أصيلة: محمد بوخزار
اكتشف الجمهور الذي تابع وقائع الندوة التكريمية التي نظمتها مؤسسة منتدى أصيلة عن الشاعر الشيلي الراحل، بابلو نيرودا، بمناسبة مرور قرن على ميلاده، أن الشاعر الحائز جائزة نوبل، ربما ارتبط بالمغرب بكيفية غير مباشرة، ذلك أن أحد المشاركين في الندوة، الشغوف بإبداعات نيرودا، سرد على الجمهور وقائع حكاية دالة، حدثت في باريس، حين اصطحب، الناقد آلان سيكارد، الشاعر الراحل إلى أحد المطاعم المغربية، مقترحا عليه أن يتناول وجبة الكسكسى الذائعة الصيت. وحينما تفحص الشاعر قائمة الطعام، توقف عند الوجبة المغربية ونطقها "كوكو" متسائلا ومستغربا عن سر الاسم.
أما الواقعة الثانية، التي وردت على لسان متدخل آخر، فهي ذات علاقة بمدينة أغادير، جنوب المغرب، التي ضربها زلزال في بداية الستينيات من القرن الماضي، إذ تصادف إن كان فيها سائحا أحد شعراء السويد الذي سيصبح عضوا في الأكاديمية التي تمنح جائزة نوبل، والذي، كما قال الباحث الفرنسي جان كلارانس لامبير، ساند بقوة تتويج صديقه بابلو نيرودا بجائزة نوبل. وذكر لامبير، أن الشاعر السويدي أرثور لانكويست كان مقيما في أحد فنادق المدينة المنكوبة، ومن حسن حظه أن الفندق لم ينهر كلية، فأصبح في عداد الناجين، ولكن النكبة خلفت في نفسه جرحا غائرا عبر عنه في قصيدة، ضمنها أحاسيسه حول الموت والخراب والمصير التراجيدي الذي يترصد الإنسان ويباغته حيث لا يدري.
ومنذ تلك اللحظة الكارثية ظل الشاعر السويدي متوجسا من مفاجآت الحياة الصاعقة، إلى أن وصله نعي صديقه الشاعر "نيرودا"، فحرك فيه أشجان ذكرى فاجعة أغادير، فكتب قصيدة ثانية، اعتبرت امتدادا للأولى أو أقوى منها، بحكم نضج التجربة، تعبيرا عن العبث والمصير المجهول.
وهذا سرد مجمل لما قاله المحتفون بنيرودا في أصيلة.
واعتبر محمد بن عيسى أمين عام مؤسسة منتدى أصيلة أن الاحتفاء بشاعر ينتمي إلى بلد صديق، يأتي في سياق الوفاء للرواد من المفكرين والأدباء الذين ارتبطوا بأصيلة، وأسهموا بأعمالهم الإبداعية الإنسانية التي لا تتطلب تأشيرة سفر لتنتقل بين الشعوب.
وكانت فكرة التكريم المغربي لنيرودا قد لقيت ترحيبا وحماسة من لدن رئيس جمهورية التشيلي ووزير خارجيته، أثناء زيارة بن عيسى لبلدهما.
أدار الجلسة، آلان سيكارد، وهو دارس فرنسي لشعر نيرودا، الذي استرجع في البداية لحظات من حياة الشاعر المولود في جنوب التشيلي، الذي غير اسمه منذ إقدامه على النشر، خوفاً من والده الذي كان يريده محاميا أو مهندسا، منتقيا اسم نيرودا الذي اتضح أنه لأحد عازفي الكمان التشيكيين.
ورأى سيكارد أن في اختيار اسم مستعار ظل يلازم الشاعر إلى الأبد، دليل على طموح الشاعر الإنساني ونزوعه نحو العالمية ولو عن طريق الطوباوية، على الرغم، وتلك مفارقة، من إخلاصه لتراث بلاده، والتصاقه بالجزيرة السوداء التي أوصى أن يدفن فيها. وهي الأمنية التي حققتها للشاعر المؤسسة التي تحمل اسمه، وحكومة التشيلي التي جاءت بعد الديكتاتور الممقوت بينوشيه نقلت رفاته إلى المكان الأثير لديه حيا وميتا.
وأبرز أليخاندرو كارفخال، سفير التشيلي في الرباط والمحاضر عن شعر "نيرودا" بعض السمات الأدبية لشاعر بلاده، فرأى أنه كان قادرا على ضم الكلمات بعضها إلى بعض في اتحاد سرمدي، إذ لا يوجد في نظر المحاضر، من هو أقدر على هذا الصنيع في خلق انسجام بين المفردات مثل "نيرودا" لدرجة أن الشباب في بلاده، حينما يريدون إيقاع فتاة في حبائلهم، يقرأون لها أشعار "بابلو".
وتعرض الدبلوماسي التشيلي، إلى إقامة الشاعر في إسبانيا وتأييده للجمهوريين ومخالطته الأوساط الأدبية فيها، إذ انعكس ذلك في إبداعاته، وتحقق هناك انتقاله من مرحلة الرومانسية. وبعد مقتل الشاعر فدريكو غارثيا لوركا على يد عصابات فرانكو، إزداد تأييده للجمهوريين الأسبان لدرجة أنه أشرف على ترحيل 2000 إسباني إلى التشيلي، فروا من ديكتاتورية فرانكو بعد انتصاره في الحرب الأهلية على الجمهوريين.
وألقى، خوان أوغوستين فيكيرووا، وزير سابق للزراعة، ورئيس مؤسسة نيرودا بالعاصمة سانتياغو، بعض الأضواء على حياة الشاعر السرية حين كان مناضلا في الحزب الشيوعي، يتنقل خفية من بيت إلى بيت، ويستقر في مساكن أصدقائه الأوفياء، ومنهم أخت المتدخل، التي كانت سبب التعرف عليه. وكان عمر الوزير خوان آنذاك لا يتجاوز الرابعة عشرة، لكنه أدرك أهمية من يختبئ بالبيت بعد أن منع من دخوله.
وذكر المحاضر بعض عادات الشاعر الذي كان مغرما بحب الطعام اللذيذ، ملما بتقاليد وأسرار الطبخ، يزور الأسواق الشعبية ويخالط الناس البسطاء، حريصا على الاطلاع والاستغراق في ثقافات بلاده الموزعة بين مناطق الشيلي.
واختتم تدخله بالتوقف عند اللحظات الحزينة التي سبقت نهاية الشاعر، وتدهور وضعه الصحي، إثر انقلاب بينوشيه، على الرئيس المنتخب شرعيا، سلفادور الليندي، الذي سبق أن تنازل له، نيرودا، عن الترشيح للرئاسة، بل انضم إليه مناصرا له في حملته الانتخابية، حيث طاف معه أرجاء البلاد، موظفا أشعاره التي كان يقرأها على الفلاحين الفقراء. وتحدث محمد سلماوي، رئيس تحرير صحيفة الأهرام الأسبوعي، الطبعة الفرنسية، عن الأسباب التي حولت نيرودا إلى أسطورة في العالم العربي خلال مرحلة الستينيات، فأرجع ذلك الإعجاب والولع إلى الأجواء السياسية المصطبغة بالأفكار القومية الثورية وهيمنة التيارات الوطنية المناوئة للاستعمار في أكثر من بلد عربي. وفي ذات الفترة، يلاحظ سلماوي، برز مفهوم المثقف الملتزم الذي نادى به الفيلسوف الفرنسي الراحل جان بول سارتر.
وقارن المتدخل، في الختام، الشاعر نيرودا بالروائي نجيب محفوظ، فكلاهما، اعتذر عن الذهاب إلى، استوكهولم، لتسلم جائزة نوبل، وهما معا أفرطا في العناية في أدبهما بالخصائص المحلية، باعتبارها الطريق نحو العالمية.
وأحصت السفيرة عزيزة بناني، عميدة جامعة المعتمد الصيفية وممثلة المغرب لدى منظمة اليونسكو، الاحتفالات التي أقيمت بمناسبة مائية نيرودا، التي وصلت لغاية الآن 330 موزعة على 65 بلدا، أكبرها الاحتفال الذي أقيم للشاعر في بلده، وهو الأهم منذ استعادة الديمقراطية، وقد شاركت فيه كل فئات المجتمع بما فيها المطاعم التي هيأت وجبات مستوحاة من الذكرى، ذلك أن الأمر يتعلق، تضيف السفيرة، بشاعر عظيم مناصر لقضايا العدل والسلام، ساهم في الحوار بين الثقافات، مناهضا دعوات التنميط الثقافي. واختتمت، بناني، عرضها الذي ألقته بالإسبانية، بتجديد الدعوة لإعادة قراءة أعمال الشاعر.
وأدلى، موريثيو إليكتورا، كاتب باحث في شعر نيرودا، بشهادة عن تأثره وهو روائي شاب بنيرودا ، سليل بلد الشعراء، فلاحظ أن بلاده عرفت شعراء كبارا، لم يكتب لهم الحظ والشهرة التي كانت من نصيب، نيرودا، لكون هذا الأخير ركز على الالتزام السياسي، حاملا الأمل ومبشرأً بالثورة الاشتراكية، كما فعل فنانون وأدباء آخرون، ذكر منهم الرسام الإسباني بابلو بيكاسو على سبيل المثال.
وقدم إليكتورا نفسه كواحد من الذين تغذوا من شعر نيرودا الذي مثل نافذة مفتوحة على العالم باعتباره شاعرا ذا تجليات، يتغنى بالحب والطبيعة، سيصبح فيما بعد الضمير الممثل للتفكك والألم وحيرة الإنسان المعاصر، معتبرا نيرودا وآخرين من أدخلوا مغاهيم الحداثة الأدبية كما فعل جيمس جويس، وعزرا باوند، مع فارق أن نيرودا، خصص شعره لمن لا صوت لهم، من أبناء شعبه والقارة التي ينتسب إليها.
وخلص المحاضر إلى القول إن نيرودا حدد معالم المخيال التشيلي، وبدونه سيكون بلده دولة متخلفة. وأكد المتدخل أن أهمية نيرودا، تظاهي المكانة تلك التي يحتلها الرسام بيكاسو في أسبانيا والسينمائي بونويل، والفيلسوف جان بول سارتر في فرنسا. وأعادت ورقة جان كلارنس لامبير، الحاضرين إلى الأجواء الأدبية والفنية المتميزة التي كان مسرحها العاصمة الفرنسية باريس في الخمسينيات حين تعرف على الشاعر نيرودا عن طريق عالم الأنتثروبولوجيا والمترجم Sروجيه كايوا" الذي لعب دورا بارزا في التعريف بثقافات أميركا اللاتينية.
الشرق الأوسط