أجمل أنواع النقد وأقربه الى القلب ذاك الذي يصدر عن حسد عميق أو حب عظيم، فالشانئ يعثر بعينه الثالثة على سقطات وأخطاء لا ترى إلا بالمجهر، والمحب يرى بعين القلب ما لا تراه العيون.
في يوم تكريم الشاعر البحريني قاسم حداد في أصيلة المغربية سمعنا نقد الحب غزيرا فياضا فكأن هذا الشاعر ليس من الحياة الثقافية العربية المليئة بالشحناء والبغضاء والشللية والنميمة، إنما من كوكب آخر بعيد عنا، فنادرا ما تعثر في الوسط الثقافي العربي على من لا يحب قاسم حداد الشاعر والناثر الذي يشع رومانسية وأملا وصلابة موقف.
لكن كيف أصبح حداد الأمل والمحبة هكذا؟ وبماذا استحق هذه المكانة..؟
أولا وبعيدا عن الشخص استحقها الشاعر لان كتاباته من النوع المغير لقارئه، فبعض الكتاب لا يغيرون فيك شيئا مهما قرأتهم وبعضهم يؤثرون فيك في العمق فتخرج من قراءتهم مغسولا وجديدا مع بعض حزن شفيف وغضب نبيل.
ومن النص الى الشخص تضاف قيمة أخرى تميز المبدعين الكبار، فقاسم من النوعية المتواضعة التي تعلمك وكأنها تتعلم منك وتسيل من بساطتها كالأنهار فياضة رقراقة لتروي ضفافا كثيرة وشجرا كثيفا وعشبا غزيرا.
في كتابه الأخير (ورشة الأمل) خجل أن يحكي عن نفسه فجعل الكتاب سيرة لمدينة المحرق التي شب فيها ـ من محرق وحبر القلب بحريني ـ فجاء ذلك الكتاب مثقلا بشجاعة الاعتراف وحب الناس والمكان ومنه عرفنا ان قاسم ليس حدادا بالاسم فقط فقد مارس الحدادة فعلا في ورشة أبيه بالمحرق وهنا معجزة الموهبة التي حولت قسوة المطرقة ولفح نار الكير الى بوح ياسمين وشفافية حبق وزنبق.
ومع سيرة المحرق البحرينية يأتي الحنين لتاريخ الجبل الأخضر في السلطنة ليدل على ان الشاعر ما يزال فعلا ضمير الجماعة، ففي الخليج العربي كان ذاك الجبل وتلك المدينة في الستينات قبل استقلال معظم دول الخليج عن بريطانيا من أبرز رموز النضال السياسي ضد الاستبداد المحلي والهيمنة الخارجية.
ان شجاعة الاعتراف لا تدل على ثقة بالنفس فحسب، بل على ثقة بالناس وفهمهم لطبيعة الضعف الإنساني فجميعنا نحزن ونخطئ ونبكي وقلة منا تطهر نفسها بالاعتراف أمام الحقيقة بكل تصرفاتها وهواجسها الداخلية المقلقة.
منذ ديوان (البشارة) و(القيامة) الى (علاج المسافة) و(يمشي مخفورا بالوعول) كان حداد المحبة والأمل يطرق نصا نضرا مختلفا ويوازي بنجاح بين فنية النص وحمولته السياسية والاجتماعية، فقصائد المباشرة السياسية موجودة عنده في البدايات فقط، أما في المراحل اللاحقة فقد نضجت المعادلة وصار ذلك الشاعر المميز يعرف كيف يوفق بين نشارة الواقع وخشبه وبين ذهب المعنى وفضة الكلام.
ومن آيات تميزه فنيا طريقته في التصوير فجاذبية استخدام الصورة كما قال درايدن ذات يوم بعيد عن شكسبير هي التي تميز بين الشعراء الكبار وغيرهم ولك ان تضيف إليها القدرة على موسقة الإيقاع، فقاسم إضافة الى المعرفة بالإيقاعات الخارجية من الشعراء القلائل الذين يعون بدقة مسألة الإيقاع الداخلي في بنية النثر والشعر.
قل هو الحب...
هكذا نطق حداد المحبة نيابة عن قيس المجنون، ولأن الحب فعل دائري وعدوى مباركة جميلة كان لا بد ان تسيل محبة قاسم حداد العذبة لتعدي وتروي، ثم تعود اليه عكس اتجاه الأنهار من المصب للمنبع فمن يزرع الأمل يحصد الحب في عالم جاف ومتعطش بشوق عارم لذاك الإكسيرين النادرين.
الشرق الأوسط
19 اغسطس 2004