كان للشعر حظ ونصيب وافر في برنامج موسم أصيلة الثقافي في دورته السادسة والعشرين، من خلال تكريم ثلاثة شعراء، ينتمون إلى ثلاث مدارس وحساسيات شعرية وفضاءات ثقافية متنوعة، أولهم، ليس بترتيب القيمة والأهمية، البحريني قاسم حداد الذي كرمه الموسم، اعترافا بقيمة منجزه الإبداعي وتجربته الإنسانية الحافلة، وإكبارا لعصامية قلّ نظيرها في سير المبدعين، قادته خلال طفولته إلى امتهان عدد من المهن الشاقة. وهذا الملمح استوقف أغلب المتدخلين في الندوة التكريمية التي ساهم فيها دارسون ومبدعون تربطهم بالشاعر صداقات إنسانية وأدبية.
كان محمد بن عيسى، أمين عام مؤسسة منتدى أصيلة، أول المتحدثين المرحبين بالشاعر الذي أضفى عليه صفة "الجميل" واضعا الاحتفاء به ضمن العناية التي أولاها موسم أصيلة للشعر والشعراء منذ انطلاقته، من خلال جائزتي "تشيكايا أوتامسي" وجائزة بلند الحيدري للشعراء الشباب، مضيفا أن احتفاء منتدى أصيلة بالكثير من الشعراء لم يكن سوى استجابة لما يستحقه الشعر في حياتنا، لذلك يكرس المنتدى جهوده ليظل الشعر حاضرا باستمرار، وليتجدد في هذا الاحتفال المخصص للشاعر البحريني قاسم حداد، ذي التجربة الإبداعية العميقة.
وأعقب كلمة الافتتاح تدخل الناقد السعودي معجب الزهراني الذي أشار في مستهل مداخلته إلى أن الشاعر صرف جهدا كبيرا خلال مساره الشعري من أجل أنسنة الحياة، ملاحظا أنه من الصعب أن يكون شاعر ما متميزا بين جمهرة الشعراء.
وصنف الزهراني قاسم حداد، ضمن فئة الشعراء أصحاب التجربة، وهي الميزة التي وصلها بعد أن مر بمرحلة ما سماها شعرية النص، مشيرا إلى أن شعراء التجربة، بمعناها الفني والإنساني الشامل، قليلون في العالم العربي، تلك المرتبة الفنية ارتقاها الشاعر بالدأب والاجتهاد، فتحول الشعر عنده إلى ارتكاز وجودي وأنطولوجي في نفس الوقت، متجاوزا المرحلة النضالية التي طبعت أعماله الأولى، إلى محاورة الذات العميقة، مستكشفا مجاهلها ومناطقها المعتمة.
واستنتج الزهراني أن مسار تجربة الشاعر يتسم بالاتساق والانسجام مع المحافظة على الثوابت الفنية، مما أهله لكي يكون صاحب تجربة شعرية إنسانية، فهو على سبيل المثال لا يلعب بالعبارات بل يمارس بحثا شاقا ومضنيا في ذاكرة الكلمات وتخوم اللغة، ليلتقط ما هو قادر على التعبير عن ما هو عميق في الذات الفردية والجماعية.
وتوقف الناقد السعودي، عند ملمح آخر رصده في تجربة الشاعر المتطورة باستمرار، سماه الولع بقيم محددة مثل الحب والتمرد، البارزين في تجربته الخصبة، مما يؤشر في نظره، على تمسك الشاعر بالحياة في أعمق معانيها، ملاحظا في نفس الوقت أن تجربة حداد الإبداعية لم تنل حظها بعد من الدراسة والبحث، معتبرا سيرته الذاتية "ورشة الأمل" إحدى مفاتيح الدخول إلى أغوار تلك التجربة المتجذرة.
وقدم محمد البنكي، رئيس تحرير مجلة "أوان" والأستاذ بجامعة البحرين، هو الآخر، قراءة لبعض أعمال الشاعر، مبتعدا قدر الإمكان عن الترسانة المصطلحية النقدية التي تحجب صورة الإبداع في بعض الأحيان، ملتفتا إلى أن الشاعر يستدعي تقنية السرد النثري ويدمجها في نصه الشعري، ولذلك، فإن المتدخل تخوف من أن يقتصر الاهتمام في ندوة التكريم، على الشعر وحده، معتبرا كتاب "ورشة الأمل" نصا نثريا مشتملا على مجازات كبرى.
ووجه أمين صالح، شريك الشاعر في مؤلف "الجواشن" تحية رقيقة إلى زميله الذي حضر إلى أصيلة، وهو الذي نادرا ما يغادر البحرين، مستعيدا ذكريات لقائهما الأول، معترفا أن أحدا لم يحب الآخر في البداية، فقد كان، صالح، في مطلع حياته الأدبية خجولا، بينما كان،حداد، قد حقق شهرة في ذلك الوقت. وذات ليلة التقى جمع من الأصدقاء في بيت قاسم الفقير، وفي لحظة انخرط هذا الأخير في البكاء بدون سبب، فران الصمت على الجميع، وكبح كل واحد أسئلة في نفسه. ومنذ تلك اللحظة أحس، صالح، بانجذاب لم يتوقف نحو صديقه الشاعر الذي حاول أن يحصي في مداخلته الحميمية، بعض خصاله الإنسانية التي أجملها في العبارة التالية: "أخطاؤه وشوائبه لا تحصى، لكن قاسم لا يخطئ أبدا في الحب" مضيفا: "أراه يموج الصور مستعينا بمخيلة سخية، يطحن اللغة لينثرها كالندى، يسرد لهاث القلب وهذيان اليأس الذي لا يأس فيه".
ورقة الناقد والشاعر المغربي بنعيسى بوحمالة، قاربت أحد دواوين قاسم حداد "علاج المسافة" تناول فيها على الخصوص الهواجس والانشغالات التي يحفل بها الديوان وتطبع النص واللغة ورؤية العالم عند الشاعر. وقال:"إن الاشتغال الشعري في كتابة حداد يتجسد في مستويات فنية متعددة أبرزها الحاسة السينوغرافية القوية النابعة من عشق الشاعر للفنون التشكيلية، وشغفه بالرسم والتخطيط واستحضار صور الطبيعة الصحراوية والحيوان والنبات، لتشكل تلك العناصر كلها تكوينات تصب في الرؤية الكلية، إضافة إلى حضور الذات وضمير المتكلم في صورة أنا مركزية لا يمكن فصلها عن وشائج الشعر".
وأثارت ورقة بوحمالة مجموعة من التعقيبات كادت أن تزيغ بالندوة عن موضوعها، لولا تنبيهات مسير الجلسة، لتطال قضية إغراق النصوص النقدية بترسانة ثقيلة من المصطلحات المستجلبة من النظريات النقدية الغربية، إلى درجة أن المتن الأصلي المدروس يختفي تماما، وتصبح المادة النقدية بدورها مستغلقة، وحاجزا بدل من أن تضيء عتمة النص.
وبعد أن أشاد الناقد المصري محمد عبد المطلب، بريادة الباحثين المغاربة وجهودهم في السبعينيات لاستيعاب المدارس النقدية الحديثة وإيصالها إلى القارئ عبر الترجمة، عاتب مجموعة منهم على الإفراط في استخدام المصطلحات المغرقة في التخصص وإرهاق النص الإبداعي وتسييجه بترسانة نظرية مستوحاة من حقل ثقافي مغاير.
وخلال الجلسة المسائية تركزت الأوراق المقدمة حول خصوصيات المتن الشعري عند الشاعر حداد. وهكذا تناول الناقد محمد عبد المطلب (مصر) مفهوم المخيلة لدى المحتفى به باعتباره اسم مفعول واسم فاعل، أداة إبداع وأداة تلق في ذات الوقت. وتناول الباحث حضور هذا المفهوم في الكتابة الشعرية والنثرية لدى حداد وأسباب ترددها بقوة في نثره وفي أشعاره المتأخرة، ملاحظا ان الشاعر حول المخيلة الى مؤسسة كاملة تُشرِّع وتنفذ، فالحرف عنده خاضع للمخيلة خضوعا مطلقا، بشكل يؤدي الى الاحتفاء بالكلمة البكر، والى إحياء مفردات اللغة القديمة وتجديدها. كما ان النص يفرض شكله عند حداد. فليس هناك قداسة للشكل الذي أصبح ملكا للمخيلة. مما يفتح المجال لتعامل جديد مع اللغة يقوم على بناء تراكيب لم توجد بها من قبل، سواء في النصوص الشعرية أو النثرية، وبشكل خاص في السيرة الذاتية للشاعر التي حملت عنوان "ورشة الأمل".
الناقد السوري صبحي حديدي حلَّل من جهته الاعتبارات الموجبة للاحتفاء بقاسم حداد. أولها كونه ارتبط بريادة التحديث في الشعر الخليجي المعاصر، وقام في هذا السياق بمهمتين أساسيتين: كتابة القصيدة المتطورة وربط مجهودات التحديث الأدبي في الخليج بمراكز التجديد العربية الأخرى في بيروت والقاهرة، بحيث تحول شخصه الى جسر ونافذة على هذه المراكز. فيما يعود ثاني اعتبارات الاحتفاء الى ريادة حداد الثقافية والاجتماعية لجرأته على انتهاك أعراف الكتابة في الخليج العربي، ولمواقفه الثقافية والسياسية المشهودة والمعروفة. كما ان مسيرته الإبداعية عرفت ديناميكية مستمرة التجدد حولته الى ما يشبه العلامة الثقافية الفارقة في المنطقة، وجعلت كل شعراء الخليج يقرون بريادته.
وأضاف حديدي: "لقد قام قاسم حداد باختراق أساسي بواسطة خطابه الشعري الذي انتهك وتجاوز التنميطات التقليدية للأدب الخليجي التي كانت تحصر إبداع المنطقة في نطاق "أدب الصحراء"، الذي جعل منه البعض طوطما بالمعنى الانتثروبولوجي، بحيث لا يمكن ان يفلت منه أي فرد. لكن الرموز الحاضرة بقوة في شعر حداد وخطاباته كانت رموزا متنوعة ينتمي جزء كبير منها للبيئة الحضرية، ويخترق التنميطات ليتحرر من عبء تمثيل النص الخليجي، ولينطلق في سيرورة تحديث لم يكن من هواجسها واجب تمثيل نمط أدبي معين".
من جهته، ركز الناقد التونسي محمد لطفي اليوسفي على الخصائص الفنية للكتابة لدى حداد. فلاحظ في البداية ان نصوص المحتفى به لا يوجد بها أية فجوة بين الشاعر ونصه، بل ثمة تكامل تام واندغام يلغي المسافة بين المبدع ونصوصه، ويجعل الكتابة منطقة كرم وعبور نحو الآخر، لا منطقة عزلة، الى حرجة كتابة أعمال مشتركة مع أدباء آخرين مثلما حدث في "الجواشن" مع أمين صالح، ومع فنانين تشكيليين ومصورين فوتوغرافيين في دواوين أخرى.
وبخصوص النثر لدى حداد، لاحظ اليوسفي ان كتابته تشكل احتفالا بالإنسان وبالموجودات التي يحيطها بهالة رمزية قوية بعد إعادة إنتاجها، لتصبح الكتابة النثرية عنده عتبة مُشرعة على الشعر تتوقف عند أدق التفاصيل: "لان الوجود ليس متعاليا خفيا بل قابلا للعيان وللمساعدة في أدق تفاصيله".
الناقد والشاعر محيي الدين اللاذقاني، استهل ورقته المسائية باستحضار بعض القيم الأساسية التي تطبع شخصية وكتابة قاسم حداد، وتلقي بظلالها على كل نتاجاته. وأولى هذه القيم الشجاعة في الاعتراف لديه، رغم ندرة أدب الاعتراف الحقيقي في الثقافة العربية، مما يجعل سيرته الذاتية منعطفا في مسار الأدب السيرذاتي في منطقتنا.
وذكر اللاذقاني بتجربة قاسم حداد في العمل السياسي السري والعلني، التي هي تجربة كل شباب الخليج العربي الذي يتياسر لبعض الوقت قبل ان يعود الى جلده المحافظ، مع فارق ان حداد سيعانق اليسار من دونما رجعة، وسيعتنق التمرد اعتناقا تاما. لذا فتجربته في "الجبل الأخضر" تجربة تستعصي على النسيان. ورغم ذلك فقد ابتعد صاحب "ورشة الأمل" دائما عن الخطاب السياسي المباشر الفج، باستثناء فترة محدودة من بداية شبابه، وسعى لكتابة: "أدب متميز يفتح مجالات جديدة للإيقاع وللعلاقات بين الحروف والكلمات والجمل في سياق شغف عميق بالموسيقى الداخلية والخارجية".
واعتبر المتدخل في ختام ورقته أن "مكمن القوة في أدب قاسم حداد يتجسد في نجاحه في تقليص الفجوة بين الشعر والنثر، وفي خبرته بالكلمات وبعمقها التاريخي الناجمة عن حرصه على العودة للمعجم وللماضي ليحافظ على الخيط الذي يربطه بالتراث، فالإخلاص والوفاء لا يكون للناشر فقط، بل للنصوص أيضا".
الشاعر محمد فريد أبو سعدة (مصر) تدخل فقدم شهادة مؤثرة في حق المحتفى به.
فاعتبر ان "قاسم حداد يكتب لأنه خائف من العالم، ولأن الكتابة تحميه، وهو يولد مرة بعد مرة لان تغييرات الشكل تدل على قلقه العميق". ولا أدل على ذلك من تنقله من قصيدة التفعيلة الى قصيدة النثر، من البعد الإيقاعي للبعد البصري، ومن الشعر الى النثر.
فيما قدم الشاعر عدنان ياسين (المغرب) شهادة مماثلة على شكل محاورة شعرية لبعض رموز قاسم حداد ومخلوقاته التي تشكل علامة فارقة في متخيله الإبداعي، واستعرض بعدها لقطات من كتابته الشعرية والنثرية، مع التركيز على الحفر في دلالة ورمزية الحيوان لدى حداد.
أما الأديبة السورية نوال الحوار فقالت ان حداد الذي اعتلى منابر الشعر في العالم من المنامة، عابرا مشرق الأرض ومغربها، استطاع عبر شاعريته المتدفقة ولغته الشفافة ان يختصر زخم الحياة العربية عابرا كل أزمنتها من زمن النصر الى زمن القهر.