ما اختلت كآبة بمدينة إلا وكان الشاعر ثالثهما !!
أو قل المدائن عملات نقدية بوجهين لا ثالث لهما إلا يراعة شاعر غير محكوم بالأمل ؟
هنا بالضبط يصبح الشاعر ثالث اثنين ....
ما هو موقع الكآبة في كينونة الشعر ؟ هل تعتبر رؤية عامة أوهي حالة خاصة أو طارئة أو فكرة وامضة ؟! وإذا لم تكن كذلك فهل يمكن لها أن تكون اللغة بحد ذاتها التي يتقولب بها كل ما سلف من رؤى وأمزجة وأفكار ؟
الكآبة حاسة لغوية عند شعراء المدن بل إنها خارطتهم اللغوية ….
رغم تعذر التصنيف إلى حد المستحيل ..ولكن من قبيل نظرية ثالث اثنين !!
في التعامل مع الأمكنة ضمن السياق الشعري تكمن البصيرة اللغوية النفاذة لماهية تلك الأماكن في عدم استنساخ المتداول، أو التعاطي مع تعابير متأنقة لقارئ عابر كأنه سائح طارئ من نوع " bed and breakfast وهنا تكمن المعضلة! هذه اللغة لها خصوصيتها في البؤس الشفيف، ولها استيراتيجيتها في إعادة هيكلة الأمكنة على نحو يثير الفوضى في أبجدياتنا كلها، الفوضى التي تعيد اكتشاف الكتلة المكانية عامدة إلى ترتيب دقيق هو في حقيقة الأمر تشريح سيكولوجي تسبره عين شاعر من طراز خاص لأنه كئيب لا مكتئب ….
فمن يقع تحت تأثير الطقس العام لا كمن يؤثر على ذاك الطقس، وهنا تتجلى ميزة أن تكون كآبيا !
لا يحتاج السائح لشعر الجيب كي يعثر على ايفل او موعد حفلات المولن روج مثلا، ولكن قد يحتاجه من يبحث عن بودليرية باريس أو باريس بالمنظور البودليري، هنا تلزمه رحلة سياحية من نوع آخر غير متعارف عليه لدى شركات الطيران أو الإبحار عبر النفق الواصل بين عاصمة الضباب وعاصمة النور، يحتاج إلى صورة أشعة دقيقة تستجلي هشاشة الروح وزيف النيجاتيف الفوتوغرافي في التقاط ماوراء القشور ...
صورة فوق صوتية لأنها شعرية ، من صنيع شاعر مصاب بالوحدة بالعزلة بالسفر المحزون ..
الطريق لاتؤدي إلى باريس هذه المرة، ولا إلى برلين، وقد لا تؤدي أبدا إلى بيروت بعد ذلك !!
ليس لأنها مموهة بكآبات مختمرة – فعلى كل بوابة رقعة بكتيرية تدلك على خواص الماوراء – ولكن لأن أطول الأبواب في امبراطورية باء تلك هي بوابة بيروت ..
إلا أنك تسأل:أي بيروت التي تسافر إلى بائية بيضون هذه؟ وكثير من التسفار حلول !
هل هي بيروت التي حدثنا عنها آباؤنا الشعراء؟ أم تلك التي يتعارك بها الدم مع وريده " كما لو أن القتل هو أيضا طريقة للارتباط بصلة قرابة " حسب ماركيز ؟؟؟؟؟!!!!!!!!!!!!!!!!!!
في هذا البلد لا قوة للأساطير ... الأسوار تتداعى من طول أعمارها
الشيخوخة هنا فصل لا ينتهي ، الكوارث التي تقترب بأحجام كبيرة
تتثاءب ولا تحصل "!
هل تحس أن الشاعر قادم من جهة الموت ؟
هل يشدك إلى موته شعره ؟ أم مدائنه الشعرية بالأصح ؟
كل هذه الرحلة السياحية الجنائزية هي سياحة موت منذ :
الغيوم جرداء ....
وحتى :
الرذاذ يصلك ميتا لكنك تتنفسه
الزوال وحده يفكر الآن !!
ثم :
ولدت في صالة شاي
وأنا يتيم هذا الجسر !
دون إغفال أجمل إحساس موتي على الإطلاق في البائية :
لا نستطيع أن نفصل الغسيل الوسخ عن دموعنا
ولا أن ندع عرق الموتى في ملاءاتهم " !!
هذه الشعرية الغارقة بالأسى الكافر هي وثيقة موت بامتياز، وربما كنت تظن قبل ذلك أن الحطاب الذي يشبه أشجاره - فتستعير منه ما تشبهه – هو شاهد الموت الأخير، لتفاجئك الباءات الثلاث بأن للموت بقية مع متواليات بيضون !
وهذا ليس داعيا للتضاد مع لغة من هذا النوع، بل هو داع للتأمل، كلما سولت إليك مدينة ميتة بالشعروالغناء على طريقة كل باء...لذا فإنك لا تحتاج أن تجمع إتاوة السفر من قاطرات شبحية، فلست مضطرا أصلا إليه، مادمت شاعرا، وهذا وحده من أهم موبقات الإياب !! ثم أنك غير مضطر لكتابة وصاياك العشر أو المئة كلما همّ بك الرحيل أو هممت به فالميتون لا يعدون العدة للموت !
"تنفخ أسبوعك على الزجاج فلا تجد سوى شبح المترو "
هنا كل شيء هادئ و حكيم ومتزن وناضج وعقلاني منذ الشاعر والشعر إلى تمتمات الردى على عتبات الثلاثية إلى الجنون الذي تكاد لا تعثر عليه أبدا إلا على هيئة شيخ ملحد ووقور أو طفل هاجع في أتون ساكن !
في وقفة حميمة لعناية جابر في هواء طلق تحدثت عن بيضون من منطلق معرفة شخصية ومعاشرة شعرية ورفقة كلمات، تقرؤها فيتبادر إلى حبرك دمعة: على من يحنو الغرباء ؟
تغترب اللغة مرة بدواعي السفر ، وأخرى بدواعي المطر.. وذروة هذا الاغتراب تتجلى في الباء الوسطى :
" ما جدوى أن أسمع كلمة عربية في هذا المطر الذي يسمع بكل اللغات "
بين اللغة والذاكرة تتراوح رحلة برلين ، وشيء من الحب، لماذا يجيء الحب على هيئة عابرة وطرية وخاطفة لكنها آسرة بهذا الشكل؟
لماذا تقول للحب قف على قدميك إذ ترى بيضون يجيد مراقصته بعكازتين من شجو وشعر؟ إذن عليك أن تهدهد انتظاراتك فالجمال حسب هاملت: لا يوصل إلى العفة، حرفيا : "العفاف يجب أن يحرم الوصول إلى الجمال " أما تبعا لبيضون :
" الجمال يستمر طويلا بعد أن نتوقف عن انتظاره "
ولأن للشاعر عاريته الزرقاء في برودة فلماذا يغلي جسدك من حب لا يضطجع على سرير أوفيليا ؟
" نتعذب من أجل الرماد الكثيف الذي سال من شهوة لم تتحقق "
هل تخاف الحب عن مكر أو تتجنبه عن مقدرة، أم تسعى للهلاك به عن اطلاع تاريخي ؟
" علينا أن نرحل خارج الزمن لنسمع الصوت المخيف والهالك
للحب البشري"
في لعبة الحب والزمن يحضر هاملت مرة اخرى :" الحب يبدأه الزمن،الزمن ينال من شرارة الحب وضرامه "
ليس من قبيل ان الحب عند عباس بيضون هو حب على الطريقة الهاملتية إنما من قبيل استحضار الجمال والحب في سياق الزمن والتاريخ ...
الآن انظر كيف تحضر معه الذاكرة :
" الضوء المعكوس والمعلق ساهر كذاكرة لا تنام "
أنت لا تسير في العتمة لما تقوم المرايا بانعطافات حادة بالتخادع والتلاعب مع الضوء والظلال !
ولكن هذا ليس وضعا عاما بل قد يكون استثنائيا لأن " عمل الذاكرة الوحيد هو النسيان "
و " التذكر يتم بصعوبة تثير حنقا وربما يكون هذا سببا في عودة الأشباح إلى المدن "
هكذا يؤوب الراحلون إلى أمكنتهم الأولى " الذاكرة "، بل قل هكذا تستعيد المدائن ساكنيها وقد رحلوا ...
كلها ظروف هي في عرف النمط الشعري ظروف مكان ....
" بيروت كانت يوما جنة الله على الأرض "
ارتبطت بيروت – على اعتبار أنها ضرب من ضروب الحب - بالزمن كظرف وجودي يفيد انتهاء الحدث شعريا على الأقل، لذا فلبيروت ما لبيروت ولله ما كان منها أو ما انتهت إليه :
" لن يعو د هناك صراع مع الله على الجنة "
المدينة هنا لا تعيش في خدر الأبهة ، ولأنها تمثل أطلال السماء فلم تعد فردوسا منشودا بل مفقودا على ما يبدو :
" ليست مدينة السلام هنا ، فالفقر والبطالة والرغبة آلهة أيضا
ويمكن أن تكون هذه هي الحياة الخشبية المحطمة في العلاء "
ثم يختلي الشاعر بألمه الخاص وهو تحديدا " الفرق الذي لا يلحظه أحد " وتبعا لكل ما طرأ على الوضع اللبناني مؤخرا وما استجد من متغيرات فإن تساؤلا تثيره حول طبيعة هذا الألم الذي ينعزل بأصحابه عن غيرهم ثم يفترق بهم عن سواهم ، لا يصح أن يكون استفهاميا بل يجب أن يبدو استنكاريا خاصة وأن التعجب يتضاعف إذ يدهشك أنه ليس من السهل استجلاء ألم أحال بيروت إلى دار عبادة لمومياءات صنمية ؟؟؟؟؟
"الصيف كان عامرا ، هذا الذي غدت فيه الصور صغيرة ومعروضة فقط في الأيدي ..آلهتنا الصغيرة مومياءاتنا باتت في الجيوب وحدها"..
ولأن السياسة في لبنان كالخبز والهواء من ضرورات الموت والبقاء معا فلا غرابة من سخرية حانقة :
" أي جوع تسببه للنفس هذه المحاولة المتجددة لاستنطاق رمزخشبي "
هذه الباء إذن ليست سويسرا المشرق العربي، بكل ما في الكلمة من مدلول على الرفاه والفرح الباذخ وخضرة الأرض والبحر والأفق، هذه الباء بائسة كأنها شخصية فقيرة تحت خط الحياة، تحدث عنها صاحب البؤساء برواية مهدت إليها في مرحلة لاحقة من بؤس المدن ....هذا البؤس الذي يتخذ صفة شرعية وربما دستورية ليحكم قبضته عليها :
" يتكلم فيها البؤس أحيانا كجندي وأحيانا كإله "
ورغم خصوصية ألمها إلا أن هذاهو بالضبط ما يتنقل بها عبر هواءات عدة :
" أسمعها تذاع في مكان آخر " حيث يحركها قدرها " المنافق " من رعب إلى آخر كأنها أرجوحة الآلهة !!
يعني في إحصائية شعرية إن جاز التعبير – كم يتبقى من الباء الثالثة بعد أن تنزاح عن جمالياتها مقدار ركلة قدر واحدة على كورنيش المنارة؟!
وهل أهل بيروت أدرى بشعابها أم شعراؤها؟! هل هم آتون من نسج أساطير الحالمين ؟ أم الحاقدين؟ أم القديسين أم الموتى الأوفياء ؟ هل هم خيالات مشتبكة ام كتلة واقعية لإيهام ملغوم بالحقيقة المرة ؟!
" نزداد شبها بأمور لاواقع لها "
هل مدينة صغيرة كوردة جورية في كف البحر لها سماءات كثيرة وآلهة يتناسلون كالنار لضرورات حربية ؟1
" لا يكفي أن نفكر بالسماء ، إننا نراها كغيمة كبيرة وسخة
من أعلى الجبل نعرف عندئذ ان الحرب لاتنتهي ونفهم لماذا نجد
القديسين بوفرة هذه الأيام "
وعودة للسؤال السابق : ماذا يتبقى من الباء الثالثة ؟
"الحروب المتروكة لا تترك كتبا ،والأثر الوحيد يتركه من يحاولون إزالتها "
وأيضا :
" الأغصان الصغيرة التي نتهاداها في أعياد الموتى إشارة لطيفة إلى غيابهم العزيز لكنها لطيفة وناعمة بحيث يمكن أن تنقل أسوأ النوايا "
بيروت بائية صعبة تعجن لغتها الخاصة ليست تلك التي تتأتى بالكآبة بل بشيء في صدر الشاعر يتماهى مع طبيعة أسطورية رافقت بيروت على مر العصور ولم تقتض منها مثالية دائمة بل مخادعة...ولا حرية اعتيادية بل سفاحة :
" هذه المدينة التي تقتل الغرباء أو تملكهم عليها "
الشعر مشعوذ سياسي ، وقديس يمارس طقوسه في حدائق معلقة بين جهنمين، لذا عليك أن تصلي للكلمات كي تدلك تعاويذ المعنى المكتوبة بالحبر السري وبخور الموتى ..................
رجوع