محمد الحمامصي
(مصر)

من (صور) و (الوقت بجرعات كبيرة) إلي (ب.ب.ب) استطاع الشاعر اللبناني عباس بيضون أحد أبرز شعراء الجيل الثاني لقصيدة النثر أن يحفر لتجربته مجرى خاصا وأساسيا في تجربة قصيدة النثر عربيا ولبنانيا ، ويحقق تأثيرا واسعا علي تطور رؤيتها للشعر ذاته وللعالم بمختلف مفرداته ، فقد خرج علي تجربة الرواد التي اختلط فيها الشعر بالتنظير والبيان متجاوزا ومعمقا ومؤسسا لقصيدة نثر يرى أنها نوع أدبي أخر أحد صفاته أنه نوع بين أنواع ، يتغذي من هذه الأنواع ويبقي قلقا ومعلقا بينها ويفتح باستمرار عليها
و لبيضون ما يزيد عن أربعة عشر ديوانا تشكل اتجاها ونسيجا رئيسا في تجربة قصيدة النثر العربية من بينها ( خلاء هذا القدح) و(صيد الأمثال ) و(نقد الألم )و( زوار الشتوة الأولى )و( مدافن زجاجية - حجرات )و( أشقاء ندمنا )و( لمريض هو الأمل)و( لُفظَ في البرد) وله عمل روائي بعنوان (تحليل دم) وهو من الأعمال الروائية المهمة التي صدرت في السنوات الأخيرة
الشاعر الكبير كان ضيفا علي ملتقي الشعر العربي الذي عقد بالقاهرة أخيرا ، التقته (الشعر) وكان هذا الحوار
المتابع لمسيرة عباس بيضون المبدع والمثقف يمكنه أن يلحظ انعكاسا واضحا من رؤى الشاعر علي مواقف المثقف ومن مواقف المثقف علي آراء الكاتب ومن آراء الكاتب علي مواقف السياسي ، وهذا يجعلني أسألك عن مشروعك الشعري الذي عملت ولا تزال تعمل عليه إلي أي مدي أثرت عليه مواقف المثقف والكاتب والسياسي ؟
هذا سؤال صعب فيما يبدو لي ، لا أجد جوابا ، لا أعرف إذا كان هناك ثمة مشروع شعري فعلا لي أم لا ، إذا ووجد مشروع شعري لشاعر فهو علي ما أظن قائم وموجود في ضمير وسر ووعي العمل ،ولابد لهذا المشروع إذا كان موجودا واتفقنا علي وجوده ، وهذا ليس أكيدا ، قد يكون خفية عن الشعر ، كل ما أظن أنه يطور علي نحو ما فكرة أولى ، مقترب أول من العالم ، وأن هذا المقترب الأول ينمو ويتوسع مع الزمن . وشخصيا لا أعرف لي مشروعا ـ إذا جاز التعبير ـ إنما أحس أن الفترات العديدة التي يتقطع إليها عمل شاعر لابد أنها تحوي رابطا ما داخليا ولابد أن يتكون من ذلك كله ما أسميه عالم الشعر ، أظن أن الشعراء يبنون عوالم بمعنى ما أكثر مما يبنون مشاريع ، أظن أن هنا علاقة ماكرة وخفية ولا مباشرة قد توجد ما بين الشاعر وشعره ، بمعنى أن الشعر قد يكون قصاصات ، نوعا من البازل من حياة الشاعر ، شكلا من أشكال تشتيت الشاعر وتضييعه في عمل أكبر منه كما يفعل الحلم ، فإذا كان الحلم يشتت فكرة ويقطعها ويشتت موقفا ويقطعه ، فلابد أن الشعر يفعل فعل الحلم ، الشاعر يوجد في شعره كما يوجد المرء في حلمه ، بمعني أن هذا الحلم عبارة عن شتات وقصاصات مقلوبة ومشتتة ومبعثرة وضائعة في بعضها البعضإن حلم الشاعر بأن يصل بين حياته و شعره حلم قديم ، حلم خائب علي كل حال في كل مرة ، لكن هذا الحلم مستمر ، الشاعر يريد أن يكون شعره ـ إذا جاز التعبير ـ صورة عنه ، لكن الشعر يتفلت ويهرب ، الشعر له طريقه الخاصة ومساره الخاص ، هو لا يتحول إلي وثيقة ، ولا إلي اعتراف ولا إلي مذكرات ، إنما قد يوجد الشاعر علي نحو ما في شعره ، قد يوجد كنواة ، قد يوجد كعنصر صوت في القصيدة ، عندما أفكر في المتنبي ، طالما قيل لنا أن شخصية المتنبي في شعره ، وهذا كلام غامض ، لكن تستطيع أن تقول أن شيئا ما كالمتنبي في شعر المتنبي ، طبعا هذا مثل لا يقصد منه إطلاقا الكلام عن نفسي أو إيجاد شبه ما قريب أو بعيد بيني وبين عملاق كالمتنبي ، إنما أريد أن أقول أنه بالنسبة لي حرص الشعر حاليا علي أن يتوسع في الحياة ، علي أن يتوسع في كل أنظمة الفكرة الأخرى ، علي أن يتوسع في السياسة وفي المعيش وفي اليومي وفي العلم والفكر والفلسفة ، هذا بالنسبة لي حلمي الشعري ، بالنسبة لي ما يمكن أن يفعله الشاعر في الشعر العربي الآن هو توسيع رقعته ، بمعني أن هذا الشعر يستوعب ـ إذا جاز التعبير ـ كل ما يبدو لأول وهلة أن ما بينه وبينه حدودا . الشاعر عبارة عن تيار ، فعندما نتكلم عن حياة وسيرة شخصية فنحن لا نتكلم عن شيء متماسك ولكن نتكلم عن يار، تيار من الأفكار والمواقف والآراء ، أظن أن علي الشاعر أن يتسع لهذا التيار بدأت الكتابة في أوائل السبعينيات ونشرت أولى أعمالك (الوقت بجرعات كبيرة) عام 1982 وكان عمرك وقتئذ ثمانية وثلاثين عاما أي أنك عشت الثورة الشعرية اللبنانية إذا جاز التعبير في أواخر الستينيات وخلال السبعينيات ، هل كانت هذه الثورة أحد أسباب تأخرك في دفع أولى أعمالك للنشر خاصة وأن ديوانك (صور) يسبق في الكتابة هذا الديوان ؟ مجموعة صور عبارة عن قصيدة طويلة كتبت بعد انقطاع سبع أو ثماني سنوات عن الكتابة ، كتبت علي أعتاب الحرب الأهلية ( كتبت سنة 1974 )، والحرب جعلتها بالنسبة لي ولفترة طويلة ماضية ومتجاوزة لأسباب لا أريد الآن أن أدخل فيها ، هذه قصيدة ملحمية ذات فضاء تاريخي ومكاني ، وكل ذلك تفتت بفعل الحرب وضاق وتجزأ وتحول إلي ذرات صغيرة ، المكان والزمان تجزآ بفعل الحرب وتحولا إلي زنزانات مغلقة ، ولحظات ضيقة ، وبات بالنسبة لي مستحيلا البدء بنشر ـ كتابة ذات حيز فضائي ومكاني وزماني وتاريخي واسع كما هو الأمر في قصيدة صور ـ كتابة إنشادية وملحمية ، وتأخرت مرة ثانية لمدة خمس سنوات بدون كتابة إلي أن عثرت مجددا وعبر قراءاتي وتفكيري علي كلمتي الشعرية في الواقع هناك تاريخ من الانقطاعات ، لكن لا في (صور) ولا في كتابتي التالية كنت معنيا بما تسميه الثورة الشعرية اللبنانية ، أنا من الشعراء الذين كان شعرهم ردا ضمنيا علي هذه الثورة ، ولا أنتسب شعريا إلي مجلة (شعر) مثلا ولا أنتسب شعريا إلي الشعراء اللبنانيين المعروفين ، بالعكس شعري كان ردا علي التجريدية والشمولية والتشخيصية والجمالية المفرطة والفصاحة والدراماتيكية المفرطة والبطولية ـ بطولية الشخص بعد الشاعر أن يبدو كبطل لشعره ـ ، شعري تماما في المقلب الآخر ، وأرد ذلك في الواقع إلي ماركسيتي ، كنت آتيا من ثقافة أخرى ، كنت آتيا من الجنوب سيرة أخرى وآتيا من الماركسية من ثقافة أخرى ، وآتيا من الشعر العالمي من منبع آخر ، وحتى عندما كتبت قصيدة (صور) مثلا كانت تملك رؤية تاريخية وثقافية وسياسية ـ إذا جاز التعبير ـ لا تشبه الرؤى المجردة والتشخيصية والطوبوية سواء كانت الطوبة المضادة أو الطوبة الشعرية التي نجدها في الشعر اللبناني ، تأخرت لأسباب عديدة بعضها ذكرته عن النشر ، كتبت (صور) ورأيت أنها ماضية بسرعة وبفعل الزمن والحرب ، واقتضي الأمر وقتا طويلا لأفكر أن (صور) ليست ماضية وأن بوسعي أن أعيد نشرها ، وانتظرت خمس سنوات حتى عدت للكتابة عام 1978 ، ثم هناك كسلي الشخصي عن النشر ، لقد نشأت في جو لا يحترم كثيرا بروز الأسماء ، كما اقتضي الأمر وقتا طويلا حتى أهتم باسمي هل نفهم في ضوء ذلك أن مجلة (شعر) تركت تأثيرا سلبيا علي مجمل التجربة الشعرية العربية ؟لا أريد أن أقول أن (شعر) كان لها تأثير سلبي علي الشعر العربي ، هذا كلام غير تاريخي ، نحن لا نستطيع أن نحاكم الآن فترة ماضية ، كانت (شعر) ابنة فترتها ، هذا ما أريد قوله ، لنتوقف عن عبادة (شعر) وعن تصنيم (شعر) ، كانت شعر ابنة لحظتها ، وهذه لحظة متجاوزة ولا يمكن تخليدها عمليا ، هذه اللحظة متجاوزة ثقافيا وفلسفيا وشعريا ، الآن نحن في عصر آخر وعلي الشعراء أن يعرفوا ذلك ، وأظن أن هذا معيار لفعاليتهم الشعرية أن يعرفوا لحظتهم مجلة (شعر) بصورة أو بأخرى كانت بنت ما سميته في مقال أخير عصر البراءة ، عصر الطوبة الشعرية ، عصر الأمل بالشعر ، وعصر التشخيص والدراماتيكية في الشعر ، وعصر البيانات الشاملة ، وعصر تقديس الشعر ورفعه إلي الملكوت الأعلى وعزله عن الخارج والواقع والمعيش واليومي والسياسة والفكر ، من أجل ذلك كان لمجلة (شعر) محظوراتها التي تفوق المحظورات الكلاسيكية ، وتنظيرتها الضيقة كثيرا في بعض الأحايين ، وأنا لا أنتقد هذا وإنما أريد أن أقول أنه لا مكان له بعد أيضا يلاحظ أنك تقدم وتؤخر في نشر أعمالك لكني لا أستحضر مثالا واضحا لكنك قلت مرة بشأن أحد نصوص ديوانك (ب ب ب) وهو نص (كفار باريس) كتب منذ فترة طويلة حوالى 12 سنة بينما برلين بعد فترة وبيروت بعده.

رجوع