاسم حداد
قلت: كيف؟!
قال وعل بقرون ذهبية :
   إذا رأيته لا يطمئن إلى جهة ولا يستقر فى إقليم
فهو قاسم
   إذا رأيته يتحصن ضد أوهام لا يراها سواه
فهو قاسم
  وإذا كان لا يأخذك ولا يتركك
فهو قاسم .

 أهو شاعر أم نبى؟!
سألت الوعل فقال
: أكثر قليلا من شاعر .. أقل قليلا من نبى

وحده فى ليل النص
تتقاطر حوله مخلوقات ترفل فى هودج اللغة
يبتكر أحجارا كريمة
يصقلها نحاة
يسهرون على كلام الجسد  

 قلت  لغتى يسكنها نبى حينا و حينا يسكنها شاعر ، لغتى مأزومة
 فعندما اطلعت فى الصبا البعيد على شيء من ( العهد القديم ) تبدت اللغة على نحو مواز ، فبدلا من القوة و الجزالة و الإحكام و الكثافة فى القرآن رأيت نفسى أمام لغة رقيقة طازجة هشة و آسرة بما هى كذلك. إنه الآخر فى اللغة . و لعهد طويل جدا ظلت لغتى مأزومة بين هذه و تلك.. بين الإحكام و الطزاجة ، بين القوة و الرقة ، بين ذكورة الصحراء و أنوثة الماء، بين لغة الشعر و لغة النبوة. كنت أكتب لأن الكتابة كأزميل النحات تفصلنى عن الكتلة العمياء ، و تحققنى كوجود بصير ، أما قاسم فيكتب لأنه خائف . ولأن الكتابة تحميه من العالم .
يقول العارفون به إنه يولد مرة بعد مرة وفى كل مرة يكون شخصا آخر، لأنه مولع بالشكل، و يرى أن تحولات الشكل هى استجابة صادقة لقلق الروح و المخيلة، كنت أسمعه يقول :

هل النص شهوة اللغة
هل المعنى شكل يفيض بالأبجدية

فى أوائل السبعينات كنت أفكر على هذا النحو : إذا كنا جميعا نقول الشىء نفسه تقريبا، مسايرة للناصرية أو مناهضة لها فالأهمية إذن لم تعد فى القول وإنما فى كيفية القول، أى إن الشعرية قد انتقلت من المضمون إلى الشكل بتعبير تلك الأيام البعيدة، وقاسم أيضا كان يرى ذلك، بل و يرى أن نفى الشكل هو نفى للشخص كفرد و ذات فى مقابل ترجيح عمومية المضمون المحتمية بشعار جماعية الرؤية. كنت أقول  إنه ما دام المضمون  هو كد الشاعر و همه الأول فقد أصبح من الممكن، بل من الطبيعى أن يكون البعض نوابا عن الكل، و يكون الشعر فرض كفاية وليس فرض عين. 
تساءل قاسم :  ما الذى يميز شاعرا عن آخر إذا كتبا فى مضمون واحد، لماذا يعجبنى الأول و لا أتوقف عند الثانى، لابد أنه الشكل. كان مأخوذا بأهمية الطريقة باعتبار أن الشعر سعى جمالى لاكتشاف التجربة الإنسانية بحساسية تليق بها، ولمنح النص فرصة أن يقول شكلا جديدا ..

سمعت الأجراس و هى تنهض من نومها
سمعتها مبحوحة الصوت
تريد للريح أن تحمل الكلام
تريد للزوقة أن تنهر السماء
تريد للطرائد أن تكف عن الحكاية

سمعت الأجراس تخلع نحاسها العتيق
وتأمل في هواء جديد
أكثر رحمة من الحجر.

لسنا على وفاق دائما لكن ما نختلف عليه قليل فى الحقيقة، أنا مثلا لا أحفظ شعرا  لا لى ولا لغيرى و دائما ما كان هذا يخجلنى، أما هو  فكان يقول إن لديه موهبة النسيان الأمر الذى يجعله يقبل على الكتابة كما لو كان يكتب للمرة الأولى، فهو لا يصدر عن ذاكرة تختزن ما كتب أو حفظ وساعده هذا على اكتشاف عوالم و أساليب جديدة تبتكرها المخيلة و لا تدفقها الذاكرة. 
في تجربة قاسم كما أرى عدة نقلات، ففي أعماله الأولى مثل البشارة وخروج رأس الحسين والدم الثاني، أجد شعرية الخطاب ، حيث يصبح الشعر أداة لتغيير العالم من منظور الذات الشاعرة وجماعتها المرجعية. كان هذا حتى منتصف السبعينيات، لكنه ابتداء من (قلب الحب) و (القيامة) في أوائل الثمانينيات راح يخرج من تحت جلده شخصا بعد آخر   كلهم باسم قاسم لكنهم لا يشبهون بعضهم البعض، و فى هذه التحولات اختفي الشاعر النبي الذى كان يثق في دعواه وفي قدرته على التغيير. كان قاسم  يتحول من شعرية الشعار إلى شعرية الرؤية والكشف، من الظاهر إلى الباطن، من قصيدة التفعيلة إلى قصيدة النثر، وحتى النص التفعيلي المطول(القيامة) يظهر بصريا في عدة أشكال تخفت من هيمنة الصوت وتجعل الدال اللغوى واحدا من دوال الشعرية لا وقفا عليه، و هو ما جعل من الممكن قراءة كل سيرورة من سيرورات الشكل قراءة خاصة، كما جعل الجمع ممكنا بين كل الأشكال وسيرورات قراءتها في مقاربة واحدة.

نقلت روحي من النص للحاشية
وهيئتها لاحتمال الغياب
كأن الكتاب
سيمنحني ناره الغاشية.

 في تحوله الثالث انفتح قاسم على الآخر المبدع باعتباره قرين الذات الشاعرة وامتدادها المختلف عنها والمتشاكل معها في آن واحد، كما في تجربته مع الروائي أمين صالح في (الجواشن)..

لماذا دخلنا هذا النفق الجهنمي
ليس ثمة ضوء
لا همس ولا محادثة
الأسطورة تنام هنا
طوينا الأسلحة كالعباءات
بعد مسافات من التمائم
خضنا أشداق الوهم
كمن أسكرتهم شهوة النهايات
كان رحيلنا فاحشا.

و كما فعل مع ضياء العزاوي في (أخبار مجنون ليلى)، حيث تلتقى مخيلتان في أبهاء نص واحد. تجربة قاسم في هذه المرحلة تجربة جمالية وجودية تستكشف حياة الكائن الظاهرة والباطنة، وهي تختزل كشوفه في الشكل وتكثفها بوجازة التقطير. إن الحشد الذى يحمل اسم قاسم يعنى أن كل كتابة جديدة هى علاقة مختلفة بالآخر و بالعالم..

لا أحد يعرف الحجر مثلى
بذرته فى أجنة الجبل و ربيت فيه وردة المعادن
فشبّ مثل طفل يمشى و تبعت خطاه
صمته قلب يصغى و عزلته الجدية تعلم الكلام
صقيل يشفّ عن الكنز و ينبثق فى كتب و فى مرايا
أقرأ فيه زجاج الجنة و تعويذة العشق
يتصاعد خفيفا و يمنح الريح صداقة الكتابة
مثلى

الأشكال المستقرة سلطة، هكذا أعتقد ويعتقد قاسم، إذ تتماهى سلطة الشكل مع سلطة الواقع ويصبح على الفنان أن يعبر عن ذاته المتمردة بكسر الشكل و إعادة بنائه مرة بعد مرة، و ليأخذ فى كل مرة شكل الحياة و شكل العالم فى تحولاته.
الإبداع في عمقه ثقافة مختلفة وفكر آخر وبحث في فضاءات جديدة لكتابة تفارق السائد والمسيطر، هكذا يصل قاسم الشعر بالفكر النقدي مفككا الخطابات التقليدية لكشف أشكال مركزيتها وعنفها المستند إلى مقولات ميتافيزيقية. لكنه غامض أحيانا!
فابتسم الوعل وقال :
لو فهموا المعنى لأهدروا دمي
قلت  : دمه أم دمك؟
قال    :  سيان.. دمه أو دمي
قلت   :  أأنت قاسم حداد
قال    :  كأنى هو