غسان علم الدين
(لبنان)

شجرة تشبه حطاباًثمة سيمياء ملتبسة يحملها عنوان كتاب الشاعر عباس بيضون «شجرة تشبه حطاباً». ولعل شفافية الاشارة المنطوية على معنى انصهاري حلولي تحيلنا الى الوقوف على جرح انساني مفتوح منذ الازل. إذ ينقاد على متن جمالي احيائي زاوج بين الانسان والشجرة في المفهوم الانثروبولوجي. وعلى هذا ـ او في الاقل ـ على شيء منه يبني جيلبير ديرون جزءاً من نظريته القائلة: «الشجرة أكثر الكائنات شبهاً بالإنسان». ويرى بعض المتصوفة المسلمين أن «النخلة عمّتنا، حفنة طين متبقية بعدما خلق الله آدم، خلقها بها»، وعليه ايضاً فإن اكثر الناس شبهاً بالشجرة هو الحطاب، بحكم العلاقة المسنونة بينهما. إذ انه لم يصبح إنساناً الا حين وقع تحت اغراء ثمرة الشجرة. او على الارجح فإن الشجرة هنا تشبه قاتلها، او ربما هي القاتل الذي يشبه عاشقه في ثنائية رمزية للحياة والتجدد والنضار. فالكلمات لدى بيضون تعني ثمار الشجرة، وصمتها انقطاعها عن الثمرات يعني الموت. ويتضح ذلك في تضاعيف قصيدته: «انا وانت دم الأخوين في الشجرة التي هواء/ أنت وأنا في الشجرة التي هي سبب قاتل».
جديد عباس بيضون الصادر عن «دار الآداب» ينطلق من محاور كثيرة، اهمها الخاص الشعري الذي تميّز به على مدى ما يزيد على الربع قرن. والشعري المقترن باليومي غالباً ما يقع في الواقعي، الذي ينكر عليه رولان بارت إبداعه ويمقته، واصفاً إياه ان «كل واقعي هو ذاتي مقنّع». إلا ان هذا القول لا يطال بيضون، لا من قريب ولا من بعيد، وهذا اسلوبه ولعبته الخطرة، الذي يراودك فيوقعك، ويظل بعيداً متبرئاً منك.
قارئ بيضون، متتبع تجربته، يعرف ان المهزول اللغوي البسيط صار طريقة الشاعر ومشروعه غير البريء. إنه مشروع مهموم بالنص المرتبط بمرجعية الافكار المطروحة في تجربته نفسها، بانحياز قاس الى ما يعتبره قادراً على استيعاب قصيدته الغنية المتنوعة. مساحة ممتلئة مربعات ودوائر، تلك التي تفتح عليها جملة عباس، فتنفجر اسئلة بأصداء تعكس غنائية مهموسة على ايقاع نفسي وصوتي في درجة من التفاعل، نلمس معها تقنية خاصة، لبلوغ ذروة انشاء ممتعة جوالة على الألم: «الحياة بائع حب ومن الافضل ان لا ننتظر/ لنلعب على شيء، على ليتر الدم الذي لن يبقى لنا/ لنلعب، فهكذا نلقي الحظ من النافذة/ قبل ان يغدو رقمنا الاسود».
القصيدة الاكثر تصويراً للمناخ العام الذي انطبعت فيه المجموعة والتي تعبّر عن الهاجس الانساني المنصاع الى فكرة التخلص من الحياة هي قصيدة «لا احد في بيت السيكلوب»، إذ انها قصيدة ذات ابعاد متعددة الثنائيات، اهمها «عزلة الفرد». ويلاحظ القارئ تركيز الشاعر على هذه الثنائية في الاهداء «الى زاد وابن اختي» الشاب الذي قضى منتحراً، الامر الذي يعكس جراحاً وتقاطعات كثيرة بينهما. ويحاول تعرية هذه الفكرة احادية الجانب عبر سباقات وتراكيب تفككها وتضعها على طاولة التشريح رمزاً للاجدوى والخسران المجاني. فتبسيط طرق تناول انتحار زاد هي بحد ذاتها إحالات شعرية وجدانية، مشبعة بدراماتيكية تكشف عن مأزق وجودي تعبيري كبير. إذ يتحول المتجه للانتحار الى ما يشبه السيكلوب ذي العين الواحدة، التي تُفقأ ايضاً وهي صلته الوحيدة بالعالم. وفي الفكرة ايضاً دلالات كثيرة اهمها ما يأخذنا الى احياء التماثل الحاصل بين موت زاد الملتبس، والواقعي في آن واحد، وهو ما يؤجج العلاقة بين النص وفعاليته الجمالية، وبين الموت المتوهم للسيكلوب هذا الكائن الخُرافي الرافض الاعتراف بالموت: «اللاشيء التام يدويّ، من دون ان يُسمع في صَبَّات الرؤوس المنحنية/،... الصمت الكبير يهزأ غالباً من نفسه، ومن النواة الجوفاء التي لا يستطيع ان يلفظها/ إذ يمكن ان نعثر على رأس للاشيء، او نبش شيء صريح وقاطع من تلك البلاهة الصامتة».
لم ينقطع عباس بيضون عبر اكثر من اثنتي عشرة مجموعة شعرية عن كتابة قصيدتين او ثلاث قصائد تختزل الرؤيا والدراما والتجريد الكوني الاشراقي. ولعل اهم ما يميز كتاباته التفاصيل. وقد سعى الى ترسيخ هذا النوع من الكتابة تنظيراً وممارسة عبر حرصه على الجديد من التحولات، ان لجهة استخدام المفردات، او لجهة الشكل والتقنيات التي يطمح اليها الشعر. وقد لاحظ الكثير من النقاد الرومانتيكيين منهم والمتحدثين ان يضطلع الشاعر بضرورة «تجديد الشعر عبر العصور» فرأى شيلي وهو من الرومانتيكيين ان الشاعر هو: «الكاهن والرائي والمشرّع والفيلسوف». ويرى غارودي انه «صاحب العين التي تجول الارض وتلتهم دروب العالم». ونلاحظ الاصرار لدى بيضون على الذهاب خلف تلك الاشكاليات والتأكيد عليها مواضيع ومقولات وتناصات في الرؤية المبطن منها والمعلن على حد سواء.
ثمة نقاط التقاء كثيرة في «شجرة تشبه حطاباً» لا تقع في الميتافيزيقي ولا في السياسي الفكري، لكنها تنزع بشكل لافت الى اساليب الكثافة التعبيرية. وهي نقاط تجعلنا نعثر على اشكال كتابية متعددة، تتصل بعملية اطلاق وسائل فاعلة في دينامية الانتقال بين ومن والى الحالات الكبرى في الشعرية.
فالنظر الى قيمة تدمير الحلم وتغريب الانسان وحرمانه من ماء الحياة والكلام، وبين الفكرة النازعة الى كشف القناع عن السلوك لدى الافراد المعزولين يجعلنا نلمس فكرة عالية الحساسية لتخصيب خشونة المعنى وتقريب مفهوم الصمت في نفس الكائن المهزوم. اذ يرى بيضون ان الكائن الجديد في زمن وحضارة ذات قيم فكرية وفنية جمالية جديدة هي الهدف: «إذ ينبغي ان نعثر على الصمت في الصمت / على فراغة الرصاصة في الجمجمة الثقيلة / وعلى الدودة في عقدة الخشب / ما ارهق «ن» هو صمت الغرفة».
إن تراكم التجارب في بيئة ومكان وزمان واحباطات منها الشخصي والعام، سلوك يؤثر في نتاج الشاعر وانتقاء مفرداته، وفي علاقته الاساسية في بنيات التعبير. وهذا ما يحيلنا الى فهم جديد وعلاقة مركّبة بالعالم الحديث، وشدة دفع الانسان نحو عزلة اقسى واكثر الغاء.

رجوع