يتوقف قارئ رواية "تحليل دم" لعباس بيضون عند عنوانها، ويسأل عن دلالته، فتبدو له، بداية، ثنائية تتمثل في طرفين: أولهما تحليل دم - الرواية التي بين يديه، وثانيهما تحليل دم - التقرير المخبري الذي يعتمده الطبيب في تشخيص الحالة المرضية، مما يثير في ذهنه اسئلةً عن طبيعة العلاقة بين طرفي هذه الثنائية، وعما اذا كان الكاتب يقيم مجازاً - الطرف الأول ذا مرجع - الطرف الثاني، كما يسأل عن المقصود بـ"دم" في الزاوية، اي ما هي مادة التحليل؟ ثمَّ لِمَ القصد الى وضع شَدّة ( ّ) خالية من الحركة على حرف الميم.
تبقى هذه الاسئلة في ذهن القارئ، وتخطر له اجوبة لا يعلنها، ويباشر في قراءة الرواية علّه يجد فيها ما يرجِّح هذه الاجابة او تلك، او ما يقدم اجابة جديدة، ولا يلبث ان يجد في الرواية اشارات مباشرة ذات دلالة، فيقرأ، على سبيل المثال، قول الراوي عن رؤية وصفية الى والدها علي شرف: "(...) تشعر مثلهم ان لا شيء يخفاه (...)، لا يحتاج علي شرف الى ان يسمعها. انه يقرأ دمها. يقرأ دم الآخرين (...) تشعر صفية ويشعر عمي ان لا شيء يفوت علي شرف" (ص89). تتمثل الاشارة، هنا، في قراءة علي شرف لـ"دمها ودم الآخرين"، في كونه قادراً على معرفة كل شيء: لا شيء يخفى عليه، ولا شيء يفوته...
نلاحظ، أولاً، ان الكاتب تحدَّث عن قراءة دمها ودم الآخرين، اي عن معرفة هذا الدم، وانه استخدم، ثانياً في عنوان الرواية "تحليل دم" وليس قراءة، فهل يعني ذلك انه يريد ان يقدم في روايته معرفة اكثر عمقاً ودقة وعلمية من المعرفة التي تقدمها القراءة؟
لكن سؤالاً يثار هنا: طالما ان للدم المقصود هنا لغة تُقرأ وتُحلّل فما هو الدم؟ يعثر القارئ في الرواية على اشارتين قد تجيبان عن هذا السؤال، فضلاً عن تعزيزهما ما ذكرناه آنفاً، وهما: "(...) فهي ليست لبنانية، ولا مغربية، ولا سنغالية، ولا فرنسية، وليست لها لغة دم ولا لغة شارع (...)" (ص72)، "(...) كنت اظنني اشبه ابي، لكني اعثر كلما تقدمت على عمي في دمي" (ص53). فهل يفهم من هاتين الاشارتين ان الدم المقصود هنا، والذي سيقدِّم الكاتب قراءة له وتحليلاً هو الجنسية والهوية او حقيقتهما وجوهرهما؟ وهل ان محلل الدم سيقدم معرفةً بعالم الرواية تفوق المعرفة التي يقدمها قارئ لا يخفى عليه شيء ولا يفوته شيء او تساويها على الأقل؟
قد يكون صواباً القول: ان الكاتب وهو يعلن تنيجة عمله ويسمّيه "تحليل دم" - وقد عرفنا ما يعنيه بذذلك - يقول: انه سيقدم تلك المعرفة فيحلل الدم ويكشف جوهر العالم الذي يرى اليه ويتبين حقيقته كما يكشف محلل الدم في مختبره جوهر الدم وحقيقته.
والاسئلة التي تطرح في هذا المقام: كيف تتمثل هذه المعرفة روائياً؟ وما هي خصائص البناء الروائي الذي يمثله؟ وما هي الرؤية التي تنطق بها؟
في محاولة للاجابة عن هذه الاسئلة نعود الى الرواية لنقرأها، ونقدِّم معرفة بها فتكون قراءتنا قراءةً في تحليل لا يخفى عليه شيء ولا يفوته شيء...
يوكل الكاتب القصّ الى شخصية من شخصيات الرواية هي الابن، الرجل الوحيد الباقي من ثلاثة اجيال. يبدأ الابن (الراوي) القص، كما يفهم من الفقرة الاولى، بعد عشرين عاماً من وفاة عمه وبعد وفاة ابيه في الخريف، ولا يحدد زمن القصّ وان كان يفهم من الجلوس في الفناء انه اواخر الربيع او الصيف، وبعد وفاة اخيه في حادث وعودة كل من عمته وصفية (كانت خطيبة عمه) من دكار حيث كان يقيم عمه مذ هاجر من لبنان.
يتوالى القصّ فقرات، يفصل بين الفقرة والفقرة بياض، ولعل وجود هذا الفصل يعود الى عدم وجود اي رابط بين الفقرتين، مهما يكن نوعه، سواء أكان سببياً او زمنياً أم محفّزاً لغوياً او منطقياً او بنائياً. ومسار الفقرات - الاحداث انما تشكله ارادة الراوي غير المسوِّغة روائياً، فيحدد البياض نهاية فقرة وبداية فقرة اخرى، ويعني ذلك ان البياض موظف، ويعني ايضاً ان لا مسار يتحرك الى التشكل في بناء بفعل عوامل داخلية. ويتضح لنا ذلك ان تتبعنا جزءاً من حركة هذا المسار، أي جزءاً من خطة: "يتحدثون في فناء بيت الراوي... - يتوفى العم... - يلتقي الراوي صفيّة في بيتهم... - يستحلب الاب عينيه... - يلتقون في بيت صفية ويتحدثون... - تتوفى ام والده... - يُضرب الحداد على بيتهم لوفاة عمه... - يتغيّر عمه... يأخذ صفية الى السينما... - يتغير كل شيء بين والده وعمه، الخ.
ان تتبع هذا الخط يفيد بأنه يتحرك بفعل ارادة الراوي الذي يهيمن فيشكل المسار الروائي من دون تسويغ مهما يكن نوعه سوى ارادته، والذي يهيمن ايضاً فيثقل المسار بالتعليق ووالتحديث والاستطراد واجراء المقارنات.
توافرت للراوي، وهو الاداة التي اوكل اليها الكاتب القصّ، شروط ان يكون الراوي المشارك والشاهد في آن واحد. وتوافرت له فرص امتلاك وسائط تحصيل المعرفة الروائية، فعمّته عادت وصفية التي كانت خطيبة عمه عادت ايضاً، وكذلك موسى شريك عمه عاد واتصل به. وكان ممكناً ان يفيد من هذه الوسائط، ويوفر لها فرص القول فتتعدد الاصوات في الرواية وتتنوع وجهات النظر وزوايا الرؤية، وهذه من مزايا القصة الحديثة، لكن الراوي، وهو الابن هنا، ادى دوراً آخر دور الراوي العليم المحلل الذي يعرف كل شيء وان كان موقعه لا يتيح له ذلك، وان كان لا يستخدم وسائط تتيح له هذه المعرفة.
يهيمن الراوي فيسوق الاحداث كيفما يريد من دون تسويغ روائي، في رأينا، مما يجعل الرواية تفتقر الى البناء الروائي، أي البناء الذي تشكله وحدات سردية تتحرك في مسارها بفعل محرِّك سردي تلقائي داخلي، ويسم العلاقة التي تجمع بين الوحدات هي علاقة المجاورة التي ارتآها الراوي، فالقارئ يستطيع ان يغير في ترتيب امكنة الفقرات من دون احداث اي خلل، اذ ليس من نظام محكوم بمبدأ، لذا امكانات تشكيل النظام قائمة، فالوحدات المتجاورة، او التي لا يجمع بينها سوى المجاورة، اقرب الى المواد الاولية المجموعة ليقام فيها بناء روائي منها على نظام روائي ينطق بدلالة كلية، مما يعني انها منجزة على مستوى القصة، وتحتاج الى ان تنجز على مستوى الخطاب المنطلق من منظار والناطق بروية.
قد يكون مفيداً ان نسأل: لمَ كان هذا؟ هل يعود الأمر الى ان الكاتب لا يمتلك ادوات اقامة البناء الروائي او الى انه يرغب في الاستحواذ على العالم الذي يشكله، فيندمج بالراوي الذي يوكل اليه القصّ ويصادر موقعه ويتولى دوره؟
يفيد النص بأن كاتبه لم يستخدم الادوات اللازمة والكافية لبناء رواية حديثة، ولا نعرف ان كان يملك هذه الادوات أم لا، فهذا ليس شأن هذه المقالة المنطلقة من النص. ويفيد النص، ايضاً بأنه مكتنز بأقوال الراوي: تعليقات وتحليلات ونصائح ومعلومات وسواها، ويفيدنا ذلك بأنه يستحوذ على العالم الروائي. ويفيد النص كذلك بأن الراوي يستحوذ على اداء مختلف عناصر القص، فيصوغ اقوال الشخصيات ويلخّصها ويقدمها موجزة، مما يلغي الحوار ويعلّق عليها ويحلل ويلغي دور المتلقي ويجعله يشعر بأنه قاصر، وعليه ان يتلقى ليس الحدث فحسب، بل القول ايضاً والتعليق عليهما كذلك.
وفي ما يأتي نقدم نموذجاً دالاً على ما نذهب اليه، في الفقرة الاولى من الرواية: "قالت المرأة وهي تتأملني، انني اشبه عمي، وكنت اشعر انها لم تقل هذا الا لأنها لم تعد تتذكره جيداً، فقد تعلمت من الجميع انني اشبه امي، وكان هذا وحده مدعاة لاكراه وجهي... تحدثت معي ومع امي، ولم تقل كلمة واحدة عن عمي" (ص8).
يلاحظ، في هذا النموذج ان الراوي تولّى صوغ ما قالته المرأة، ومفاده قولها انه يشبه عمه، وعلّق على ذلك وفسّره، ثم تولى الاخبار ان حديثاً تم ولم تذكر فيه المرأة عمه، مما الغى الحوار، واوقع الراوي في الخطأ، فالمرأة أتت على ذكر عمّه وشبهته به. وقد يكون مفيداً الاشارة الى لغة هذه الرواية كما يدلّ عليها هذا النموذج. ففي هذه الجمل القليلة نلاحظ جعل فعل "شعر" متعدياً، وعدم الدقّة في استخدام فعل "تعلّمت"، فهل عرف من المحيطين به انه يشبه أمه على سبيل التعليم، وادخال حرف الجر على فعل "أكره".
ولا يكتفي الراوي، في حالات كثيرة، بصوغ قول الشخصية او اختصاره او الاخبار عنه، وانما يعلق عليه ويفسّره، ومن نماذج ذلك نذكر: "قالت امي، ان ابي كلما نام الجميع يجلس ويجأر بالبكاء كالثور، لم اره مرة كذلك"، ثم يذكر أقوالاً لأمه وتأثيرها فيه. ثم يعلّق "حين قالت عن ابي انه يجأر كالثور استفظعت ما قالت. لم اصدِّق. لكن الصورة ركبت مخيلتي. تسلّط خوار الثور الكريه على هيئة والدي (...)". ثم يحلّل: "(...) للمسخ قوة غير عادية. انه يجعل صورنا مقلقة لدرجة لا نملك فيها ان نفكر بأنفسنا دون رعب، وكأنها نوع من الكراهة لم ننتبه له من قبل ضد اشخاص نحسب اننا نحبهم" (ص10 و11).
نرى ان ما نقرأه يقدِّم، انطلاقاً من وقائع ما، معرفة مباشرة، القصّ يقدّم معرفة ادبية يُترك للقارئ ان يتبيّنها، ويخطر لنا ان هذا النوع من الكتابة تحقيق صحافي، لكننا نرى ان التحقيق الصحافي الناجح يترك للوقائع ان تقول، مثلما تترك الرواية للقصّ ان يقول، فنسأل: ما هو نوع هذه الكتابة اذن؟
قد نرى ان هذا العمل يتّصف بخصائص اتصفت بها القصة التي يستخدمها الراوي لتقديم معرفة مباشرة، سواء استدعى السياق تلك المعرفة ام لم يستدعها (راجع ص،12 "ان لا نبكي وان لا نعرق" وص40 "الرائحة (...)" مثلاً). ويخطر لنا، هنا تشبيه معروف طرفاه ركاب الحافلة وقرّاء الرواية. يقول صاحبه: في القصة القديمة، كان السائق يسدل الستائر، ويصف للركاب ما يشاهده ويعلّق ويستعرض معلوماته ويتباهى بتحليلاته، الخ. اما في القصة الحديثة فترفع الستائر، ويترك لكل راكب ان يرى الاشياء من موقعه ومنظاره،... وان يكن هذا التعدد والتنوع في فضاء مفتوح مُضاء مظهراً من مظاهر الحداثة، فان هيمنة الراوي واستحواذه مظهراً من مظاهر القدامة، نلحظ هذا في خصائص النص، ولا يغيّر منه ان كاتب النص يدعو الى حداثة او الى ما بعدها، فظاهرة الازدواج - الانفصام بين القول والفعل ملحوظة على غير مستوى في عالمنا.
وتلاحظ القدامة في خصائص عنصر آخر من عناصر هذه الرواية، فالشخصيات تنتمي، في خصائصها ومسار سعيها، الى عالم الحكاية، فالعم، مثلاً، سمين جداً، أكول، كيس لحم، برميل لحم، كسول، ينام غالباً، والذباب ينخر مقلتيه وشفتيه... ثم تحدث المعجزة، فنراه قادراً على تعلم الصناعات جميعها، وكان في وسعه ان يفعل أي شيء لمجرد ان يرى غيره يفعله وصار حلاقاً بمراقبته للحلاق، وخياطاً في اسبوع، ونجاراً بالسليقة... كان "جنّ شغل، معجزة صنعة"، "لم يكن ساحراً لكن كالسحر" (راجع ص46 و47 مثلاً). ثم تحدث المعجزة، فهذا الرجل الذي كان كالساحر يعجز في افريقيا، فيأتي موسى، وبمعجزة خارقة، يحل المشكلات جميعها... ان العم كما تقدّمه الرواية شخصية حكائية اراد لها الراوي ان تكون هكذا، فكانت. والطريف ان هذا العم الذي غدا خياطاً في اسبوع، عاد وتعلم الخياطة بأن "فتق بذلته". ورأى كيف تتم خياطتها، وتعلم ذلك في ليلة واحدة، وغدا خياط الأثرياء، ثم خياط الحاكم، ويعود هذا الى ان الراوي نسي ان عمه غدا خياطاً في اسبوع قبل ان يسافر. وفي مقابل العم السمين المتغير المتحوّل بفعل ارادة من خارج نظام علاقات الراوية، أي بمعجزة يصنعها الراوي، نجد الأب الفحيل، القزم المهزول، الجافّ، الذي عرف منذ أن عمل معلماً ابتدائياً ان شيئاً آخر لن يحصل، الى ان توفّى شيء من حياته... شخصية الأب، ايضاً، شخصية حكائية اراد لها الراوي ان تكون هكذا، فهل يُعقل ان تبقى شخصية انسان ما من دون تغيير طوال حياته. قد يخطر لنا ان الراوي يريد ان يقيم ثنائية ضدّية من شخصيتي الأب والعم. والشخصية الساحرة هي الغاوي، فهذا تتجه اليه النساء من تلقائهن من دون ان يحرّك ساكناً، فهل يمثل الغاوي حلماً يريد له الراوي ان يتحقق واقعاً. اما علي شرف فشخصية غريبة عجيبة تمثل حلماً آخر للانسان الراغب في الثراء والسخرية من المجتمع والسيطرة عليه. والملاحظ، علاوة على ان صفات هذه الشخصيات وتصرفاتها، مسقطة من خارج علاقات عالم الراوية، فَقْد هذا العالم للعنصر الانساني وافتقاره الى القيم، فالأم تكره الأب وترغب في مسخه ثوراً يجأر بالبكاء، والاب جاف لا يتغير، والعم تسوقه غريزته لا يعنى الا بإروائها، وعلي شرف يسوقه مزاجه الغريب والفظيع ومصالحه...
ويلاحظ ان الراوي المهيمن يكثر من التعليقات والتحليلات الذهنية، والغريب انه يحلل ذهنية ويقدم مشاهد أبعد ما تكون عن ذلك (راجع مثلاً ص65 و،66 اتصاله الجسدي بصفته). وتلاحظ في هذه التعليقات عبارات يراد لها ان تشكّل مفارقات مدهشة، لكنها لا تعدو كونها حذلقات لغوية غدت كيليشيهات لكثرة ما ردّدت في كتابات كتّاب آخرين لا نجد حاجة الى ذكر اسمائهم لأنهم معروفون، ومن نماذج ذلك نذكر: "كلما تقدم في العمر صار اشبه بنفسه"، "الصور القديمة تتشابه بقدر ما لا تعود تشبه نفسها"، و"حصل كل شيء كأنه لم يحصل"، "فكّرت ولم أدرِ حقاً بماذا أفكِّر".
ويمكن القول، استناداً الى ما سبق من ملاحظات، اننا لمسنا في هذا العمل، من نحو أول، خصائص الحكاية او القصة في زمن القدامة، ومن نحوٍ ثان خصائص التحليل - وليس التحقيق الصحافي المكتبي الذهنيّ المؤدّى بلغة لا تخلو من تعقيد ومغالطات. فهل هذا هو "تحليل دم" كما تبيّنا دلالاته في بداية هذه المقالة؟
النهار
الثلثاء 3 كانون الأول 2002
رجوع