حسين بن حمزة
(سوريا)

يتخفف عباس بيضون من شروط ومتطلبات ومحمولات عدة لقصيدته. هذا ما يبدو واضحاً في مجموعته الأخيرة «شجرة تشبه حطاباً» (دار الآداب–بيروت) اذ يكتب قصيدة هي، إلى هذا الحد أو ذاك، أقل كثافة وأكثر التفاتاً إلى الواقع وفق ظروفه وسماته هو. الواقع حاضر، ومرئياته وأشياؤه وتفاصيله محتفل بها. والشعر أشد نثرية، والشاعر لا يخفي سأمه من وظيفة الشاعر الأبدية المتمثلة في تقطير اللغة وابتكار الصور وخلق الانزياحات وتوسيع الخيال وتوتير الكلمات وتكثيف التوريات وإيجاز المعاني... الخ.
تضم المجموعة ست قصائد فقط، وتحتل الأولى، وعنوانها، «لا أحد في بيت السيكلوب» أكثر من نصف عدد الصفحات. انها عصب الكتاب ونواته والقسم الأكثر دلالة على تخفف الشاعر من مهنة التقطير والتكثيف والإيجاز، وميله المتزايد إلى الدقة والشرح والاسترخاء اللغوي. القصيدة، بحق، يمكن وضعها إلى جانب عدد من القصائد التي سبق ان كتبها عباس بيضون وتمثل المحطات والعلامات الأبرز في تجربته الطويلة والخاصة الممتدة على مدى ثلاثة عشر كتاباً شعرياً، التجربة التي بدأت ببيان وتوقيع شخصيين فيما «الوقت بجرعات كبيرة»، المجموعة التي لوحظ، قليلاً في البداية وكثيراً في ما بعد، الجفاف السطحي لعبارتها الشعرية والرطوبة الدافئة لأعماق تلك العبارة وأحشائها، الجفاف، طالما أننا ذكرناه الآن، وتجنب العاطفة والغنائية وعدم الإفراط في مدح اللغة... الخ. هذه أيضاً صفات أساسية لا بد من إضافتها إلى الكثافة والإزاحة واللغة المسننة، حينما نتحدث عن تجربة عباس.
القصد من ذكر هذه الصفات واستحضار تراكمها التاريخي هو من أجل منح التخفف الذي يُبديه الشاعر وزنه وتأثيره الحقيقيين. لقد سبق لعباس بيضون أن أبدى، قبل سنوات، برمه وتململه وتعبه من عمل الشاعر على تقطير اللغة واستخلاص طموحها ونكهاتها وروائحها حتى من أكثر الكلمات جموداً وكتامة. ليس ضرورياً أن نأخذ بما يقوله الشعراء، ولكن ثمة خيط، وان كان غير معلن بقوة ووضوح، يدل إلى سعي أو رغبة خفية للشاعر في الخلود إلى القليل من الاسترخاء والتمدد «نائماً ملء جفونه عن شوارد» الصور والاستعارات المكدّسة، هنا وهناك، في القصائد. ثمة ميل إلى التفلّت من بعض «القسوة» في مهنة الشاعر، ميل تزايد، على اندفاع تارة وإحجام طوراً، في المجموعات الثلاث الأخيرة لعباس بيضون، وفي قصائد نشرها أو قرأها ولم يُدرجها في كتاب حتى الآن، كما هو الحال في «فصل في برلين» و»دقيقة تأخير عن الواقع» وسواهما.
لكن هذا الميل لا يقطع الصلة مع نبرة الشاعر أو صوته الخاص. وجزء غير قليل من هذا الميل قد يكون مخادعاً أو مجرد طبقة إضافية على بنية القصيدة. وحين يفعل عباس بيضون ذلك فهو لا يغير جلده الشعري ولا يعيد تعريفه «الشخصي» للشعر. صحيح انه يتخفف من بعض الأعباء المصاحبة لمهنة الكتابة ولكنه لا يلعب على مبدأ هذه الكتابة وانجازه الذاتي لها. ان مجرد حك بسيط على سطح عبارة عباس بيضون في أعماله الأخيرة سيُظهر اللون الأصلي لها. والأرجح انه يتمدد داخل عبارته ولا يغادرها، يحضرها ويوسعها ويضيف إليها ولا يخترع بداية جديدة لها. انه يزيد مساحة قوله الشعري، يذهب إلى حافات هذا القول ولكنه لا يلبث أن يعود إلى بؤرته، إلى أسلوبيته الأثيرة، إلى الكلمة التي رعاها وتعب في تربيتها، إلى الجملة التي صنعت توقيعه الشخصي: «سأربّي هذه الكلمة كما لو كانت لي». ربما هذه العبارة صالحة لتكون خلاصة وجوهر فن عباس بيضون الشعري، العبارة التي يتناساها في بعض مقاطع هذا الكتاب ليعود ويعثر عليها في مقاطع أخرى، أو كما يقول هو صراحة: «علينا إخفاء مقتنياتنا ليتسنى العثور عليها في مكان آخر». كان الشاعر يوحي بوفائه وإطرائه الخاصين لعبارته التي رباها واعتنى بها طوال ثلاثة عشر كتاباً شعرياً حتى الآن، وان ليس من السهل إدارة الظهر لأمزجة وطبائع وتدرجات وسمت هذه التجربة الخاصة والطويلة.
ربما كان ممكناً القول ان تجربة عباس تدخل في طور «النضج», كما كتب الناقد صبحي حديدي منذ فترة، النضج الذي قد يعني، من بين ما يعنيه، أن صداقة الشاعر مع عبارته الشعرية باتت تسمح له بأن يتجول فيها بحرية أكثر، أن يحررها ويروضها، أن يبتعد ويعود إليها. لا قلق على الشاعر ولا على عبارته. ولكن هذا، في الوقت نفسه، يكشف عن حيوية هذه العبارة التي لا يغلق فيها الشاعر على نفسه. وقد يرى قراء كثيرون أن تجديد الثقة بهذه العبارة يتحقق عبر بقائها على مقربة وتجاور مع التجارب المجايلة والجديدة معاً. كأن عباس بيضون يغذي عبارته بـ«جرعات» إضافية تعزز حضورها وتحافظ على صلاحيتها وتجددها هي من جهة، وعلى جاذبيتها وتأثيرها على التجارب الشابة والراهنة من جهة ثانية.
وإذا كانت «لا أحد بيت السيكلوب»، قصيدته الأطول في الكتاب، مثالاً على تخفف الشاعر من تقطير اللغة وتكثيف النبرة، كأن تكون هذه اللغة واقعية أكثر وتحتمل التعداد الحياتي والفوتوغرافي وتستثمر بداهة النثر والفكر والفلسفة، انها، في الدرجة نفسها وأكثر، تضرب بأجنحتها في السماء التي طالما حلقت فيها عبارة الشاعر ونبرته واستعارته، إضافة إلى ان عباس بيضون لم يخفِ يوماً افتتانه بالنثر وميله إلى مزج محمولاته الفلسفية بطموحات الكتابة الشعرية. وحين يكثر من استخدام مفاتيح غاية في النثرية والمباشرة فإنه لا يتأخر عن إعلان هوية ما يسعى إلى كتابته. فقد يقول، مثلاً: «للدقة نقول ان العملية مرتبة...» وهي جملة نثرية خالصة تصلح لبداية مقال جيد، ولكنه يتحدث «عن الحياة كعملية تقطير طويلة» وعن إمكان «أن ينزع عن الأيدي الجلد الميت أو نقصّ الأجزاء اليابسة من الروح»، وعن غرفة المنتحر حيث «الجوارير مقلوبة على الطاولة الكبيرة التي طردت مع أثاث كثير إلى هنا»، وكيف «أمكن بجارور مقلوب وبضعة طيور على الأرض تقليد العاصفة»، وكيف ان «الكبد يعمل كجندي» في «هذه الحياة الواحدة كالجلد الواحد» حيث «يمكن نقل الحياة زجاجات في صندوق»... الخ.
القصيد تروي نتفاً وأجزاء من واقعة انتحار ابن أخت. الشاعر يقول ذلك بوضوح وصراحة ولكنه يتجاوز فكرة المرثية إلى درجة ان الانتحار نفسه لا يعود يُرى كحدث في القصيدة اذ تُهال عليه طبقات الكلام والاستعارات بطريقة هي أشبه بـ»تجهيز شعري» إذا جاز التعبير، حيث الانتحار ذريعة أو يكاد، أو هو ذريعة القصيدة ومادتها في آن واحد. والشاعر يتجوّل طويلاً في ممرات وتفاصيل الحدث عائداً بكنوز ولقىً ومفاجآت. انه، في هذا المعنى، يلعب في حقله وينقب في منجمه، وكل ما تلمسه نبرته ينقلب إلى فن شخصي.
عبارة عباس بيضون تواصل حياتها كأن «من يُبطل (هذه العبارة) لم يولد بعد» كما يقول هو في الكتاب.

الحياة
2005/03/15

رجوع